عمدة القاري ج١ ص١٠٤
January 03, 2019
Tags:
Hadis
المعتزلة ولم يدخل في الكفر بل وقع في مرتبة بينهما يسمونها منزلة بين المنزلتين وعند الخوارج دخل في الكفر لأن ترك كل واحدة من الطاعات كفر عندهم وعند السلف لم يخرج من الإيمان وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي وهذه أول مسألة نشأت في الاعتزال ونقل عن الشافعي أنه قال الإيمان هو التصديق والإقرار والعمل فالمخل بالأول وحده منافق وبالثاني وحده كافر وبالثالث وحده فاسق ينجو من الخلود في النار ويدخل الجنة قال الإمام هذا في غاية الصعوبة لأن العمل إذا كان ركنا لا يتحقق الإيمان بدونه فغير المؤمن كيف يخرج من النار ويدخل الجنة قلت قد أجيب عن هذا الإشكال بأن الإيمان في كلام الشارع قد جاء بمعنى أصل الإيمان وهو الذي لا يعتبر فيه كونه مقرونا بالعمل كما في قوله صلى الله عليه وسلم الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث والإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان الحديث وقد جاء بمعنى الإيمان الكامل وهو المقرون بالعمل كما في حديث وفد عبد القيس أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس والإيمان بهذا المعنى هو المراد بالإيمان المنفي في قوله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن الحديث وهكذا كل موضع جاء بمثله فالخلاف في المسألة لفظي لأنه راجع إلى تفسير الإيمان وأنه في أي المعنيين منقول شرعي وفي أيهما مجاز ولا خلاف في المعنى فإن الإيمان المنجي من دخول النار هو الثاني باتفاق جميع المسلمين والإيمان المنجي من الخلود في النار هو الأول باتفاق أهل السنة خلافًا للمعتزلة والخوارج ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان فالحاصل أن السلف والشافعي إنما جعلوا العمل ركنا من الإيمان بالمعنى الثاني دون الأول وحكموا مع فوات العمل ببقاء الإيمان بالمعنى الأول وبأنه ينجو من النار باعتبار وجوده وإن فات الثاني فبهذا يندفع الإشكال فإن قلت ما ماهية التصديق بالقلب قلت قال الإمام قولا حاصله أن المراد من التصديق الحكم الذهني بيان ذلك أن من قال أن العالم محدث ليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث بل حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا فالحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث له فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو الانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص به واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمرا واحدًا يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم فيكون المراد من التصديق هو هذا الحكم الذهني ويعلم من هذا الكلام أن المراد من التصديق ههنا هو التصديق المقابل للتصور واعترض عليه صدر الشريعة بأن ذلك غير كاف فإن بعض الكفار كانوا عالمين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} الآية وفرعون كان عالما برسالة موسى عليه السلام لقوله تعالى حكاية عن خطاب موسى عليه السلام له مشيرا إلى المعجزات التي أوتيها {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات} الآية ومع ذلك كانوا كافرين ولو كان ذلك كافيا لكانوا مؤمنين لأن من صدق بقلبه فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى والإقرار باللسان شرط إجراء الأحكام كما هو مروي عن أبي حنيفة وأصح الروايتين عن الأشعري بل المراد به معناه اللغوي وهو أن ينسب الصدق إلى المخبر اختيارا قال وإنما قيدنا بهذا لأنه إن وقع في القلب صدق المخبر ضرورة كما إذا ادعى النبي النبوة وأظهر المعجزة ووقع صدقه في قلب أحد ضرورة من غير أن ينسب الصدق إلى النبي صلى الله عليه وسلم اختيارا لا يقال في اللغة أنه صدقه فعلم أن المراد من التصديق إيقاع نسبة الصدق إلى المخبر اختيار الذي هو الكلام النفسي ويسمى عقد الإيمان والكفار العالمون برسالة الأنبياء عليهم السلام إنما لم يكونوا مؤمنين لأنهم كذبوا الرسل فهم كافرون لعدم التصديق لهم ولقائل أن يقول التصديق بالمعنى اللغوي عين التصديق المقابل للتصور لأن إيقاع نسبة الصدق إلى المخبر هو الحكم بثبوت الصدق له وهو عين هذا التصديق وإنما لم يكن الكفار العالمون برسالة الرسل مؤمنين مع حصول التصديق لهم لأن من أنكر منهم رسالتهم أبطل تصديقه القلبي تكذيبه اللساني ومن لم ينكرها أبطله بترك الإقرار اختيارا لأن الإقرار شرط إجراء الأحكام