عمدة القاري ج٣ ص٣٧ (3/158) (3/37)

بإسناده إلى سفيان، قال: وما أعرف من قرأ بذلك. وقال بعضهم: لعل الثوري رواه بالمعنى. قلت: لا يصح هذا أصلا، لأنه قلب كلام الله تعالى، والظاهر أنه سهو، أو وقع غلطا.

170 - حدثنا مالك بن إسماعيل قال حدثنا إسرائيل عن عاصم عن ابن سيرين قال قلت لعبيدة عندنا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس فقال لان تكون عندي شعرة منه أحب من الدنيا وما فيها.
(الحديث 170 طرفه في: 171)
الكلام فيه من وجوه: الأول في رجاله وهم خمسة: الأول: مالك بن إسماعيل، أبو غسان النهدي، الحافظ الحجة العابد، روى عنه مسلم والأربعة بواسطة، مات في سنة تسع عشرة ومائتين، وليس في الكتب الستة: مالك بن إسماعيل، سواه الثاني: إسرائيل ابن يونس، وقد تقدم. الثالث: عاصم بن سليمان الأحوال البصري الثقة الحافظ، مات سنة اثنتين وأربعين ومائة. الرابع: محمد بن سيرين وقد تقدم. الخامس: عبيدة، بفتح العين وكسر الباء الموحدة وفي آخره هاء: ابن عمرو، ويقال: ابن قيس بن عمرو السلماني، بفتح السين وسكون اللام: المرادي الكوفي، أسلم في حياة النبي، عليه الصلاة والسلام، ولم يلقه. وقال العجلي: هو كوفي تابعي ثقة جاهلي أسلم قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، وكان أعور؛ وقال سفيان بن عيينة: كان عبيدة يوازي شريحاً في العلم والقضاء، وقال ابن نمير: كان شريح إذا أشكل عليه الأمر كتب إلى عبيدة، روى له الجماعة، مات سنة اثنتين وسبعين وقيل: ثلاث.
الثاني في لطائف إسناده: منها: أن رواته ما بين بصري وكوفي. ومنها: أن فيه التحديث والعنعنة والقول. ومنها: أن فيه رواية التابعي عن التابعي.
الثالث: أخرجه الإسماعيلي، وفي روايته: أحب إلي من كل صفراء وبيضاء.
الرابع في معناه واعرابه. قوله: (عندنا من شعر النبي، عليه الصلاة والسلام) أي: عندنا شيء من شعر، ويحتمل أن تكون: من، للتبعيض، والتقدير: بعض شعر النبي، عليه الصلاة والسلام، فيكون: بعض، مبتدأ وقوله: عندنا، خبره. ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفاً أي: عندنا شيء من شعر النبي، عليه الصلاة والسلام، أو عندنا من شعر النبي، عليه السلام شيء. قوله: (اصبناه من قبل انس) أي: حصل لنا من جهة أنس ابن مالك، رضي الله عنه. وقوله: (أو) للتشكيك. قوله: (لأن تكون) ، اللام: فيه لام الابتداء للتأكيد، و: أن، مصدرية، و: تكون، ناقصة، ويحتمل أن تكون تامة، والتقدير: كون شعرة عند من شعر النبي، عليه الصلاة والسلام أحب إلي من الدنيا وما فيها من متاعها.
الخامس في حكم المستنبط منه: وهو أنه لما جاز أتخاذ شعر النبي، عليه الصلاة والسلام، والتبرك به لطارته ونظافته، دل على أن مطلق الشعر طاهر، ألا تى أن خالد بن الوليد، رضي الله عنه، جعل في قلنسوته من شعر رسول الله، عليه السلام، فكان يدخل بها في الحرب ويستنصر ببركته، فسقطت عنه يوم اليمامة، فاشتد عليها شدة، وأنكر عليه الصحابة، فقال: إني لم افعل ذلك لقيمة القلنسوة. لكن كرهت أن تقع بأيدي المشركين وفيها من شعر النبي، عليه الصلاة والسلام. ثم إن البخاري استدل به على أن الشعر طاهر وإلا لما حفظوه، ولا تمنى عبيدة أن تكون عنده شعرة واحدة منه، وإذا كان طاهرا فالماء الذي يغسل به طاهر، وهو مطابق لترجمة الباب، ولما وضعه البخاري في الماء الذي يغسل به شعر الإنسان ذكر هذا الأثر مطابقاً للترجمة، ودليلاً لما ادعاه، ثم ذكر حديثا آخر مرفوعا على ما يأتي الآن.

171 - حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال أخبرنا سعيد بن سليمان قال حدثنا عباد عن ابن عون عن ابن سيرين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره.
(انظر الحديث: 170)
هذا هو الدليل الثاني لما ادعاه البخاري من طهارة الشعر، وطهارة الماء الذي يغسل به، المطابق للترجمة الأولى، وهي قوله: (طهارة الماء الذي يغسل به شعر الانسان) .
بيان رجاله: وهم سبعة. الأول: محمد بن عبد الرحيم صاعقة، تقدم. الثاني: سعيد بن سليمان الضبي البزار أبو عثمان سعدويه الحافظ الواسطي، روى عنه البخاري وأبو داود، حج ستين حجة، مات سنة خمس وعشرين ومائتين عن مائة سنة. الثالث: عباد، بتشديد الباء الموحدة: هو ابن العوام الواسطي، أبو سهل،
(3/37)
مات سنة خمس وثمانين ومائة، ثقة صدوق، عن أحمد أنه مضطرب الحديث. وقال محمد بن سعد: كان يتشيع، فأخذه هارون فحبسه زمانا ثم خلى عنه، وأقام ببغداد. الرابع: ابن عون، بفتح الغين المهملة وفي آخر نون: هو عبد الله بن عون، تابعي سيد قراء زمانه، وقد تقدم في باب قول النبي، عليه الصلاة والسلام، رب مبلغ. الخامس: محمد بن سيرين، وقد تكرر ذكره. السادس: أنس بن مالك، رضي الله عنه. السابع: أبو طلحة الأنصاري، زوج أم سليم، والدة أنس، رضي الله عنه. واسم ابي طلحة: زيد بن سهل بن الأسود النجاري، شهد العقبة وبدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله، عليه الصلاة والسلام، مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وصلى عليه عثمان بن عفان.
بيان لطائف اسناده: منها: أن فيه التحديث والعنعنة. ومنها: أن رواته ما بين بغدادي، وهو شيخ البخاري، وواسطي وبصري. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي، فالأول عبد الله بن عون. وفي مسلم وللنسائي عبد الله بن عون بن أمير مصر، وليس في الكتب الستة غيرهما، ومع هذه اللطائف إسناده نازل، لان البخاري سمع من شيخ شيخه سعيد بن سليمان، بل سمع من ابن عاصم وغيره من أصحاب ابن عون، فيقع بينه وبين ابن عون واحد، وهنا بينه وبينه ثلاثة أنفس.
بيان من اخراجه غيره لم يخرجه أحد من الستة غيره بهذه العبارة وهذا السند، وهو أيضا أخرجه هنا في كتابه فقط، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه، ولفظه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الحلاق فحلق رأسه ودفع إلى ابي طلحة الشق الأيمن، ثم حلق الشق الآخر فأمره أن يقسمه بين الناس) . ورواه مسلم من طريق ابن عيينة عن هشام بن حسان عن ابن سيرين بلفظ: (لما رمى الجمرة ونحر نسكه ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال: إقسمه بين الناس) . وله من رواية حفص بن غياث عن هشام: (أنه قسم الأيمن فيمن يليه) ، وفي لفظ: (فوزعه بين الناس. الشعرة والشعرتين. وأعطي الأيسر أم سليم) . وفي لفظ: أبا طلحة. فإن قلت: في هذه الروايات تناقض ظاهر. قلت: لا تناقض، بل يجمع بينهما بأنه ناول أبا طلحة كلا من الشقين، فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره بين الناس وأما الايسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره، عليه الصلاة والسلام أيضا، زاد أحمد في رواية له: (لتجعله في طيبها) .
بيان استنباط الاحكام من الاحاديث المذكورة: الأول: أن فيه المواساة بين الأصحاب في العطية والهبة. الثاني: المواساة لا تستلزم المساواة. الثالث: فيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره. الرابع: فيه أن حلق الرأس سنة أو مستحبة اقتداء بفعله، عليه الصلاة والسلام. الخامس: فيه أن الشعر طاهر. السادس: أن فيه التبرك بشعر النبي، عليه الصلاة والسلام. السابع: أن فيه جواز اقتناء الشعر، فإن قلت: من كان الحالق لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قلت: اختلفوا فيه، قيل: هو خراش بن امية، وهو بكسر الخاء المعجمة وفي آخره شين معجمة أيضا. وقيل: معمر بن عبد الله، وهو الصحيح، وكان خراش هو الحالق بالحديبية.

172 - حدثنا عبد الله بن يوسف عن مالك عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً.
لما ذكر البخاري في هذا الباب حكمين ثانيهما في سؤر الكلب أتي بدليل من الخديث المرفوع وهو أيضا مطابق للترجمة بيان رجاله: وهم خمسة كلهم ذكروا غير مرة، ومالك هو ابن أنس، وأبو زناد، بكسر الزاي المعجمة بعدها النون، واسمه عبد الله بن ذكوان، والأعرج اسمه عبد الرحمن بن هرمز.
بيان لطائف اسناده: منها: أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة. ومنها: أن رواته كلهم أئمة أجلاء. ومنها: أن رواته ما بين تنيسي ومدني.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف. وأخرجه مسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه أيضا عن الحارث بن مسكين عن عبد الرحمن بن القاسم. وأخرجه النسائي فيه أيضا عن قتيبة. وأخرجه ابن ماجه أيضا عن محمد بن يحيى عن روح بن عبادة، خمستهم عن مالك به. وأخرجه مسلم أيضا من حديث الأعمش عن ابن رزين، وابي صالح عن ابي هريرة، بلفظ: (إذا ولغ) ، بدل: (شرب) ، ومن حديث
(3/38)
محمد بن سيرين عن أبي هريرة: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسله مرة واحدة) . وأخرجه أبو داود في الطهارة عن مسدد. وأخرجه الترمذي فيه عن سوار بن عبد الله العنبري، كلاهما عن معتمر بن سليمان به، ووقفه مسدد ورفعه سواه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال أبو داود: ذكر الهر موقوف. وقال البيهقي: مدرج.
بيان المعاني قوله: (إذا شرب الكلب) كذا هو في (الموطأ) ، والمشهور عن أبي هريرة من رواية جمهور اصحابه عنه: (إذا ولغ) ، وهو المعروف في اللغة. وقال الكرماني: ضمن شرب معنى ولغ، فعدي تعديته. يقال: ولغ الكلب من شرابنا، كما يقال: في شرابنا، ويقال: ولغ شرابنا أيضا. قلت: الشارع أفصح الفصحاء، وروي عنه: (شرب) ، و: (ولغ) ، لتقاربهما في المعنى، ولا حاجة إلى هذا التكلف. فان قلت: الشرب أخص من الولوغ فلا يقوم مقامه. قلت: لا نسلم عدم قيام الأخص مقام الأعم، لأن الخاص له دلالة على العام اللازم، كلفظ الإنسان له دلالة على مفهوم الحيوان بالتضمن، لأنه جزء مفهومه، وكذا له دلالة على مفهوم الماشي بالقوة بالالتزام، لكونه خارجا عن معنى الإنسان لازما له، فعلى هذا يجوز أن يذكر الشرب ويرادبه الولوغ. وادعى ابن عبد البر أن لفظة: شرب، لم يروه إلا مالك، وأن غيره رواه بلفظ ولغ، وليس كذلك، فقد رواه ابن خزيمة وابن المنذر من طريقين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن ابي هريرة بلفظ: (إذا شرب) ، لكن المشهور عن هشام بن حسان بلفظ: (إذا ولغ) ، كذا أخرجه مسلم وغيره من طريق عنه، وقد رواه عن ابي الزناد شيخ مالك بلفظ: (إذا شرب) ، وروي أيضا عن مالك بلفظ: (إذا ولغ) أخرجه أبو عبيد في (كتاب الطهور) له عن إسماعيل بن عمر عنه، ومن طريقه أورده الإسماعيلي، وكذا أخرجه الدارقطني في (الموطأ) له من طريق أبي علي الحنفي.
بيان استنباط الاحكام الأول: فيه دلالة على نجاسة الكلب، لأن الطهارة لا تكون إلا عن حدث أو نجس، والأول منتف فتعين الثاني، فإن قلت: استدل البخاري في هذا الباب المشتمل على الحكمين على الحكم الثاني وهو سؤر الكلب بالأثر الذي رواه عن الزهري والثوري، ثم استدل بهذا الحديث المرفوع، فما وجه دلالة هذا على ما ادعاه، والحال أن الحديث يدل على خلاف ما يقوله؟ قلت: أجاب عنه من ينصره ويتغالى فيه بأن سؤر الكلب طاهر، وأن الأمر بغسل الإناء سبعا من ولوغه أمر تعبدي، فلا يدل على نجاسته. قلت: هذا بعيد جدا، لأن دلالة ظاهر الحديث على خلاف ما ذكروه، على أنا، ولئن سلمنا أنه يحتمل أن يكون الامر لنجاسته، ويحتمل أن يكون للتعبد، ولكن رجح الأول ما رواه مسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) ، وروايته أيضا (إذا ولغ الكلب في إناء احدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات) ، ولو كان سؤره طاهرا لما أمر بإراقته، والذي قالوه نصرة للبخاري بغير ما يذكر عن المالكية. فان قلت: من قال إن البخاري ذهب إلى ما نسبوه له؟ قلت: قال ابن بطال في شرحه: ذكر البخاري أربعة أحاديث في الكلب، وغرضه من ذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره. أقول: كلام ابن بطال ليس بحجة، فلم، لا يجوز أن يكون غرضه بيان مذاهب الناس فبين في هذا الباب مسألتين: أولاهما الماء الذي يغسل به الشعر، والثانية: سؤر الكلاب؟ بل الظاهر هذا، والدليل عليه أنه قال في المسألة الثانية: وسؤر الكلاب، واقتصر على هذه اللفظة ولم يقل وطهارة سؤر الكلاب.
الثاني: فيه نجاسة الإناء، ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين الكلب البدوي والحضري لعموم اللفظ، وللمالكية فيه أربعة أقوال: طهارته، ونجاسته، وطهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره، والفرق بين الحضري والبدوي. وقال الرافعي في (شرحه الكبير) : وعند مالك لا يغسل في غير الولوغ، لأن الكلب طاهر عنده. والغسل من الولوغ تعبدي. وقال الخطابي: إذا ثبت أن لسانه الذي يتناول به الماء نجس، علم أن سائر أجزائه في النجاسة بمثابة لسانه، فأي جزء من بدنه مسه وجب تطهيره.
الثالث: فيه دليل على أن الماء النجس يجب تطهير الإناء منه.
الرابع: قال الكرماني: فيه دليل على تحريم بيع الكلب إذ كان نجس الذات، فصارت كسائر النجاسات. قلت: يجوز بيعه عند اصحابنا لأنه منتفع به حراسةً واصطياداً. قال الله تعالى {وما علمتم من الجوارح
(3/39)
مكلبين} (المائدة: 4) فإن قلت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، قلت: هذا كان في زمن كان النبي، عليه الصلاة والسلام، أمر فيه بقتل الكلاب، وكان الانتفاع بها يومئذ محرما، ثم بعد ذلك رخص في الانتفاع بها، وروى الطحاوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما، وقضى في كلب ماشية بكبش، وعنه عن عطاء: لا بأس بثمن الكلب، فهذا قول عطاء، رضي الله عنه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ثمن الكلب من السحت، وعنه عن ابن شهاب أنه إذا قتل الكلب المعلم فإنه تقوم قيمته فيغرمه الذي قتله، فهذا الزهري يقول هذا، وقد روي عن ابي بكر بن عبد الرحمن أن ثمن الكلب من السحت، وعنه عن مغيرة عن إبراهيم قال: لا بأس بثمن كلب الصيد، وروي عن مالك إجازة بيع كلب الصيد والزرع والماشية، ولا خلاف عنه أن من قتل كلب صيد أو ماشية فإنه يجب عليه قيمته، وعن عثمان، رضي الله عنه، أنه أجاز الكلب الضاري في المهر وجعل على قاتله عشرين من الإبل، ذكره أبو عمر في (التمهيد) [/ ح.
الخامس: استدلت به الشافعية على وجوب غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات، ولا فرق عندهم بين ولوغه وغيره، وبين بوله وروثه ودمه وعرقه ونحو ذلك، ولو ولغ كلاب أو كلب واحد مرات في إناء فيه ثلاثة أوجه: الصحيح: يكفي للجميع سبع مرات. والثاني: أنه يجب لكل واحد سبع. والثالث: أنه يكفي لولغات الكلب الواحد سبع، ويجب لكل كلب سبع، ولو وقعت نجاسة أخرى فيما ولغ فيه كفى عن الجميع سبع، ولو كانت نجاسة الكلب دمه فلم تزل عينه إلا بست غسلات مثلا، فهل يحسب ذلك ست غسلات أم غسلة واحدة أم لا يحسب من السبع أصلا؟ فيه أيضا ثلاثة أوجه أصحها واحدة، قال الكرماني: فإن قلت: ظاهر لفظ الحديث يدل على أنه لو كان الماء الذي في الإناء قلتين ولم تتغير أوصافه لكثرته كان الولوغ فيه منجساً أيضا، لكن الفقهاء لم يقولوا به. قلت: لا نسلم أن ظاهره دل عليه، إذ الغالب في أوانيهم أنها ما كانت تسع القلتين، فبلفظ الإناء خرج عنه قلتان وما فوقه. قلت: إذا كان الإناء يسع القلتين أو أكثر، فماذا يكون حكمه؟ والإناء لا يطلق إلا على ما لا يسع فيه إلا ما دون القلتين، واللفظ أعم من ذلك.
السادس: انه ورد في هذا الحديث (سبعا) أي: سبع مرات، وفي رواية: (سبع مرات أولاهن بالتراب) . وفي رواية: (أولاهن أو أخراهن) ، وفي رواية: (سبع مرات السابعة بتراب) ، وفي رواية: (سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب) . وقال النووي: وأما رواية: وغفروه الثامنة بالتراب، فمذهبنا ومذهب الجماهير، إذا المراد: إغسلوه سبعا واحدة منهن بتراب مع الماء، فكان التراب قائما مقام غسله، فسميت ثامنة. وقال بعضهم: خالف ظاهر هذا الحديث المالكية والحنفية، أما المالكية فلم يقولوا بالتتريب أصلا مع إيجابهم السبع على المشهور عندهم، وأجيب: عن ذلك بأن التتريب لم يقع في رواية مالك، على أن الأمر بالتسبيع عنده للندب لكون الكلب طاهرا عنده. فإن عورض بالرواية التي روى عنه أنه نجس أجيب بأن قاعدته أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فلا يجب التسبيع للنجاسة بل للتعبد، فإن عورض بما رواه مسلم عن ابي هريرة: (طهور إناء أحدكم) أجيب: بإن الطهارة تطلق على غير ذلك كما في {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} (التوبة: 103) و: (السواك مطهرة للفم) ، فإن عورض بأن اللفظ الشرعي إذا دار بين الحقيقة اللغوية والشرعية حملت على الشرعية إلا إذا قام دليل، أجيب: بأن ذلك عند عدم الدليل، وهنا يحتمل أن يكون من قبيل قوله، عليه الصلاة والسلام: (التيمم طهور المسلم) . وبعض المالكية قالوا: الأمر بالغسل من ولوغه في الكلب المنهي عن اتخاذه دون المأذون فيه، فإن عورض بعدم القرينة في ذلك، أجيب: بأن الأذن في مواضع جواز الاتخاذ قرينة، وبعضهم قالوا: إن ذلك مخصوص بالكلب الكلب، والحكمة فيه من جهة الطب، لأن الشارع اعتبر السبع في مواضع، منها قوله: (صبوا علي من سبع قرب) ، ومنها قوله: (من تصبح بسبع تمرات) ، فإن عورض بأن الكلب الكلب لا يقرب الماء، فكيف يأمر بالغسل من ولوغه؟ اجيب: بأنه لا يقرب بعد استحكام ذلك، اما في ابتدائه فلا يمتنع، فان عورض بمنع استلزام التخصيص بلا دليل، والتعليل بالتنجيس أولى، لأنه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب لأنه رجس، رواه محمد بن نضر المروزي بأسناد صحيح، ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه. أجيب: بأنه يحتمل أن يكون هذا الإطلاق مثل إطلاق الرجس على الميسر والانصاب.
واما الحنفية فلم يقولوا بوجوب السبع، ولا التتريب. قلت: لم يقولوا بذلك لأن أبا هريرة، رضي الله تعالى عنه، الذي روى السبع، روي عنه غسل الإناء مرة من ولوغ
(3/40)
الكلب ثلاثًا فعلا وقولاً مرفوعا وموقوفاً من طريقين: الأول: أخرجه الدارقطني بإسناد صحيح من حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه ثم اغسله ثلاث مرات) ، قال الشيخ تقي الدين في الإمام: هذا إسناد صحيح. الطريق الثاني: أخرجه ابن عدي في (الكامل) عن الحسين بن علي الكرابيسي، قال: حدثنا إسحاق الأزرق، حدثنا عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات) ، ثم أخرجه عن عمر بن شبة أيضا: حدثنا إسحاق الأزرق به موقوفا، ولم يرفعه غير الكرابيسي. قلت: قال البيهقي: تفرد به عبد الملك من أصحاب عطاء، ثم عطاء من أصحاب أبي هريرة والحفاظ الثقات من أصحاب عطاء وأصحاب ابي هريرة يروونه: سبع مرات، وفي ذلك دلالة على خطأ رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابي هريرة في الثلاث، وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف الثقات، ولمخالفته أهل الحفظ والثقة في بعض رواياته تركه شعبة بن الحجاج ولم يحتج به البخاري في (صحيحه) : قلت: عبد الملك أخرج له مسلم في صحيحه، وقال أحمد والثوري: هو من الحفاظ، وعن الثوري: هو ثقة فقيه متقن، وقال أحمد بن عبد الله: ثقة ثبت في الحديث، ويقال: كان الثوري يسميه الميزان. وأما الكرابيسي فقد قال: ابن عدي قال لنا: أحمد بن الحسن الكرابيسي يسأل منه والكرابيسي له كتب مصنفة ذكر فيها اختلاف الناس في المسائل وذكر فيها أخبارًا كثيرة، وكان حافظًا لها، ولم أجد له حديثا منكرا، والذي حمل عليه أحمد بن حنبل فإنما هو من أجل اللفظ بالقرآن. فأما في الحديث فلم أر به بأسا. واما الطحاوي فقال، بعد أن روى الموقوف عن عبد الملك بن ابي سليمان عن عطاء عن ابي هريرة: فثبت بذلك نسخ السبع لأن أبا هريرة هو راوي السبع، والراوي إذا عمل بخلاف روايته أو أفتى بخلافها لا يبقى حجة، لأن الصحابي لا يحل له أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ويفتي أو يعمل بخلافة إذ تسقط به عدالته، ولا تقبل روايته، وإنا نحسن الظن بأبي هريرة، فدل على نسخ ما رواه. وقد عارض هذا القائل بأن الحنفية خالفوا ظاهر هذا الحديث بقوله: يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاد ندبية السبع لا وجوبها، أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ، ورد بأن هذا إساءة الظن بابي هريرة، والاحتمال الناشىء من غير دليل لا يعتد به، وادعاء الطحاوي النسخ مبرهن بما رواه بإسناده عن ابن سيرين أنه كان إذا حدث عن ابي هريرة، فقيل له: عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كل حديث ابي هريرة عن النبي، عليه الصلاة والسلام، ثم قال الطحاوي: ولو وجب العمل برواية السبع ولا يجعل منسوخا لكان ما روي عن عبد الله بن مغفل في ذلك من النبي، عليه الصلاة والسلام، أولى مما رواه أبو هريرة، لأنه زاد عليه: (وعفروه الثامنة بالتراب) ، والزائد أولى من الناقص، وكان ينبغي لهذا المخالف أن يقول لا يطهر إلا بأن يغسل ثمان مرات الثامنة بالتراب، ليأخذ بالحديثين جميعًا. فإن ترك حديث ابن مغفل فقد لزمه ما لزمه خصمه في ترك السبع، ومع هذا لم يأخذ بالتعفير الثابت في الصحيح مطلقًا، قيل: إنه منسوخ.
فإن عارض هذا القائل بما قاله البيهقي بأن أبا هريرة أحفظ من روى في دهره، فروايته أولى. أجيب: بالمنع، بل رواية ابن المغفل أولى لأنه أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب، قال الحسن البصري: إلينا، يفقهون الناس، وهو من أصحاب الشجرة وهو أفقه من أبي هريرة، والأخذ بروايته أحوط، ولهذا ذهب إليه الحسن البصري، وحديثه هذا أخرجه ابن منده من طريق شعبة، وقال: اسناده مجمع على صحته، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وروي عن أبي هريرة: (إذا ولغ السنور في الإناء يغسل سبع مرات) ، ولم يعملوا به، فكل جواب لهم عن ذلك فهو جوابنا عما زاد على الثلاث، فإن عارض هذا القائل بأنه ثبت أن أبا هريرة افتى بالغسل سبعا، ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها، من حيث الإسناد ومن حيث النظر. اما النظر فظاهر، واما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن ابن سيرين عنه، وهذا من أصح الأسانيد. واما المخالفة فمن رواية عبد الملك ابن أبي سليمان عن عطاء عنه، وهو دون الأول في القوة بكثير. أجيب: بأن قوله ثبت أن أبا هريرة افتى بالغسل سبعا يحتاج إلى البيان، ومجرد الدعوى لا تسمع، ولئن سلمنا ذلك فقد يحتمل أن يكون فتواه بالسبع قبل ظهور النسخ عنده، فلما ظهر أفتى بالثلاث. وأما دعوى الرجحان فغير صحيحه، لا من حيث النظر ولا من حيث قوة الإسناد، لأن رجال كل منهما رجال الصحيح. كما بيناه عن قريب، وأما من حيث النظر فإن العذرة أشد في النجاسة من سؤر الكلب
(3/41)
ولم يعتد بالسبع، فيكون الولوغ من باب أولى.
وإن عارض هذا القائل بأنه لا يلزم من كونها أشد منه في الاستقذار أن لا تكون أشد منها في تغليظ الحكم. أجيب: بمنع عدم الملازمة، فإن تغليظ الحكم في ولوغ الكلب إما تعبدي وإما محمول على من غلب على ظنه أن نجاسة الولوغ لا تزول بأقل منها، وأما أنهم نهوا عن اتخاذه فلم ينتهوا فغلظ عليهم بذلك، وقال بعض أصحابنا: كان الأمر بالسبع عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نهى عن قتلها نسخ الامر بالغسل سبعا. وإن عارض هذا القائل بأن الأمر بالقتل كان في أوائل الهجرة، والأمر بالغسل متأخر جدا، لأن من رواية ابي هريرة وعبد الله بن مغفل، وكان إسلامهما سنة سبع. أجيب: بأن كون الأمر بقتل الكلام، في أوائل الهجرة يحتاج إلى دليل قطعي، ولئن سلمنا ذلك فكان يمكن أن يكون أبو هريرة قد سمع ذلك من صحابي أنه أخبره أن النبي، عليه الصلاة والسلام، لما نهى عن قتل الكلاب نسخ الأمر بالغسل سبعا من غير تأخير، فرواه أبو هريرة عن النبي، عليه الصلاة والسلام، لاعتماده على صدق المروي عنه، لأن الصحابة كلهم عدول، وكذلك عبد الله بن المغفل، وقال بعض أصحابنا: عملت الشافعية بحديث أبي هريرة وتركوا العمل بحديث ابن المغفل، وكان يلزمهم العمل بذلك، ويوجبوا ثماني غسلات. وعارض هذا القائل بأنه لا يلزم من كون الشافعية لا يقولون بحديث ابن مغفل ان يتركوا العمل بالحديث أصلا ورأساً، لأن اعتذار الشافعية عن ذلك، إن كان متجها فذاك، وإلا فكل من الفريقين ملوم في ترك العمل به. وأجيب: بأن زيادة الثقة مقبولة ولا سيما من صحابي فقيه، وتركها لا وجه له، فالحديثان في نفس الأمر كالواحد، والعمل ببعض الحديث وترك بعضه لا يجوز، واعتذارهم غير متجه لذلك المعنى، ولا يلام الحنفية في ذلك لأنهم عملوا بالحديث الناسخ وتركوا العمل بالمنسوخ، وقال بعض الحنفية: وقع الإجماع على خلافه في العمل. وعارض هذا القائل بأنه ثبت القول بذلك عن الحسن، وبه قال أحمد في رواية. وأجيب: بأن مخالفة الأقل لا تمنع انعقاد الإجماع، وهو مذهب كثير من الأصوليين. وقالوا عن الشافعي أنه قال: حديث ابن مغفل لم أقف على صحته، قلنا هذا ليس بعذر، وقد وقف جماعة كثيرون على صحته، ولا يلزم من عدم ثبوته عند الشافعي ترك العمل به عند غيره.

173 - حدثنا إسحاق قال أخبرنا عبد الصمد قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار قال سمعت أبي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً رأى كلباً يأكل الثرى من العطش فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنة..
هذا من الأحاديث التي احتج بها البخاري على طهارة سؤر الكلب، على ما يأتي في الأحكام.
بيان رجاله وهم ستة، الأول: أسحاق بن منصور الكوسج، على ما جزم به أبو نعيم في (المستخرج) ، وقال الكلاباذى والجياني: اسحاق بن منصور، وإسحاق بن إبراهيم يرويان عن عبد الصمد. وقال الكرماني: إسحاق هذا هو ابن إبراهيم. قلت: إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج الحافظ، أبو يعقوب التيمي المروزي نزيل نيسابور. قال مسلم: ثقة مأمون أحد الأئمة، مات في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين ومائين، روى عنه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، وأما إسحاق بن إبراهيم بن العلاء، أبو يعقوب الحمصي، روى عنه البخاري في الأدب. وقال النسائي: ليس بثقة. وإسحاق بن ابراهيم بن أبي إسرائيل أبو يعقوب المروزي، روى عنه البخاري أيضا في الأدب، وعن يحيى ثقة. وإسحاق بن إبراهيم البغوي لؤلؤ ابن عم أحمد بن منيع، روى عنه البخاري، ووثقه الدارقطني وجماعة، وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم الإمام، أبو يعقوب الحنظلي النيسابوري الدارقطني المروزي الأصل، المعروف بابن راهويه، أحد الأعلام، روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. الثاني: عبد الصمد بن عبد الوارث، تقدم. الثالث: عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار المزني العدوي، مولى ابن عمر بن الخطاب، تكلموا فيه لكنه صدوق، وهو من أفراد البخاري عن مسلم، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي. الرابع: أبوه عبد الله ابن دينار، مولى ابن عمر التابعي، وليس في كتب الستة سواه. نعم في ابن ماجه: عبد الله بن دينار الحمصي، وليس بقوي. الخامس: ابو صالح الزيات ذكوان، وقد تقدم. السادس: أبو هريرة؟ رضي الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث
(3/42)
والإخبار والسماع والعنعنة. ومنها: أن رواته ما بين مروزي وبصري ومدني. ومنها: أن فيه تابعين وهما: عبد الله بن دينار وأبو صالح.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره هذا الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع في الشرب والمظالم والأدب، وأخرجه أيضا من طريق ابن سيرين: (بينما كلب يطيف بركة كاد يقتله العطش إذ رأته بغي فنزعت موقها فسبقته فغفر لها) . أخرجه في ذكر بني إسرائيل. وأخرجه مسلم في الحيوان. وأخرجه أبو داود في الجهاد.
بيان اللغات والإعراب: قوله: (يأكل الثرى) بفتح الثاء المثلثة والراء، مقصور: وهو التراب الندي، قاله الجوهري وصاحب (الغريبين) وفي (المحكم) : الثرى التراب. وقيل: التراب الذي إذا بل يصير طيناً لازباً، والجمع اثرى. وفي (مجمع الغرائب) : أصل الثرى الندى، ولذلك قيل للعرق ثرى. ومعنى يأكل الثرى: يلعق التراب. قوله: (من العطش) أي: من أجل العطش، فإن قلت: يأكل الثرى، ما محله من الإعراب؟ قلت: نصب إما حال من كلبا، أو صفة له. قال الكرماني: قلت: لا يجوز أن يكون حالا، لأن الشرط أن يكون ذو الحال معرفة، وههنا نكرة، ولا يجوز أيضا أن يكون مفعولا ثانيًا، لأن الرؤية بمعنى الإبصار. قوله: (فجعل) من أفعال المقاربة. وهي ما وضع لدنو الخبر رجاء أو حصولاً أو أخذا فيه، والضمير فيه اسمه. وقوله: (يغرف) جملة خبره، أي: طفق يغرف له.
بيان المعاني قوله: (حتى أرواه) اي: جعله ريان. قوله: (فشكر الله له) ، والشكر هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف. يقال: شكرته وشكرت له، وباللام أفصح، والمراد ههنا مجرد الثناء، اي: فاثنى الله تعالى عليه، أو المراد منه الجزاء، إذ الشكر نوع من الجزاء أي: فجزاه الله تعالى. فان قلت: إدخال الجنة هو نفس الجزاء، فما معنى الثناء؟ قلت: هو من باب عطف الخاص على العام، أو الفاء تفسرية. نحو: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} (البقرة: 54) على ما فسر به من أن القتل كان نفس نوبتهم. فإن قلت: هذه القصة متى وقعت؟ قلت: هذه من الوقائع التي وقعت في زمن بني اسرائيل، فلذلك قال: إن رجلا، ولم يسم.
بيان استنباط الأحكام الأول فيه الإحسان إلى كل حيوان بسقيه أو نحوه، وهذا في الحيوان المحترم، وهو ما لا يؤمر بقتله ولا يناقض، هذا ما أمرنا بقتله أو أبيح قتله، فإن ذلك إنما شرع لمصلحة راجحة، ومع ذلك فقد أمرنا بإحسان القتلة. الثاني: فيه حرمة الإساءة إليه، وإثم فاعله، فإنه ضد الإحسان المؤجر عليه، وقد دخلت تلك المرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت. الثالث: قال بعض المالكية: أراد البخاري بإيراد هذا الحديث طهارة سؤر الكلب، لأن الرجل ملأ خفه وسقاه به، ولا شك أن سؤره بقي فيه. وأجيب: بانه ليس فيه أن الكلب شرب الماء من الخف، إذ قد يجوز أن يكون غرفه به ثم صب في مكان غيره، أو يمكن أن يكون غسل خفه إن كان سقاه فيه، وعلى تقدير: أن يكون سقاه فيه لا يلزمنا هذا، لأن هذا كان في شريعة غيرنا على ما رواه النسائي عن أبي هريرة. وقال الكرماني: أقول فيه دغدغة، إذ لا يعلم منه أنه كان في زمن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان قبلها أو كان بعدها قبل ثبوت حكم سؤر الكلاب، أو أنه لم يلبس بعد ذلك، أو غسله. قلت: لا حاجة إلى هذا الترديد، فإنه روي عن ابي هريرة أنه: كان في شريعة غيرنا، على ما ذكرنا. الرابع: يفهم منه وجوب نفقة البهائم المملوكة على مالكها بالإجماع.

174 - وقال أحمد بن شبيب حدثنا أبي عن يونس عن ابن شهاب. قال حدثنى حمزة بن عبد الله عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك.
هذا الذي ذكره البخاري معلقا احتج به في طهارة الكلب، وطهارة سؤره، وجواز ممره في المسجد.
بيان رجاله وهم ستة. الأول: أحمد بن شبيب، بفتح الشين المعجمة وكسر الباء الموحدة: ابن سعيد التميمي البصري، شيخ البخاري، ولم يخرج له غيره، أصله من البصرة، نزل مكة مات بعد المائتين ووالده، أخرج له النسائي، وهو صدوق. الثاني: أبوه شبيب المذكور، وكان من أصحاب يونس، وكان يختلف في التجارة إلى مصر، وكتابه كتاب صحيح. الثالث: يونس بن يزيد الأيلي، وقد تقدم. الرابع: ابن شهاب محمد بن مسلم الزهري تقدم. الخامس: حمزة، بالحاء المهملة والزاي: ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم، أبو عمارة القرشي العدوي المدني التابعي، ثقة قليل الحديث، روى له الجماعة. السادس: ابوه عبد الله بن عمر.
(3/43)
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه القول والتحديث والعنعنة. ومنها: أن رواته ما بين بصري وأيلي ومدني. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي.
بيان من أخرجه غيره أخرجه أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا عبد الله بن وهب، قال: اخبرني يونس عن ابن شهاب، قال حدثني حمزة بن عبد الله بن عمر: (كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت شابًا فتى عزباً، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك) . وأخرجه الإسماعيلي: حدثنا ابو يعلى حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب اخبرني يونس عن ابن شهاب حدثنى حمزة بلفظ: (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر) . ورواه أبو نعيم عن أبي إسحاق بن محمد حدثنا موسى بن سعيد عن أحمد بن شبيب، وقال: رواه البخاري بلا سماع.
بيان المعنى والإعراب قوله: (كانت الكلاب تقبل وتدبر) وفي رواية أبي داود والإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي أيضا: (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر) ، بزياد: تبول، قبل: (تقبل وتدبر) . وستقف على معنى هذه الزيادة. قوله: (تقبل) جملة في محل النصب على الخبرية إن جعلت: كانت، ناقصة. وإن جعلت تامة بمعنى: وجدت، كان محل الجملة النصب على الحال. قوله: (في المسجد) حال أيضا، والتقدير: حال كون الإقبال والإدبار في المسجد، والألف واللام فيه للعهد. اي: في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (فلم يكونوا يرشون) من: رش الماء، وحكى ابن التين عن الداودي أنه أبدل قوله: (يرشون) بلفظ: (يرتقبون) ، بإسكان الراء وفتح التاء المثناة من فوق وكسر القاف بعدها باء موحدة، وفسر معناه بقوله: (ولا يخشون) فصحف اللفظ وأبعد في التفسير لأن معنى: الارتقاب: الانتظار. وأما نفي الخوف من نفي الارتقاب فهو تفسير ببعض لوازمه. قوله: (من ذلك) أي من المسجد، وهو إشارة إلى البعيد في المرتبة، أي: ذلك المسجد العظيم البعيد درجته عن فهم الناس.
بيان استنباط الأحكام الأول: احتج به البخاري على طهارة بول الكلب، كما ذكرنا عن قريب، فإن هذا التركيب يشعر باستمرار الإقبال والإدبار، ولفظ: في زمان رسول الله، عليه الصلاة والسلام، دال على عموم جميع الأزمنة، إذ اسم الجنس المضاف من الألفاظ العامة. وفي: (فلم يكونوا يرشون) مبالغة، ليس في قولك: فلم يرشوا به، بدون لفظ: الكون، كما في قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم} (الأنفال: 33) حيث لم يقل: وما يعذبهم الله، وكذا في لفظ الرش حيث اختاره على لفظ الغسل، لأن الرش ليس فيه جريان الماء، بخلاف الغسل فإنه يشترط فيه الجريان، فنفي الرش يكون أبلغ من نفي الغسل، ولفظ: شيئا، أيضا عام لأنه نكرة وقعت في سياق النفي، وهذا كله للمبالغة في طهارة سؤره، إذ في مثل هذه الصورة الغالب أن لعابه يصل إلى بعض أجزاء المسجد، فإذا قرر الرسول، عليه الصلاة والسلام، ذلك ولم يأمره بغسله قط علم أنه طاهر، وهذا كله من ناصري البخاري: والجواب أن نقول: لا دلالة على ذلك، والذي ذكروه إنما كان لأن طهارة المسجد متيقنة غير مشكوك فيها، واليقين لا يرفع بالظن، فضلا عن الشك. وعلى تقدير دلالته فدلالته لا تعارض منطوق الحديث الناطق صريحًا بإيجاب الغسل حيث قال: (فليغسله سبعا) . وأما على رواية من روي: (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر) ، فلا حجة فيه لمن استدل به على طهارة الكلاب للاتفاق على نجاسة بولها، وتقرير هذا أن إقبالها وإدبارها في المسجد ثم لا يرش، فالذي في روايته: تبول، يذهب إلى طهارة بولها وكان المسجد لم يكن يغلق وكانت تتردد، وعساها كانت تبول إلا أن علم بولها فيه لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند اصحابه ولا عند الراوي أي موضع هو، ولو كان علم لأمر بما أمر في بول الأعرابي، فدل ذلك أن بول ما سواه في حكم النجاسة سواء. وقال الخطابي: يتأول على أنها كانت لا تبول في المسجد بل في مواطنها وتقبل وتدبر في المسجد عابرة، إذ لا يجوز أن تترك الكلاب تبات في المسجد حتى تمتهنه وتبول فيه، وإنما كان إقبالها وإدبارها في أوقات نادرة، ولم يكن على المسجد أبواب تمنع من عبورها فيه. قلت: إنما تأول الخطابي بهذا التأويل حتى لا يكون الحديث حجة للحنفية في قولهم، لأن أصحابنا استدلوا به على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو بالهواء فذهب أثرها تطهر في حق الصلاة، خلافًا للشافعي واحمد وزفر، والدليل على ذلك أن أبا داود وضع لهذا الحديث باب طهور الأرض إذا يبست، وأيضًا قوله: فلم يكونوا يرشون شيئا، إذ عدم الرش يدل على جفاف الأرض وطهارتها، ومن أكبر موانع تأويله أن قوله: (في المسجد) ليس ظرفا لقوله: (وتقبل وتدبر) وحده، وإنما هو ظرف لقوله: تبول. وما بعده كلها، فافهم.
(3/44)
وَيُقَال: الْأَوْجه فِي هَذَا أَن يُقَال: كَانَ ذَلِك فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام على أصل الْإِبَاحَة ثمَّ، ورد الْأَمر بتكريم الْمَسْجِد وتطهيره وَجعل الْأَبْوَاب على الْمَسَاجِد.
الثَّانِي: أَن ابْن بطال قَالَ فِيهِ: إِن الْكَلْب طَاهِر لِأَن إقبالها وإدبارها فِي الْأَغْلَب يَقْتَضِي أَن تجر فِيهِ أنوفها وتلحس المَاء وفتات الطَّعَام، لِأَنَّهُ كَانَ مبيت الغرباء والوفود، وَكَانُوا يَأْكُلُون فِيهِ، وَكَانَ مسكن أهل الصّفة، وَلَو كَانَ الْكَلْب نجسا لمنع من دُخُول الْمَسْجِد لِاتِّفَاق الْمُسلمين على أَن الأنجاس تجنب الْمَسَاجِد، وَالْجَوَاب: عَنهُ مَا ذكرنَا.
الثَّالِث: احْتج بِهِ أَصْحَابنَا على طَهَارَة الأَرْض بجفاف النَّجَاسَة عَلَيْهَا، كَمَا ذَكرْنَاهُ.

175 - حدّثنى حَفْصُ بنُ عُمَر قالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عَنِ ابنِ أبي السَّفَرِ عَن الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بنِ حاتمِ قالَ سألْتُ النَّبيَّ صلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَ إذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ فَقَتَل فَكُل وإذَا أكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَاِنَّمَا أمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ قُلْتُ أُرْسِلُ كَلْبِي فَأجِدُ مَعَهُ كَلْباً آخَرَ قالَ فَلا تَأْكُلْ فَاِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ ولَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبٍ آخَرَ..
أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث ليستدل بِهِ لمذهبه فِي طَهَارَة سُؤْر الْكَلْب، وَهُوَ مُطَابق لقَوْله: (وسؤر الْكَلْب) فِي أول الْبَاب.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: حَفْص بن عمر. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: ابْن أبي السّفر، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء: اسْمه عبد الله، وَأَبُو السّفر اسْمه سعيد بن مُحَمَّد، وَيُقَال: أَحْمد الْهَمدَانِي الْكُوفِي. الرَّابِع: الشّعبِيّ، واسْمه عَامر كلهم ذكرُوا. الْخَامِس: عدي بن حَاتِم بن عبد الله الطَّائِي، أَبُو طريف، بِفَتْح الطَّاء: الْجواد بن الْجواد، قدم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سنة سبع، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة وَسِتُّونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ وَمُسلم مِنْهَا ثَلَاثَة، وَانْفَرَدَ مُسلم بحديثين. نزل الْكُوفَة وَمَات بهَا زمن الْمُخْتَار، وَهُوَ ابْن عشْرين وَمِائَة سنة، وَيُقَال: مَاتَ بقرقيسيا، وَكَانَ أَعور، وَقَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي فِي (كتاب المعمرين) : قَالُوا عَاشَ عدي بن حَاتِم مائَة وَثَمَانِينَ سنة.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن كلهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع وَالصَّيْد والذبائح. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّيْد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن هناد بن السّري. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن الْمُنْذر.
بَيَان الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى قَوْله: (قَالَ) أَي: عدي. قَوْله: (سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول ذكر المسؤول عَنهُ وَلم يذكر المسؤول، وَاكْتفى بِالْجَوَابِ لِأَنَّهُ كَانَ يحْتَمل أَن يكون علم أصل الْإِبَاحَة، وَلكنه حصل عِنْده شكّ فِي بعض أُمُور الصَّيْد فَاكْتفى بِالْجَوَابِ، وَالتَّقْدِير: سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن حكم صيد الْكلاب، وَقد صرح البُخَارِيّ بِهِ فِي رِوَايَته الْأُخْرَى فِي كتاب الصَّيْد، وَيحْتَمل أَن يكون قَامَ عِنْده مَانع من الْإِبَاحَة الَّتِي علم أَصْلهَا وَقَالَ بَعضهم: حذف لفظ السُّؤَال اكْتِفَاء بِدلَالَة الْجَواب. قلت: الْمَحْذُوف لَيْسَ لفظ السُّؤَال، وَإِنَّمَا الْمَحْذُوف لفظ المسؤول، كَمَا قُلْنَا. قَوْله: (قَالَ فَقَالَ) فَاعل: قَالَ. الأولى هُوَ عدي، وفاعل: فَقَالَ، هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (كلبك الْمعلم) قَالَ الْكرْمَانِي: الْمعلم هُوَ الَّذِي ينزجر بالزجر ويسترسل بِالْإِرْسَال وَلَا يَأْكُل من الصَّيْد لإمرة بل مرَارًا. قلت: كَون الْكَلْب معلما مفوض إِلَى رَأْي الْمعلم عَن ابي حنيفَة لانه يخْتَلف باخْتلَاف الاشخاص والاحوال وَعند ابي يُوسُف وَمُحَمّد بترك اكله ثَلَاث مَرَّات وَعند الشَّافِعِي بِالْعرْفِ، وَعند مَالك بالانزجار، وَأما اشْتِرَاط التَّعَلُّم فَلقَوْله تَعَالَى: {وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح} (الْمَائِدَة: 4) قَوْله: (فَقتل) أَي: فَقتل الكلبُ الصَيد، وطوى ذكر الْمَفْعُول للْعلم بِهِ. قَوْله: (فَلَا تَأْكُل) أَي: الصَّيْد الَّذِي أكل مِنْهُ الْكَلْب، وَعلل بقوله: (فَإِنَّمَا أمْسكهُ على نَفسه) ، و: الْفَاء، فِيهِ للتَّعْلِيل. قَوْله: (قلت) : قَائِله: عدي، هُوَ سُؤال آخر.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن البُخَارِيّ احْتج بِهِ لمذهبه فِي طَهَارَة سُؤْر الْكَلْب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أذن لعدي رَضِي الله عَنهُ، فِي أكل مَا صَاده الْكَلْب وَلم يُقيد ذَلِك بِغسْل مَوضِع فَمه، وَمن ثمَّ قَالَ مَالك: كَيفَ يُؤْكَل صَيْده وَيكون لعابه نجسا؟ وَأجَاب الْإِسْمَاعِيلِيّ بِأَن الحَدِيث سيق لتعريف أَن قَتله ذَكَاته وَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَات نَجَاسَته وَلَا نَفيهَا، وَلذَلِك لم يقل لَهُ إغسل الدَّم إِذا خرج من جرح نابه، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون وكل إِلَيْهِ ذَلِك كَمَا تقرر عِنْده من وجوب غسل
(3/45)
الدم، ويدفع ذلك بأن المقام مقام التعريف، ولو كان ذلك واجبا لبينه، عليه الصلاة والسلام، وقال الكرماني: وجه ارتباط هذا الحديث بالترجمة على ما في بعض النسخ من لفظ: (وأكلها) ، بعد لفظ المسجد كما ذكر مالك عند قوله: (وسؤر الكلاب وممرها في المسجد) .
الثاني: أن في إطلاق الكلب دلالة لإباحة صيد جميع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها، وقال أحمد: لا يحل صيد الكلب الأسود لأنه شيطان، وإطلاق الحديث حجة عليه.
الثالث: أن التسمية شرط لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإنما سميت على كلبك) . اي: ذكرت اسم الله تعالى على كلبك عند إرساله، وعلم من ذلك أنه لا بد من شروط أربعة حتى يحل الصيد. الأول: الإرسال. والثاني: كونه معلما. والثالث: الإمساك على صاحبه بأن لا يأكل منه. والرابع: أن يذكر اسم الله عليه عند الإرسال. واختلف العلماء في التسمية، فذهب الشافعي إلى أنها سنة فلو تركها عمدا أو سهوا يحل الصيد، والحديث حجة عليه. وقالت الظاهرية: التسمية واجبة فلو تركها سهوا أو عمدا لم يحل. وقال ابو حنيفة: لو تركها عمدا لم يحل ولو تركها سهوا يحل، وسيجىء مزيد الكلام فيه في كتاب الذبائح.
الرابع: فيه إباحة الاصطياد للاكتساب والحاجة والانتفاع به بالأكل وغيره ودفع الشر والضرر، واختلفوا فيمن صاد للهو والتنزه، فأباحه بعضهم وحرمه الأكثرون. وقال مالك: إن فعله ليذكيه فمكروه، وإن فعله من عير نية التذكية فحرام لأنه فساد في الأرض وإتلاف نفس.
الخامس: فيه التصريح بمنع أكل ما أكل منه الكلب.
السادس: فيه أن مقتضى الحديث عدم الفرق بين كون المعلم، بكسر اللام، ممن تحل ذكاته أو لا، وذكر ابن حزم في (المحلى) عن قوم اشتراط كونه ممن تحل ذكاته، وقال قوم: لا يحل صيد جارح علمه من لا يحل أكل ما ذكاه، وروي في ذلك آثار: منها عن يحيى بن عاصم عن علي، رضي الله تعالى عنه، أنه كره صيد باز المجوسي وصقره. ومنها: عن ابن الزبير عن جابر، رضي الله تعالى عنه، قال: لا يؤكل صيد المجوسي ولا ما أصابه سهمه. ومنها: عن خصيف قال: قال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: لا تأكل ما صيد بكلب المجوسي وان سميت، فإنه من تعليم المجوسي، قال تعالى: {تعلمونهن مما علمكم الله} (المائدة: 4) وجاء هذا القول عن عطاء ومجاهد والنخعي ومحمد وابن علي، وهو قول سفيان الثوري.
السابع: فيه أن الإرسال شرط حتى لو استرسل بنفسه يمنع من أكل صيده، وقالت الشافعية: ولو أرسل كلبا حيث لا صيد فاعترضه صيد فأخذه لم يحل على المشهور عندنا، وقيل: يحل. ثم إعلم أن الصيد حقيقة في المتوحش، فلو استأنس ففيه خلاف العلماء على ما ياتي في كتاب الصيد إن شاء الله تعالى.
الثامن: الحديث صريح في منع ما أكل منه الكلب، وفي حديث أبي ثعلبة الخشني في سنن أبي داود بإسناد حسن: كله وإن أكل منه الكلب. قلت: التوفيق بين الحديث بأن يجعل حديث أبي ثعلبة أصلا في الإباحة، وأن يكون النهي في حديث عدي بن حاتم على معنى التنزيه دون التحريم قاله الخطابي، وقال أيضا: ويحتمل أن يكون الأصل في ذلك حديث عدي، ويكون النهي عن التحريم الثابت، فيكون المراد بقوله: وإن أكل منه الكلب، فيما مضى من الزمان وتقدم منه، لا في هذه الحالة، وذلك لأن من الفقهاء من ذهب الى أنه إذا أكل الكلب المعلم من الصيد مرة، بعد أن كان لا يأكل، فإنه يحرم كل صيد كان قد اصطاده، فكأنه قال: كل منه وإن كان قد أكل فيما تقدم إذا لم يكن قد أكل منه في هذه الحالة. قلت: هذا الذي ذكره هو قول ابي حنيفة، وأول بهذا التأويل ليكون الحديث حجة عليه وليس الأمر كذلك، فإن في (الصحيحين) : (إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله تعالى، فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه (.

34 - (باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين القبل والدبر)

أي: هذا باب في بيان قول من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، وهو تثنية مخرج، بفتح الميم، وبين ذلك بطريق عطف البيان بقوله: (القبل والدبر) ، ويجوز أن يكون جرهما بطريق البدل، والقبل يتناول الذكر والفرج،، وقال الكرماني: فإن قلت: للوضوء أسباب أخر مثل النوم وغيره، فكيف حصر عليهما؟ قلت: الحصر إنما هو بالنظر إلى اعتقاد الخصم، إذ هو رد لما اعتقده، والاستثناء مفرغ، فمعناه: من لم ير الوضوء من مخرج من مخارج البدن إلا من هذين المخرجين، وهو رد لمن راى أن الخارج من البدن بالفصد مثلا ناقض الوضوء، فكأنه قال: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين لا من مخرج آخر كالفصد، كما هو اعتقاد الشافعي. قلت: فيه مناقشة من وجوه. الأول: أنه جعل مثل النوم سببا للوضوء، وليس كذلك، لأن
(3/46)
النوم ونحوه سبب لانتقاض الوضوء لا للوضوء، والذي يكون سببا لنفي شيء كيف يكون سببا لإثباته؟ الثاني: قوله: بالنظر إلى اعتقاد الخصم ليس كذلك، وإنما هو حصر بالنظر إلى اعتقاد خصم الخصم، والخصم لا يدعي الحصر على المخرجين. الثالث: إن قوله: فمعناه من لم ير الوضوء من مخرج ... إلى آخره، يرده حكم من طعن في سرته وخرج البول والعذرة، تنتقض الطهارة عند الخصم أيضا، فعلمنا من هذا أن احكم الخارج من القبل والدبر وغيرهما سواء في الحكم فلا يتفاوت.
ثم المناسبة بين البابين أن الباب السابق في نفي النجاسة عن شعر الإنسان وعن سؤر الكلب، وفي هذا الباب نفي انتقاض الوضوء من الخارج من غير المخرجين، وأدنى المناسبة كافية.
لقول الله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط

هذا لا يصلح أن يكون دليلا لما ادعاه من الحصر على الخارج من المخرجين، لأن عندهم ينتقض الوضوء من لمس النساء ومس الفرج، فإذا الحصر باطل. وقال الكرماني: الغائط المطمئن من الأرض، فيتناول القبل والدبر، إذ هو كناية عن الخارج من السبيلين مطلقًا. قلت: تناوله القبل والدبر لا يستلزم حصر الحكم على الخارج منهما، فالآية لا تدل على ذلك، لان الله تعالى أخبر أن الوضوء، أو التيمم عند فقد الماء، يجب بالخارج من السبيلين، وليس فيه ما يدل على الحصر. فقال بعضهم: هذا دليل الوضوء مما يخرج من المخرجين. قلت: نحن نسلم ذلك، ولكن لا نسلم دعواك أيها القائل: إن هذا حصر على الخارج منهما. وقال أيضا: {أو لامستم النساء} (النساء: 43، المائدة: 6) دليل الوضوء من ملامسة النساء: قلت: الملامسة كناية عن الجماع، وقال ابن عباس: المس واللمس والغشيان والإتيان والقربان والمباشرة: الجماع، لكنه عز وجل حي كريم يعفو ويكني، فكنى باللمس عن الجماع كما كنى بالغائط عن قضاء الحاجة، ومذهب علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري وعبيدة السلماني، بفتح العين المهملة، وعبيدة الضبي، بضم العين، وعطاء وطاوس والحسن البصري والشعبي والثوري والأوزاعي: أن اللمس والملامسة كناية عن الجماع، وهو الذي صح عن عمر بن الخطاب أيضا على ما نقله أبو بكر بن العربي وابن الجزري، فحينئذ بطل قول هذا القائل: وقوله: {او لامستم النساء} (النساء: 43، المائدة: 6) دليل الوضوء، بل هو دليل الغسل وقال أيضا: وفي معناه مس الذكر. قلت: هذا أبعد من الأول، فإن كانت الملامسة بمعنى الجماع، كيف يكون مس الذكر مثله؟ فيلزم من ذلك أن يجب الغسل على من مس ذكره. وقوله: مع صحة الحديث، اي: في مس الذكر. قلت: وإن كان الحديث فيه صحيحا، قلنا: أحاديث وأخبار ترفع حكم هذا، كما قررنا في موضعه في غير هذا الكتاب.
وقال عطاء فيمن يخرج من دبره الدود أو من ذكره نحو القملة يعيد الوضوء
عطاء هو ابن ابي رباح، وهذا تعليق وصله ابن ابي شيبة في (مصنفه) بإسناد صحيح، وقال: حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن عطاء، فذكره. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنه ينقض خروج الغائط من الدبر والبول من القبل والريح من الدبر والمذي، قال: ودم الاستحاضة ينقض في قول عامة العلماء الأربعة. قال: واختلفوا في الدود يخرج من الدبر فكان عطاء ابن ابي رباح والحسن وحماد بن أبي سليمان وأبو مجلز والحكم وسفيان والثوري والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور يرون منه الوضوء. وقال قتادة ومالك: لا وضوء فيه، روروي ذلك عن النخعي. وقال مالك: لا وضوء في الدم يخرج من الدبر. انتهى. ونقلت الشافعية عن مالك أن النادر لا ينقض، والنادر كالمذي يدوم لا بشهوة فإن كان بها فليس بنادر، وكذا نقل ابن بطال عنه، فقال: وعند مالك أن ما خرج من المخرجين معتادا ناقض، وما خرج نادرا على وجه المرض لا يقض الوضوء: كالاستحاضة وسلس البول ابو والمذي والحجر والدود والدم. وقال ابن حزم: المذي والبول والغائط، من أي موضع خرجن من الدبر أو الإحليل أو المثانة أو البطن أو غير ذلك من الجسد أو الفم، ناقض للوضوء لعموم أمره، عليه الصلاة والسلام، بالوضوء منها، ولم يخص موضعا دون موضع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. والريح الخارجة من ذكر الرجل وقبل المرأة لا ينقض الوضوء عندنا، هكذا ذكره الكرخي عن أصحابنا إلا أن تكون المرأة مفضاة، وهي التي صار مسلك بولها ووطئها واحدًا، أو التي صار مسلك الغائط والوطء منها واحدًا. وعن الكرخي: إن الريح
(3/47)
لا يخرج من الذكر وإنما هو اختلاج. وقيل: إن كانت الريح منتنة يجب الوضوء وإلا فلا، وفي (الذخيرة) : والدودة الخارجة من قبل المرأة على هذه الأقوال. وفي (القدوري) : توجب الوضوء، وفي الذكر لا تنقض وإن خرجت الدودة من الفم او الأنف أو الأذن لا تنقض.
وقال جابر بن عبد الله إذا ضحك في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء
هذا التعليق وصله البيهقي في (المعرفة) عن أبي عبد الله الحافظ: حدثنا أبو الحسن بن ماتي حدثنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي سفيان مرفوعا: سئل جابر فذكره، ورواه أبو شيبة. قاضي واسط عن يزيد بن أبي خالد عن أبي سفيان مرفوعا، واختلف عليه في سننه والموقوف هو الصحيح ورفعه ضعيف. قال البيهقي: وروينا عن عبد الله ابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأبي أمامة الباهلي ما يدل على ذلك وهو قول الفقهاء السبعة. وقال الشعبي وعطاء والزهري: وهو إجماع فيما ذكره ابن بطال وغيره، وإنما الخلاف: هل ينقض الوضوء؟ فذهب مالك والليث والشافعي إلى أنه لا ينقض، وذهب النخعي والحسن إلى أنه ينقض الوضوء والصلاة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي مستدلين بالحديث الذي رواه الدارقطني عن ابي المليح عن أبيه: (بينا نحن نصلي خلف رسول الله، عليه الصلاة والسلام، إذا أقبل رجل ضرير البصر، فوقع في حفرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ضحك منكم فليعد الوضوء والصلاة) . ورواه أيضا من حديث أنس وعمران بن حصين وأبي هريرة، وضعفها كلها. قلت: مذهب أبي حنيفة ليس كما ذكره، وإنما مذهبه مثل ما روي عن جابر أن الضحك يبطل الصلاة ولا يبطل الوضوء، والقهقهة تبطلهما جميعًا، والتبسم لا يبطلهما، والضحك ما يكون مسموعا له دون جيرانه، والقهقهة ما يكون مسموعاً له ولجيرانه، والتبسم ما لا صوت فيه ولا تأثير له دون واحد منهما. فان قال: كيف استدلت الحنيفة بالحديث الذي رواه الدارقطني، وليس فيه إلا الضحك دون القهقهة؟ قلت: المراد من قوله: من ضحك منكم قهقهة، يدل عليه ما رواه ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ضحك في الصلاة قهقهة فليعد الوضوء والصلاة) . رواه ابن عدي في (الكامل) من حديث بقية: حدثنا أبي عمرو بن قيس عن عطاء عن ابن عمر، والأحاديث يفسر بعضها بعضًا. فان قيل: قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، فإن بقية من عادته التدليس. قلت: المدلس إذا صرح بالتحديث وكان صدوقًا زالت تهمة التدليس، وبقية صرح بالتحديث وهو صدوق.
ولنا في هذا الباب أحد عشر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها أربعة مرسلة وسبعة مسندة.
فأول المراسيل حديث ابي العالية الرياحي، رواه عنه عبد الرزاق عن قتادة عن ابي العالية، وهو عدل ثقة: (أن أعمى تردى في بئر والنبي صلى الله عليه وسلم، يصلي بأصحابه، فضحك بعض من كان يصلي معه، عليه الصلاة والسلام، فأمر النبي، عليه السلام، من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة) ، وأخرجه الدارقطني من جهة عبد الرزاق بسنده، وعبد الرزاق فمن فوقه من رجال الصحيح، وأبو العالية اسمه: رفيع ابن مهران الرياحي البصري، أدرك الجاهلية وأسلم بعد موت النبي، عليه الصلاة والسلام، بسنتين، ودخل على أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، وصلى خلف عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وروى عن جماعة من الصحابة، ووثقه يحيى وأبو زرعة وأبو حاتم، وروى له الجماعة، وقال ابن رشد المالكي: هو مرسل صحيح، ولم يقل الشافعي إلا بإرساله، والمرسل عندنا حجة وكذا عند مالك، قاله أبو بكر ابن العربي، وكذا عن أحمد، حكى ذلك ابن الجوزي في التحقيق؛ وروي ذلك أيضا من طرق سبعة متصلة، ذكرها جماعة منهم ابن الجوزى. والثاني من المراسيل: مرسل الحسن البصري، رواه الدارقطني بإسناده إليه وهو أيضا مرسل صحيح. والثالث: مرسل النخعي، رواه أبو معاوية عن الأعمش عن النخعي قال: جاء رجل ضرير البصر والنبي، عليه الصلاة والسلام، يصلي ... الحديث. والرابع: مرسل معبد الجهني، روي عنه من طرق.
وأول المسانيد حديث عبد الله بن عمر، وقد ذكرناه. والثاني: حديث أنس بن مالك، رواه الدارقطني من طرق. والثالث: حديث أبي هريرة من رواية أبي أمية عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي، عليه الصلاة والسلام، أنه قال: إذا قهقهه في الصلاة أعاد الوضوء وأعاد الصلاة، رواه الدارقطني. والرابع: حديث عمران بن حصين عن النبي، عليه الصلاة والسلام، أنه
(3/48)
قال: (من ضحك في الصلاة قرقرة فليعد الوضوء) . والخامس: حديث جابر أخرجه الدارقطني. والسادس: حديث ابي المليح بن أسامة، أخرجه الدارقطني أيضا. والسابع: حديث رجل من الأنصار: (أن رسول الله، عليه الصلاة والسلام، كان يصلي، فمر رجل في بصره سوء فتردى في بئر وضحك طوائف من القوم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة) ، رواه الدارقطني، وقال بعضهم حاكياً عن ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا ينقض خارج الصلاة، واختلفوا إذا وقع فيها فخالف من قال بالقياس الجلي، وتمسكوا بحديث لا يصح، وحاشا أصحاب رسول الله، عليه الصلاة والسلام، الذين هم خير القرون، أن يضحكوا بين يدي الله سبحانه خلف رسول الله، عليه الصلاة والسلام. قلت: هذا القائل أعجبه هذا الكلام المشوب بالطعن على الأئمة الكبار، وفساده ظاهر من وجوده: الأول: كيف يجوز التمسك بالقياس مع وجود الأخبار المشتملة على مراسيل مع كونها حجة عندهم. والثاني قوله: تمسكوا بحديث لا يصح، وليس الأمر كذلك، بل تمسكوا بالأحاديث التي ذكرناها وإن كان بعضهم قد ضعف منها، فبكثرتها واختلاف طرقها ومتونها ورواتها تتعاضد وتتقوى على ما لا يخفى، ومع هذا فإن الرواة الذين فيها من الضعفاء على زعم الخصم لا يسلمه من يعمل بأحاديثهم، ولم يسلم أحد من التكلم فيه. والثالث: قوله: حاشا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره، ليس بحجة في ترك العمل في الأخبار المذكورة، وكان يصلي خلف النبي، صلى الله عليه وسلم الصحابة وغيرهم من المنافقين والأعراب الجهال، وهذا من باب حسن الظن بهم، وإلا فليس الضحك كبيرة، وهم ليسوا من الصغائر بمعصومين ولا عن الكبائر، على تقدير كونه كبيرة، ومع هذا وقع من الأحداث في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أشد من هذا. وقال القائل المذكور، بعد نقله كلام ابن المنذر الذي ذكرناه: على أنهم لم يأخذوا بمفهوم الخبر المروي في الضحك، بل خصوه بالقهقهة. قلت: هذا كلام من لا ذوق له من دقائق التراكيب، وكيف لم يأخذوا بمفهوم الخبر المروي في الضحك، ولو لم يأخذوا ما قالوا: الضحك يفسد الصلاة ولا خصوه بالقهقهة؟ فإن لفظه القهقهة ذكر صريحًا كما جاء في حديث ابن عمر صريحًا. وجاء أيضا لفظ: القرقرة، في حديث عمران بن حصين. وقد ذكرناهما قريبا، وقد ذكرنا أن الأحاديث يفسر بعضها بعضًا.
وقال الحسن: إن أخذ من شعره وأظفاره أو خلع خفيه فلا وضوء عليه
أي قال الحسن البصري، رضي الله عنه، وهذه مسألتان ذكرهما بالتعليق. التعليق الأول: وهو قوله: (ان اخذ من شعره أو اظفاره) أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر بإسناد صحيح موصولا، وبه قال أهل الحجاز والعراق. وعن ابي العالية والحكم وحماد ومجاهد إيجاب الوضوء في ذلك، وقال عطاء والشافعي والنخعي: يمسه الماء. وقال اصحابنا الحنفية: ولو حلق رأسة بعد الوضوء، أو جز شاربه أو قلم ظفره أو قشط خفه بعد مسحه فلا إعادة عليه. وقال ابن جرير: وعليه الإعادة. وقال إبراهيم: عليه إمرار الماء على ذلك الموضع. والتعليق الثاني: وصله ابن ابي شيبة بإسناد صحيح عن هشام عن يونس عنه قوله: (او خلع خفيه) قيد بالخلع لأنه إذا أخذ من خفيه بمعنى قشط من موضع المسح فلا وضوء عليه، وأما لو خلع خفيه بعد المسح عليهما ففيه أربعة أقوال: فقال مكحول والنخعي وابن أبي ليلى والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق: يستأنف الوضوء، وبه قال الشافعي في القول القديم. والقول الثاني: يغسل رجليه مكانه فإن لم يفعل استأنف الوضوء، وبه قال مالك والليث. والثالث: يغسلهما إذا أراد الوضوء، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في (الجديد) والمزني وأبو ثور. والرابع: لا شيء عليه ويغسل كما هو، وبه قال الحسن وقتادة، وروي مثله عن النخعي.
وقال أبو هريرة لا وضوء من حدث
هذا التعليق وصله إسماعيل القاضي في (الأحكام) بإسناد صحيح من حديث مجاهد عنه موقوفا، ورواه أبو عبيد في كتاب (الطهور) بلفظ (لا وضوء إلا من حدث أو صوت أو ريح) . وقال بعضهم: ورواه أحمد وأبو داود والترمذي من طريق شعبة عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعا. قلت: الذي رواه أبو داود غير ما روي عن ابي هريرة، وخلافة على ما تقف عليه الآن. وقال الكرماني: معنى (لا وضوء إلا من حدث) : لا وضوء إلا من الخارج من السبيلين. قلت: الحدث أعم من هذا، وكل واحد من الإغماء والنوم والجنون حدث، وجميع الأئمة يقولون: لا وضوء إلا من حدث؛ فإن اعتمد الكرماني في هذا
(3/49)
التفسير على حديث أبي داود المرفوع، فلا يساعده ذلك، لأن لفظ حديث أبي داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره أحدث أو لم يحدث فأشكل عليه، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحًا) . فالحدث هنا خاص وهو: سماع الصوت أو وجدان الريح. وأثر أبي هريرة عام في سائر الأحداث، لأن قوله: من حدث، لفظ عام لا يختص بحدث دون حدث.
ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع فرمي رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته
الكلام فيه على أنواع.
الأول: أن هذا الحديث وصله ابن إسحاق في المغازي، قال: حدثني صدقة بن يسار عن عقيل ابن جابر عن ابيه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) . يعني في غزوة ذات الرقاع فأصاب رجل أمرأة رجل من المشركين، فحلف أن لا أنتهي حتى أهريق دمًا في أصحاب محمد، فخرج يتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم منزلا فقال: من رجل يكلؤنا؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، قال: كونا بفم الشعب. قال: فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل، فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم، فرماه بسهم فوضعه فيه، ونزعه حتى مضى ثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد، ثم انتبه صاحبه، فلما عرف أنه قد نذروا به هرب، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى؟ قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن اقطعها.
الثاني: أن هذا الحديث صحيح. أخرجه ابن حبان في (صحيحه) والحاكم في (مستدركه) وصححه ابن خزيمة في (صحيحه) وأحمد في (مسنده) والدارقطني في (سننه) كلهم من طريق إسحاق. فإن قلت: إذا كان كذلك فلم لم يجزم به البخاري؟ قلت: قال الكرماني: ذكره بصيغة التمريض لأنه غير مجزوم به، بخلاف قوله: قال جابر في الحديث الذي مضى هنا، لأن: قال، ونحوه تعليق بصيغة التصحيح مجزومًا به. قلت: فيه نظر، لأن الحديث الذي قال فيه: قال جابر، لا يقاوم الحديث على ما وقفت عليه، وكان على قوله ينبغي ان يكون الأمر بالعكس. وقال بعضهم: لم يجزم به لكونه مختصرا. قلت: هذا أبعد من تعليل الكرماني، فإن كون الحديث مختصرا لا يستلزم أن يذكر بصيغة التمريض،، والصواب فيه أن يقال: لأجل الاختلاف في ابن إسحاق.
الثالث في رجاله، وهم: صدقة بن يسار الجزري، سكن مكة، قال ابن معين: ثقة. وقال ابو حاتم: صالح، روى له مسلم والنسائي وابن ماجه أيضا. وعقيل، بفتح العين: ابن جابر الأنصاري الصحابي، ولم يعرف له راو غير صدقة وجابر بن عبد الله بن عمر والأنصاري.
الرابع: في لغاته ومعناه قوله: (في غزوة ذات الرقاع) سميت بإسم شجرة هناك، وقيل: باسم جبل هناك فيه بياض وسواد وحمرة، يقال له: الرقاع، فسميت به. وقيل: سميت به لرقاع كانت في ألويتهم. وقيل: سميت بذلك لأن أقدامهم نقبت فلفوا عليها الخرق، وهذا هو الصحيح، لأن أبا موسى حاضر ذلك مشاهدة وقد أخبر به، وكانت غزوة ذات الرقاع في سنة أربع من الهجرة. وذكر البخاري أنها كانت بعد خيبر، لأن أبا موسى جاء بعد خيبر. قوله: (حتى أهريق) أي: أريق، والهاء فيه زائدة. قوله: (أثر النبي، عليه الصلاة والسلام) ، بفتح الهمزة والثاء المثلثة، ويجوز بكسرها وسكون الثاء. قوله: (من رجل) ، كلمة: من، استفهامية أي: أي رجل يكلؤنا؟ اي: يحرسنا؟ من كلأ يكلأ كلاءة، من باب: فتح يفتح. كلأته أكلؤه فأنا كالىء، وهو مكلوء. وقد تخفف همزة الكلاءة وتقلب ياء فيقال: كلاية. قوله: (فانتدب) ، يقال ندبه للأمر فانتدب له اي: دعا له فأجاب، والرجلان هما: عمار بن ياسر وعباد بن بشر. ويقال الأنصاري، وهو عمارة بن حزم، والمشهور الأول. قوله: (الشعب) ، بكسر الشين: الطريق في الجبل، وجمعه شعاب. قوله: (وقام الأنصاري) ، وهو عباد بن بشر. قوله: (ربيئة) ، بفتح الراء وكسر الباء الموحدة: هو العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو، ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه، من: ربأ يربأ من باب: فتح يفتح. قوله: (فرماه) ، الضمير المرفوع يرجع إلى المشرك، والمنصوب إلى الأنصاري. قوله: (حتى مضى ثلاثة أسهم) اي: حتى كمل ثلاثة أسهم. قوله: (قد نذروا به) ، بفتح النون وكسر الذال المعجمة: أي علموا وأحسوا بمكانه. قوله: (ألا انبهتني) كلمة: ألا، بفتح الهمزة والتخفيف بمعنى الإنكار، فكأنه أنكر عليه عدم إنباهه، ويجوز بالفتح والتشديد، ويكون بمعنى: هلا، بمعنى اللوم والعتب على ترك الإنباه. قوله: (كنت في سورة أقرؤها) ، وكانت سورة الكهف، حكاه البيهقي. قوله: (فنزفه الدم) ،
(3/50)
في رواية البخاري بفتح الزاي، وبالفاء. قال الجوهري: يقال نزفه الدم إذا خرج منه دم كثير حتى يضعف، فهو نزيف ومنزوف، وقال ابن التين: هكذا رويناه، والدي عند أهل اللغة: نزف دمه، على صيغة المجهول، أين: سال دمه. وقال ابن جني: أنزفت البئر وأنزفت هي، جاء مخالفا للعادة. وفي (المحكم) : أنزفت البئر: نزحت. وقال ابن طريق: تميم تقول: أنزفت، وقيس تقول: نزفت، ونزفه الحجام ينزفه وينزفه: أخرج دمه كله، ونزفه الدم، وإن شئت قلت: أنزفه، وحكى الفراء: أنزفت البئر: ذهب ماؤها.
الخامس في استنباط الاحكام منه احتج الشافعي ومن معه بهذا الحديث: أن خروج الدم وسيلانه من غير السبيلين لا ينقض الوضوء، فإنه لو كان ناقضاً للطهارة لكانت صلاة الأنصاري به تفسد أول ما أصابه الرمية، ولم يكن يجوز له بعد ذلك أن يركع ويسجد وهو محدث، واحتج أصحابنا الحنفية بأحاديث كثيرة أقواها وأصحها ما رواه البخاري في (صحيحه) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي، عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم. قال هشام: قال أبي: ثم توضيء لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت) . لا يقال: قوله: (ثم توضيء لكل صلاة) ، من كلام عروة، لأن الترمذي لم يجعله من كلام عروة وصححه. وأما احتجاج الشافعي ومن معه بذلك الحديث فمشكل جدا، لأن الدم إذا سال أصاب بدنه وجلده، وربما أصاب ثيابه ومن نزل عليه الدماء مع إصابة شيء من ذلك، وإن كان يسيرا لا تصح صلاته عندهم، ولئن قالوا: إن الدم كان يخرج من الجراحة على سبيل الزرق حتى لا يصيب شيئا من ظاهر بدنة إن كان كذلك فهو أمر عجيب وهو بعيد جدا، وقال الخطابي: لست أدري كيف يصح الاستدلال به والدم إذا سال يصيب بدنه وربما أصاب ثيابه، ومع إصابة شيء من ذلك، وإن كان يسيرا. لا تصح صلاته، وقال بعضهم: ولو لم يظهر الجواب عن كون الدم أصابه فالظاهر أن البخاري كان يرى أن خروج الدم في الصلاة لا يبطل، بدليل أنه ذكر عقيب هذا الحديث اثر الحسن البصري، قال: ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم. قلت: هذا أعجب من الكل وأبعد من العقل، وكيف يجوز هذا القائل نسبة جواز الصلاة مع خروج الدم فيها مع غير دليل قوي إلى البخاري؟ وأثر الحسن لا يدل على شيء من ذلك أصلا، لأنه لا يلزم من قوله: (يصلون في جراحاتهم) ، أن يكون الدم خارجا وقتئذ، ومن له جراحة لا يترك الصلاة لأجلها بل يصلي وجراحته إما معصبة بشيء، أو مربوطة بجبيرة، ومع ذلك لو خرج شيء من ذلك تفسد صلاته بمجرد الخروج، ولا بد من سيلانه ووصوله إلى موضع يلحقه حكم التطهير.
وقال الحسن ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم
اي: قال الحسن البصري: ومعناه يصلون في جراحاتهم من غير سيلان الدم، والدليل عليه ما رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) : عن هشام عن يونس عن الحسن: أنه كان لا يرى الوضوء من الدم إلا ما كان سائلًا، هذا الذي روي عن الحسن بإسناد صحيح هو مذهب الحنفية، وحجة لهم على الخصم، فبطل بذلك قول القائل المذكور، ولو لم يظهر الجواب ... إلى آخره، ولم يكن المراد من أثر الحسن ما ذهب إليه فهمه بل وهمه، فذلك مع علمه ووقوفه على الذي رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) المذكور تركه، ولم يذكره لكونه يرد عليه ما ذهب إليه، ويبطل ما اعتمد عليه، وليس هذا شأن المنصفين وإنما هذا دأب المعاندين المعتصبين الذي يدقون الحديد البارد على السندان.
وقال طاوس ومحمد بن علي وأهل الحجاز ليس في الدم وضوء

طاوس هو ابن كيسان اليماني الحميري، أحد الأعلام التابعين وخيار عباد الله الصالحين. قال يحيى بن معين: اسمه ذكوان، وسمي طاوساً لأنه كان طاوس القراء، ووصل أثره ابن ابي شيبة بإسناد صحيح عن عبيد الله بن موسى عن حنظلة عن طاوس أنه كان لا يرى في الدم السائل وضوء يغسل منه الدم ثم حبسه، وهذا ليس بحجة لهم لأنهم لا يرون العمل بفعل التابعي، ولا هو حجة على الحنفية من وجهين: الأول: أنه لا يدل على أن طاوساً كان يصلي والدم سائل. والثاني: وإن سلمنا ذلك، فالمنقول عن أبي حنيفة أنه كان يقول: التابعون رجال ونحن رجال يزاحموننا ونزاحمهم، والمعنى أن أحدا منهم إذا أدى
(3/51)
اجتهاده إلى شيء لا يلزمنا الأخذ به، بل نجتهد كما اجتهد هو، فما أدى اجتهادنا إليه عملنا به وتركنا اجتهاده. واما محمد بن علي فهو: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، الهاشمي المدني، أبو جعفر المعروف: بالباقر، سمي به لأنه بقر العلم أي: شقه بحيث عرف حقائقه، وهو أحد الأعلام التابعين الأجلاء، وروى هذا موصولا في (فوائد) الحافظ أبي بشر المعروف بسمويه، من طريق الأعمش، قال: سألت أبا جعفر الباقر عن الرعاف، فقال: لو سال نهر من دم ما أعدت منه الوضوء. وقال الكرماني: ويحتمل أن يكون محمد بن علي هذا محمد بن عليه المشهور بابن الحنيفة، والظاهر الاول. واعلم أن جميع ما ذكر في هذا الباب ليس بحجة على الحنفية، فإن كان من أقوال الصحابة فكل واحد له تأويل ومحمل صحيح، وإن كان من قول التابعين فليس بحجة عليهم، لما ذكرنا عن ابي حنيفة الآن. وأما عطاء فهو ابن أبي رباح وأثره وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه. قوله: (وأهل الحجاز) من عطف العام على الخاص، لأن طاوساً ومحمد بن علي وعطاء حجازيون، وغير هؤلاء الثلاثة مثل سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والفقهاء السبعة من أهل المدينة، ومالك والشافعي وآخرون، وخالفهم أبو حنيفة، واستدل بما رواه الدارقطني: إلا أن يكون دمًا سائلًا، وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين. قال ابو عمر: وبه قال الثوري والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وإن كان الدم يسيرا غير خارج ولا سائل فإنه لا ينقض الوضوء عند جميعهم، وما أعلم أحدا أوجب الوضوء من يسير الدم إلا مجاهدًا وحده.
وعصر ابن عمر بثرةً فخرج منها الدم ولم يتوضا

وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: حدثنا عبد الوهاب حدثنا سليمان بن التيمي عن بكر، قال: (رأيت ابن عمر عصر بثرة في وجهه فخرج منها شيء من دم، فحكه بين إصبعيه ثم صلى ولم يتوضأ) . (البثرة) ، بفتح الباء الموحدة وسكون الثاء المثلثة، ويجوز فتحها وهو خراج صغير. يقال: بثر وجهه، وهذا الأثر حجة للحنفية، لأن الدم الخارج بالعصر لا ينقض الوضوء عندهم لأنه مخرج، والنقض يضاف إلى الخارج دون المخرج كما هو مقرر في كتبهم، فإن فرح أحد من الخصوم أنه حجة على الحنفية فهي فرحة غير مستمرة.
وبزق ابن أبي أوفى دماً فمضى في صلاته

ابن أبي أوفى: اسمه عبد الله، وأبو أوفى اسمه: علقمة بن الحارث الصحابي بن الصحابي، شهد بيعة الرضوان وما بعدها من المشاهد، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة سنة سبع وثمانين، وقد كف بصره، وهو أحد من رآه أبو حنيفة من الصحابة وروى عنه، ولا يلتفت إلى قول المنكر المتعصب: وكان عمر أبي حنيفة حينئذ سبع سنين، وهو سن التمييز. هذا على الصحيح إن مولد أبي حنيفة سنة ثمانين، وعلى قول من قال: سنة سبعين، يكون عمره حينئذ سبعة عشر سنة، ويستبعد جدا أن يكون صحابي مقيما ببلدة، وفي أهلها من لا يكون رآه وأصحابه أخبر بحاله وهم ثقات في أنفسهم قوله: (بزق) ، بالزاي والسين والصاد: بمعنى واحد، وهذا الأثر وصله سفيان الثوري، وفي (جامعه) عن عطاء بن السائب أنه رآه يفعل ذلك، ورواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) بسند جيد عن عبد الوهاب الثقفي عن عطاء بن السائب، قال: رأيت ابن أبي أوفى بزق دمًا هو يصلي ثم مضى في صلاته، وهذا ليس بحجة لهم علينا، لأن الدم الذي يخرج من الفم، إن كان من جوفه فلا ينقض وضوءه، وإن كان من بين أسنانه فالاعتبار للغلبة بالبزاق والدم، ولم يتعرض الراوي لذلك، فلم يبق حجة. والحكم بالغلبة له أصل وروى ابن أبي شيبة عن الحسن في رجل بزق فرأى في بزاقه دمًا أنه لم يرد ذلك شيئا حتى يكون عبيطاً، وروي عن ابن سيرين أنه ربما بزق فيقول لرجل: أنظر هل تغير الريق؟ فإن تغير، بزق الثانية، فان كان في الثانية متغيراً فإنه يتوضأ، وإن لم يكن في الثانية متغيراً لم ير وضوأً. قلت: التغير لا يكون إلا بالغلبة.
وقال ابن عمر والحسن فيمن يحتجم ليس عليه إلا غسل محاجمه
(3/52)
عبد الله بن عمر وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَهَذَانِ رَوَاهُمَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا ابْن نمير حَدثنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا (أَنه كَانَ إِذا احْتجم غسل أثر محاجمه) . وَحدثنَا حَفْص عَن أَشْعَث عَن الْحسن وَابْن سِيرِين (أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ بِغسْل أثر المحاجم) . وَلما ذكر ابْن بطال فِي شَرحه أثر ابْن عمر وَالْحسن. قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ الْمُسْتَمْلِي وَحده بِإِثْبَات: إلاَّ، وَرَوَاهُ الْكشميهني، وَأكْثر الروَاة بِغَيْر: إلاَّ، ثمَّ قَالَ: وَرِوَايَة الْمُسْتَمْلِي هِيَ الصَّوَاب، وَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي، ومقصودهم من تَصْحِيح هَذِه الرِّوَايَة إِلْزَام الْحَنَفِيَّة، وَلَا يصعد ذَلِك مَعَهم لِأَن جمَاعَة من الصَّحَابَة رَأَوْا فِيهِ الْغسْل، مِنْهُم: ابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عَمْرو وَعلي بن أبي طَالب، وروته عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بأسانيد جِيَاد، وَهُوَ مَذْهَب مُجَاهِد أَيْضا، وَأَيْضًا فالدم الَّذِي يخرج من مَوضِع الْحجامَة مخرج وَلَيْسَ بِخَارِج، والنقض يتَعَلَّق بالخارج كَمَا ذكرنَا، فَإِذا احْتجم وَخرج الدَّم فِي المحجم بمص الْحجام وَلم يسل وَلم يلْحق إِلَى مَوضِع يلْحقهُ حكم التَّطْهِير، فعلى الأَصْل الْمَذْكُور لَا ينْتَقض وضوؤه، وَلَكِن لَا بُد من غسل مَوضِع الْحجامَة، وَالْمَقْصُود إِزَالَة ذَلِك من مَوضِع الْحجامَة بِأَيّ شَيْء كَانَ، وَلَا يتَعَيَّن المَاء، وَفِي (الْمحلى) فِي أثر ابْن عمر: غسله بحصاة فَقَط، وَعَن اللَّيْث: يجْزِيه أَن يمسحه وَيُصلي وَلَا يغسلهُ، فَهَذَا يدل على أَن المُرَاد إِزَالَة ذَلِك. قَوْله: (محاجمه) جمع محجمة، بِفَتْح الْمِيم: مَكَان الْحجامَة، وبكسر الْمِيم: اسْم القارورة، وَالْمرَاد هَهُنَا الأول.

176 - حدّثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ قالَ حدّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عَنْ سَعيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ قالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَزَالُ العَبْدُ فِي صَلاَةٍ مَا كانَ فِي الَمسْجِدِ ينْتَظِرُ الصَّلاَةَ مَا لمْ يُحْدِثْ فقالَ رَجُلٌ أعْجَمِيٌّ مَا الحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قالَ الصَّوْتُ يَعْنِي الضَّرْطَةَ.

اقول: إِن كَانَ البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث هَهُنَا للرَّدّ على أحد مِمَّن هُوَ معود بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَغير مُنَاسِب، لِأَن حكم هَذَا الحَدِيث مجمع عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ خلاف. وَإِن كَانَ لأجل مطابقته لترجمة الْبَاب فَلَيْسَ كَذَلِك أَيْضا، لِأَنَّهُ دَاخل فِيمَن يرى الْوضُوء من المخرجين، وَقَالَ بعض الشُّرَّاح: وَالْبُخَارِيّ سَاقه لأجل تَفْسِير أبي هُرَيْرَة بالضرطة، وَهُوَ إِجْمَاع. قلت: لم يتَأَمَّل هَذَا مَا قَالَه، لِأَن الْبَاب مَا عقد لَهُ، وَلَا لَهُ مُنَاسبَة هُنَا.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة كلهم قد ذكرُوا، وَابْن أبي ذِئْب: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب، واسْمه: هِشَام بن شُعْبَة، وَسَعِيد بن أبي سعيد المقبرى، بِضَم الْبَاء وَفتحهَا، وَقيل: بِكَسْرِهَا أَيْضا.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون إلاَّ آدم فَإِنَّهُ أَيْضا دخل الْمَدِينَة.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لَا يزَال العَبْد فِي صَلَاة) اي: فِي ثَوَاب صَلَاة. قَوْله: (فِي صَلَاة) خبر: لَا يزَال. قَوْله: (مَا كَانَ فِي مَسْجِد) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَا دَامَ فِي مَسْجِد) . قَوْله: (ينْتَظر) : إِمَّا خبر للْفِعْل النَّاقِص، وَإِمَّا حَال. و (فِي الْمَسْجِد) خَبره، وَإِنَّمَا نكر الصَّلَاة وَعرف الْمَسْجِد لِأَنَّهُ قصد بالتنكير التنويع، ليعلم أَن المُرَاد نوع صلَاته الَّتِي ينتظرها، مثلا لَو كَانَ فِي انْتِظَار صَلَاة الظّهْر كَانَ فِي صَلَاة الظّهْر، وَفِي انْتِظَار الْعَصْر كَانَ فِي صَلَاة الْعَصْر، وهلم جراً. وَأما تَعْرِيف الْمَسْجِد فَظَاهر، لِأَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْمَسْجِد الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَهَذَا الْكَلَام فِيهِ الْإِضْمَار، تَقْدِيره: لَا يزَال العَبْد فِي ثَوَاب صَلَاة ينتظرها مَا دَامَ ينتظرها، والقرينة لفظ الِانْتِظَار، وَلَو كَانَ يجْرِي على ظَاهره لم يكن لَهُ أَن يتَكَلَّم، وَلَا أَن يَأْتِي بِمَا لَا يجوز فِي الصَّلَاة. قَوْله: (مَا لم يحدث) أَي: مَا لم يَأْتِ بِالْحَدَثِ. وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة زمانية، وَالتَّقْدِير: مُدَّة دوَام. عدم الْحَدث، كَمَا قَوْله تَعَالَى: {مَا دمت} (مَرْيَم: 31) أَي: مُدَّة دوامي {حَيا} (مَرْيَم: 31) فَحذف الظّرْف وخلفته: مَا، وصلتها. قَوْله: (أعجمي) نِسْبَة إِلَى الْأَعْجَم، كَذَا قيل، وَهُوَ الَّذِي لَا يفصح وَلَا يبين كَلَامه وَإِن كَانَ من الْعَرَب، والعجم خلاف الْعَرَب، وَالْوَاحد أعجمي. وَقَالَ ابْن الاثير: كل من لَا يقدر على الْكَلَام فَهُوَ اعجم ومستعجم. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: لَا نقل: رجل أعجمي، فتنسبه إِلَى نَفسه إلاَّ أَن يكون أعجم؛ وأعجمي بِمَعْنى مثل: دوار ودواري. قلت: فهم من كَلَامه أَن الْيَاء فِي: أعجمي، لَيست للنسبة، كَمَا قَالَ بَعضهم، وَإِنَّمَا هِيَ للْمُبَالَغَة. قَوْله: (فَقَالَ رجل) إِلَى آخِره: مدرج من سعيد.
بَيَان اسنتباط الاحكام الأول فِيهِ فضل انْتِظَار الصَّلَاة، لِأَن انْتِظَار الْعِبَادَة عبَادَة. الثَّانِي: فِيهِ أَن من يتعاطى أَسبَاب
(3/53)
الصلاة يسمى مصليا. الثالث: فيه أن هذه الفضيلة المذكورة لمن لا يحدث. وقوله: (ما لم يحدث) أعم من أن يكون فساء او ضراطاً أو غيرهم من نواقض الوضوء من المجمع عليه والمختلف فيه. وقال الكرماني: فإن قلت: الحدث ليس منحصراً في الضرطة. قلت: المراد الضرطة ونحوها من الفساء وسائر الخارجات من السبيلين، وإنما خصص بها لأن الغالب أن الخارج منهما في المسجد لا يزيد عليها. قلت: السؤال عام والجواب خاص، وينبغي أن يطابق الجواب والسؤال، ولكن فهم أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه، أن مقصود هذا السائل الحدث الخاص، وهو الذي يقع في المسجد حالة الانتظار، والعادة أن ذلك لا يكون إلا الضرطة، فوقع الجواب طبق السؤال، وإلا فأسباب النقض كثيرة.

177 - حدثنا أبو الوليد قال حدثنا ابن عيينة عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً.
(انظر الحديث 137 وطرفه) .
قال بعضهم: أورد البخاري هذا الحديث هنا لظهور دلالته على حصر النقض بما يخرج من السبيلين. قلت: هذا قطعة من حديث عبد الله بن زيد، وهو جواب للرجل الذي شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجد الشيء في الصلاة، حتى يخيل إليه. فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحًا، وهو جواب مطابق للسؤال، لأن سؤاله عن هذا وهو في حالة الصلاة، وفي حالة الصلاة لا يوجد غالبا إلا ضراط أو فساء. فأجاب صلى الله عليه وسلم بأنه لا ينصرف حتى يجد أحد هذين الشيئين، وليس هذا حصر النقض بما يخرج من السبيلين، فالقائل المذكور، وإن كان أراد بهذا الكلام نصرة البخاري وتوجيه وضع هذا الحديث في هذا الباب لما ذكره، فليس بشيء.
بيان رجاله وهم خمسة. الأول: أبو الوليد: هشام بن عبد الملك الطيالسي، هذا الذي قاله الأكثرون وفيهم هشام بن عمار، ويكنى بأبي الوليد، وروي أيضا عن ابن عيينة، ويروي عنه البخاري أيضا فيحتمل أن يكون هذا. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الرابع: عباد، بتشديد الباء الموحدة: ابن تميم الأنصاري. الخامس: عمه عبد الله بن زيد المازني رضي، الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده: منها: أن فيه التحديث والعنعنة. ومنها: أن رواته أئمة أجلاء. ومنها: أن رواته ما بين بصري وكوفي ومدني.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في الطهارة أيضا عن علي بن عبد الله وأبي الوليد، فرقهما. وفي البيوع عن أبي نعيم. وأخرجه مسلم في الطهارة عن ابي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وعمرو الناقد. وأخرجه أبو داود فيه عن قتيبة ومحمد ابن أحمد بن أبي خلف. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة ومحمد بن منصور. وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد بن صباح، عشرتهم عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعباد بن تميم عن عمه عن عبد الله بن زيد به.
بيان المعاني والإعراب قوله: (لا ينصرف) أي: المصلي عن صلاته، لأن تمام الحديث: (شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحًا) . وفي رواية (لا ينفلت) بمعنى: لا ينصرف، وكلمة: حتى، للغاية. وكلمة: ان، مقدرة بعدها، وإنما ذكر شيئين وهما: سماع الصوت ووجدان الرائحة، حتى يتناول الأصم والأخشم، وقد استوفينا الكلام فيه في باب: لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن.

178 - حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا جرير عن الاعمش عن منذر أبي يعلى الثوري عن محمد بن الحنفية قال: قال علي كنت رجلاً مداءً فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرت المقداد بن الاسود فسأله فقال فيه الوضوء.
(انظر الحديث: 132 وطرفه) .
تقدم الكلام فيه مستوفى: في آخر كتاب العلم، وجرير هو ابن عبد الحميد، والأعمش هو سليمان بن مهران، وذكر الكل فيما مضى. وقال بعضهم: أورد البخاري في هذا الباب هذا الحديث لدلالته على إيجاب الوضوء من المذي. وهو خارج من أحد المخرجين. قلت: هذا مجمع عليه وليس له مطابقة للترجمة. فافهم.
ورواه شعبة عن الاعمش
(3/54)
أي: روى هذا الحديث شعبة بن الحجاج عن سليمان الأعمش عن منذر إلى آخره. وأخرجه النسائي عن محمد بن علي بن خالد عن شعبة عن الأعمش به، والمذاء على وزن: فعال، بالتشديد يعني: كثير المذي.

179 - حدثنا سعد بن حفص قال حدثنا شيبان عن يحي عن أبي سلمة أن عطاء بن يسار أخبره أن زيد بن خالد أخبره أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه قلت أرأيت إذا جامع فلم يمن قال عثمان يتوضأكما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره قال عثمان سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألت عن ذلك عليًا والزبير وطلحة وأبي بن كعب رضي الله عنهم فأمروه بذلك.
(الحديث 179 طرفه في: 292) .
قال الكرماني: فإن قلت: ما وجه مناسبته للترجمة؟ قلت: هو مناسب لجزء من الترجمة، إذ هو يدل على وجوب الوضوء من الخارج من المخرج المعتاد. نعم لا يدل على الجزء الآخر وهو عدم الوجوب في غيره، ولا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على كل الترجمة، بل لو دل البعض على البعض بحيث لا يدل كل ما في الباب على كل الترجمة لصح التعبير بها. قلت: نعم لا يلزم أن يدل كل حديث في البا إلى آخره، لكن الحديث منسوخ بالإجماع فلا يناسبه الترجمة لأن الباب معقود فيمن لم ير الوضوء إلا من المخرجين وههنا لا خلاف فيه.
بيان رجاله المذكورين فيه وهم أحد عشر رجلا. الأول: سعد بن حفص أبو محمد الطلحي، بالمهملتين: الكوفي. الثاني: شيبان بن عبد الرحمن النحوي، أبو معاوية. الثالث: يحيى بن أبي كثير البصري التابعي. الرابع: أبو سلمة، بفتح اللام: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف التابعي، وكل هؤلاء تقدموا في باب كتابة العلم. الخامس: عطاء بن يسار، بفتح الياء آخر الحروف وبالسين المهملة: المدني، مر في باب كفران العشير. السادس: زيد بن خالد الجهني المدني الصحابي، تقدم في باب الغضب في الموعظة. السابع: عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، تقدم في باب الوضوء ثلاثًا، والأربعة الباقية هم الصحابة المشهورون.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث والعنعنة والإخبار والسؤال والقول. ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين: إثنان من كبار التابعين، وهما أبو سلمة وعطاء، والثالث تابعي صغير وهو: يحيى بن أبي كثير، والثلاثة على نسق واحد. ومنها: أن فيه صحابيين يروى أحدهما عن الآخر وهما: زيد بن ابي خالد وعثمان بن عفان. ومنها: أن رواته ما بين كوفي وبصري ومدني.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره وأخرجه البخاري هنا عن سعد بن حفص عن شيبان، وأخرجه أيضا عن أبي معمر عن عبد الوارث عن حسين المعلم كلاهما، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن يسار عنه به، زاد في حديث حسين عن يحيى، قال: وأخبرني أبو سلمة ان عروة بن الزبير أخبره أن أيوب الأنصاري أخبره أنه سمع ذلك من رسول الله، عليه الصلاة والسلام. وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن زهير بن حرب وعبد بن حميد وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، ثلاثتهم عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه عن حسين المعلم به، وذكر الزيارة التي في آخره عن عبد الوارث ابن عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه عن جده.
بيان المعنى والإعراب قوله: (قلت) ، بصيغة المتكلم، وإنما لم يقل: قال كما قال إنه سأل، لأن فيه نوع من محاسن الكلام لأن فيه اعتبارين وهما عبارتان عن أمر واحد ففي الأول نظر إلى جانب الغيبة، وفي الثاني إلى جانب المتكلم. قوله: (أرأيت) معناه: أخبرني، ومفعوله محذوف تقديره: أرأيت أنه يتوضؤ. قوله: (فلم يمن) ، بضم الياء آخر الحروف: من الإمناء، عليه الرواية، وفيه لغة ثانية: فتح الياء، وثالثة: ضم الياء مع فتح الميم وتشديد النون. يقال: منى وأمنى ومنى، ثلاث لغات والوسطى أشهر وأفصح، وبها جاء القرآن. قال الله تعالى: {افرأيتم ما تمنون} (الواقعة: 58) قوله: (يتوضأ) أمره بالوضوء احتياطًا، لأن الغالب خروج المذي من المجامع وإن لم يشعر به. قوله: (كما يتوضأ للصلاة) احترز به عن الوضوء اللغوي. قوله: (ويغسل ذكره) ، أمره بذلك لتنجسه بالمذي، ولا يقال الغسل مقدم على التوضيء، فلم أخره؟ لأنا نقول: الواو ولا تدل على الترتيب بل للجمع المطلق، فلو توضأ قبله يجوز ولا ينتقض وضوؤه. قوله: (سمعت) أي: سمعت المذكور كله من رسول الله، عليه الصلاة
(3/55)
والسلام. قوله: (فسألت عن ذلك) مقول زيد لا مقول عثمان، رضي الله تعالى عنه. قوله: (فامروه) الضمير المرفوع فيه راجع إلى هؤلاء الصحابة الأربعة: علي والزبير وطلحة وأبي بن كعب، رضي الله تعالى عنهم. والضمير المنصوب فيه راجع إلى المجامع. فإن قلت: لم يمض ذكر المجامع. قلت: قوله: (إذا جامع) اي: الرجل يدل على المجامع ضمنا من قبل قوله تعالى: {أعدلوا هو اقرب للتقوى} (المائدة: 8) اي: العدل أقرب، دل عليه: اعدلوا. قوله: (بذلك) أي: بأنه يتوضأ ويغسل ذكره.
بيان استنباط الأحكام الأول: فيه وجوب الوضوء على من يجامع امرأته ولا ينزل. الثاني: فيه وجوب غسل ذكره، واختلفوا هل يجب غسل كل الذكر أو غسل ما أصابه المذي، فقال مالك بالاول، وقال الشافعي بالثاني. قلت: اختلف أصحاب مالك، منهم من أوجب غسل الذكر كله لظاهر الخبر، ومنهم من أوجب غسل مخرج المذي وحده وعن الزهري، لا يغسل مالك، منهم من أوجب غسل الذكر كله لظاهر الخبر، ومنهم من أوجب غسل المذي وحده وعن الزهري، لا يغسل الانثيين من المذي إلا أن يكون أصابهما شيء. وقال الأثرم: وعلى هذا مذهب ابي عبد الله، سمعته لا يرى في المذي إلا الوضوء، ولا يرى فيه الغسل وهذا قول أكثر أهل العلم. وفي (المعنى) لابن قدامة: المذي ينقض الوضوء وهو ما يخرج لزجاً متسبسباً عند الشهوة فيكون على رأس الذكر. واختلفت الرواية في حكمه، فروي أنه لا يوجب الاستنجاء والوضوء، والرواية الثانية يجب غسل الذكر والانثيين مع الوضوء. وقال الطحاوي: لم يكن قوله عليه الصلاة والسلام: (يغسل مذاكيره) لإيجاب الغسل، ولكنه ليتقلص اي ليرتفع وينزوي المذي فلا يخرج، والدليل عليه ما جاء، في (صحيح مسلم) : (توضأ وانضح فرجك) ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وبه قال الشافعي ومالك في رواية، وأحمد في رواية.
فائدة إعلم أن حديث علي، رضي الله تعالى عنه: (كنت رجلا مذاء) ، وهو المذكور قبل هذا الحديث وفي موضع آخر من (صحيح البخاري) : (فكنت أستحى أن اسأل رسول الله، عليه الصلاة والسلام، لمكان ابنته. فقال: ليغسل ذكره ويتوضأ) . وقال ابن عباس: قال علي، رضي الله تعالى عنه: (أرسلنا المقداد إلى رسول الله، عليه الصلاة والسلام، فسأله عن المذي الذي يخرج من الإنسان، كيف يفعل؟ فقال، عليه الصلاة والسلام: توضأ وانضح فرجك) . وفي (صحيح ابن حبان) من حديث أبي عبد الرحمن عن علي: (كنت رجلا مذاء فسألت النبي، عليه الصلاة والسلام، فقال: إذا رأيت الماء فاغسل ذكرك) . ورواه الطبراني في (الأوسط) من حديث حصين بن عبد الرحمن عن حصين بن قبيصة عنه: (كنت رجلا مذاءً فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال) الحديث. قال ابو القاسم: لم يروه عن حصين إلا زائدة، تفرد به إسماعيل بن عمرو، ورواه غير إسماعيل عن أبي حصين عن حصين بن قبيصة. وعند ابن ماجه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي) . وفي (مسند) أحمد عن عبد الله: حدثني أبو محمد شيبان حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن عن علي: (كنت رجلا مذاءً، فسألت النبي، عليه الصلاة والسلام، عن ذلك) الحديث، وفيه أيضا من حديث هانىء بن هانىء عن علي: (فأمرت المقداد فسأل النبي، عليه الصلاة والسلام، فضحك فقال: فيه الوضوء) . وفي (سنن الكجي) كل: فحل يمذي، وليس فيه إلا الطهور. وفي (صحيح ابن خزيمة) من حديث الدكين عن حصين عنه بلفظ: فذكرت ذلك للنبي، عليه الصلاة والسلام. أو ذكر له. وفي (صحيح الحافظ ابي عوانة) من حديث عبيدة عنه: (يغسل انثييه وذكره ويتوضأ وضوء للصلاة) . وفي هذا رد لما ذكره أبو داود عن أحمد ما قال: غسل الأنثيين إلا هشام بن عروة في حديثه.
وأما الاحاديث كلها فليس فيها ذا، وفي (صحيح ابن حبان) من حديث رافع بن خديج: (أن عليا أمر عماراً أن يسأل النبي، عليه الصلاة والسلام، فقال: يغسل مذاكيره) . وفي (صحيح ابن خزيمة) : أخبرنا يونس عن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أن مالكًا حدثه عن سالم بن أبي النضر عن سليمان بن يسار عن المقداد (أنه سأل النبي، عليه الصلاة والسلام، عن الرجل يدنو من امرأته فلا ينزل؟ قال: إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه) . زاد ابن حبان عن عطاء: أخبرني عايش ابن أنس قال: تذاكر علي وعمار والمقداد المذي، فقال علي: إني، رجل مذاء، فسألا عن ذلك النبي، عليه الصلاة والسلام، قال عايش: فسأله أحد الرجلين. عمار أو المقداد. قال عطاء: وسماه عايش فنسيته، قال أبو عمر: رواية يحيى عن مالك: (فلينضح فرجه) . وفي رواية ابن بكير والقعنبي وابن وهب: (فليغسل فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة) . وهذا هو الصحيح، وبه رواه عبد الرزاق عن مالك، كما رواه يحيى: (ولينضح فرجه) . ولو صحت رواية يحيى ومن تابعه كانت مجملة تفسرها رواية غيره،
(3/56)
لأن النضح يكون في لسان العرب مرة الغسل ومرة الرش، وفيه نظر لما تقدم من عند ابن ماجه، وكذلك رواه أبو داود في (سننه) عن القعنبي، وذكر الدارقطني في كتاب (أحاديث الموطأ) : أن أبا مصعب وأحمد بن إسماعيل المدني وأبي وهب وعبد الله بن يونس ويحيى بن بكير والشافعي وابن القاسم وعتبة بن عبد الله وأبا علي الحنفي وإسحاق بن عيسى والقاسم ابن يزيد رووه عن مالك بلفظ: (فلينضح) ، إلا ابن وهب فان في بعض ألفاظه: (فليغسل) . فلو كان أبو عمر عكس قوله لكان صوابا من فعله. وقال ابن حبان: قد يتوهم بعض المستمعين لهذه الأخبار أن بينها تضاداً وتهاتراً، وليس كذلك، لأنه يحتمل أن يكون علي أمر عماراً أن يسأله، فسأله. ثم أمر المقداد أن يسأله فسأله، ثم سأل هو بنفسه والدليل على صحة ما ذكرت أن متن كل خبر بخلاف متن الآخر ففي خبر عبد الرحمن: (إذا رأيت الماء فاغسل ذكرك، وإذا رأيت المني فاغتسل) . وفي خبر إياس بن خليفة عن عمار: (يغسل مذاكيره ويتوضأ) ، وليس فيه ذكر المني، وخبر المقداد مستأنف ينبئك أنه ليس بالسؤالين اللذين ذكرناهما، لأن فيه سؤالاً عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه؟ فإن عندي ابنته، فذلك ما وصفنا. على أن هذه أسئلة متباينة في مواضع مختلفة لعلل موجودة.
وقال صاحب (التلويح) : وقد ورد في حديث حسن الإسناد أن النبي، عليه الصلاة والسلام، هو السائل له، ثم رواه بإسناده إلى أن قال علي، رضي الله تعالى عنه: (رآني النبي، عليه الصلاة والسلام، وقد شحبت، فقال: يا علي قد شحبت. قلت: شحبت من اغتسال الماء وأنا رجل مذاء، فاذا رأيت منه شيئا اغتسلت. قال: لا تغتسل يا علي) . ثم قال صاحب (التلويح) : فيحتمل أن يكون علي، رضي الله عنه، لما بعث من بعث رآه، عليه الصلاة والسلام، في غضون البعثة شاحباً، ونزل على جوابه عن ذلك بمنزلة السؤال ابتداء تجوزاً. وفي (سنن البيهقي الكبير) من حديث ابن جريج عن عطاء أن عليا، رضي الله تعالى عنه، كان يدخل في إحليله الفيلة من كثرة المذي، وفي حديث حسان بن عبد الرحمن الضبعي عند ابي موسى المديني في معرفة الصحابة بسند لا بأس به، قال، عليه الصلاة والسلام: (لو اغتسلتم من المذي كان أشد عليكم من الحيض) . وفي حديث ابن عباس عند الدارقطني وقال: (لا يصح أن رجلا قال: يا رسول الله! إني كلما توضأت سال، فقال: إذا توضأت فسال من قرنك إلى قدمك فلا وضوء عليك) .

180 - حدثنا إسحاق هو ابن منصور قال أخبرنا النضر قال أخبرنا شعبة عن الحكم عن ذكوان أبي صالح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى رجل من الانصار فجاء ورأسه يقطر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلنا أعجلناك فقال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعجلت أو قحطت فعليك الوضوء.
هذا الحديث لا يناسب ترجمة الباب إلا أن بعض الشراح قال: أقل حال هذا الحديث حصول المذي لمن جامع ولم يمن، فصدق عليه وجوب الوضوء من الخارج من أحد السبيلين، ولكن يعكر عليه إجماع أهل العلم وأئمة الفتوى على وجوب الغسل من مجاوزة الختانن الختان لأمر الشارع بذلك، وهو زيادة على ما في هذا الحديث، فيجب الأخذ بها.
بيان رجاله وهم ستة: الأول: إسحاق بن منصور، هذه رواية الأصيلي وفي رواية كريمة وغيرها: إسحاق، كذا بلا ذكر: منصور، وفي رواية ابي ذر: حدثنا إسحاق بن منصور بن بهرام، بفتح الباء الموحدة: وهو المعروف بالكوسج المروزي، مر في باب فضل من علم، وهو الأصح، نص عليه أبو نعيم رحمه الله في (المستخرج) الثاني: النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: ابن شميل، بضم الشين المعجمة: ابن والحسن المازني البصري، تقدم في آخر باب حمل العنزة في الاستنجاء. الثالث: شعبة بن الحجاج. الرابع: الحكم، بفتح الحاء المهملة وفتح الكاف: ابن عتيبة، تصغير عتبة الباب، تقدم في باب السمر بالعلم. الخامس: أبو صالح ذكوان الزيات المدني، تقدم في باب أمور الإيمان وغيره. السادس: أبو سعيد الخدري سعد بن مالك الأنصاري.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث والعنعنة والإخبار. ومنها: أن رواته ما بن مروزي وبصري وواسطي وكوفي ومدني.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ليس له تعدد. وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن ابي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار، ثلاثتهم عن غندر عن شعبة به. وأخرجه ابن ماجه عن ابي بكر بن أبي شيبة وابن بشار به.
(3/57)
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (أرسل إِلَى رجل من الْأَنْصَار) وَلمُسلم وَغَيره: مر على رجل، فَيحمل على أَنه مر بِهِ فَأرْسل إِلَيْهِ وسمى مُسلم هَذَا الرجل فِي رِوَايَته من طَرِيق أُخْرَى عَن ابي سعيد عتْبَان، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة، وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، وَلَفظه: من رِوَايَة شريك بن أبي نمر عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد عَن أَبِيه، قَالَ: (خرجت مَعَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى قبا، حَتَّى إِذا كُنَّا فِي بني سَالم وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بَاب عتْبَان فَخرج يجر إزَاره فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أعجلنا الرجل) . فَذكر الحَدِيث بِمَعْنَاهُ، وعتبان الْمَذْكُور هُوَ ابْن مَالك الْأنْصَارِيّ الخزرجي السالمي البدري، وَإِن لم يذكرهُ ابْن إِسْحَاق فيهم، وَكَذَا نسبه تَقِيّ بن مخلد فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه، وَوَقع فِي رِوَايَة فِي (صَحِيح ابي عوَانَة) أَنه ابْن عتبَة. وَالْأول أصح، وَرَوَاهُ ابْن إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد عَن أَبِيه عَن جده، لكنه قَالَ: فَهَتَفَ بِرَجُل من أَصْحَابه يُقَال لَهُ: صَالح، فَإِن حمل على تعدد الْوَقْعَة وإلاَّ فطريق مُسلم أصح، وَقد وَقعت الْقِصَّة أَيْضا لرافع بن خديج وَغَيره. أخرجه أَحْمد وَغَيره، وَلَكِن الْأَقْرَب فِي تَفْسِير الْمُبْهم الَّذِي فِي البُخَارِيّ أَنه عتْبَان. وَالله اعْلَم. قَوْله: (فجَاء) أَي: الرجل الْمَدْعُو. قَوْله: (وَرَأسه يقطر) جملَة إسمية وَقعت حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي: جَاءَ، وَمعنى: يقطر، ينزل من المَاء قَطْرَة قَطْرَة من أثر الِاغْتِسَال، وَإسْنَاد الْقطر إِلَى الرَّأْس مجَاز من قبل: سَالَ الْوَادي. قَوْله: (لَعَلَّنَا) كلمة: لَعَلَّ، هُنَا لإِفَادَة التَّحْقِيق، فَمَعْنَاه: قد أعجلناك. وَقَوله: (فَقَالَ: نعم) مُقَرر لَهُ، وَلَا يُمكن أَن يكون: لَعَلَّ، هُنَا على بَابه للترجي، والترجي لَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَهنا قد أجَاب الرجل بقوله: نعم. (و: أعجلناك) من الإعجال. يُقَال: أعجله إعجالاً وعجله تعجيلاً: إِذا استحثه، وَمَعْنَاهُ: اعجلناك عَن فرَاغ شغلك وحاجتك عَن الْجِمَاع. قَوْله: (إِذا أعجلت) على بِنَاء الْمَجْهُول، وَفِي أصل أبي ذَر: (إِذا عجلت) ، بِفَتْح الْعين وَكسر الْجِيم المخففة، وَفِي رِوَايَة: (إِذا أعجلت) ، بِالتَّشْدِيدِ على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَو قحطت) ، بِضَم الْقَاف وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: قحطت، بِفَتْح الْقَاف. وَقَالَ لنا شَيخنَا عبد الله بن احْمَد النَّحْوِيّ: الصَّوَاب ضم الْقَاف. وَفِي (صَحِيح مُسلم) : (أقحطت) ، بِفَتْح الْهمزَة والحاء، وَفِي رِوَايَة ابْن بشار بِضَم الْهمزَة وَكسر الْحَاء، وَالرِّوَايَتَانِ صحيحتان، وَمعنى الإقحاط هُنَا عدم الْإِنْزَال فِي الْجِمَاع، وَهُوَ اسْتِعَارَة من قُحُوط الْمَطَر، وَهُوَ انحباسه، وقحوط الأَرْض وَهُوَ عدم إخْرَاجهَا النَّبَات. وَحكى الْفراء: قحط الْمَطَر، بِالْكَسْرِ. وَفِي (الْمُحكم) : الْفَتْح أَعلَى، وقحط النَّاس بِالْكَسْرِ لَا غير وأقحطوا، وكرهها بَعضهم. وَلَا يُقَال: قحطوا وَلَا أقحطوا. وَحكى أَبُو حنيفَة: قحط الْقَوْم وَفِي (أمالي) الهجري: أقحط النَّاس. وَقَالَ التَّمِيمِي: وَقع فِي الْكتاب: قحطت، وَالْمَشْهُور أقحطت بِالْألف. يُقَال للَّذي أعجل فِي الْإِنْزَال فِي الْجِمَاع، فَفَارَقَ وَلم ينزل المَاء أَو جَامع فَلم يَأْته المَاء: أقحط. قَالَ الْكرْمَانِي: فعلى هَذَا التَّقْدِير لَا يكون لقَوْله: أعجلت فَائِدَة، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يُقَال: إِنَّه من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص. فَإِن قلت: كلمة: أَو، مَا مَعْنَاهَا هَهُنَا؟ هَل هُوَ شكّ من روى أَو تنويع الحكم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: الظَّاهِر أَنه من كَلَامه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمرَاده بَيَان أَن عدم الْإِنْزَال سَوَاء كَانَ بِأَمْر خَارج عَن ذَات الشَّخْص أَو كَانَ من ذَاته لَا فرق بَينهمَا فِي الحكم فِي أَن الْوضُوء عَلَيْهِ فيهمَا. قَوْله: (فَعَلَيْك الْوضُوء) يجوز فِي الْوضُوء الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (عَلَيْك) ، وَالنّصب على أَن مفعول: عَلَيْك، لِأَنَّهُ إسم فعل نَحْو: عَلَيْك زيدا، وَمَعْنَاهُ: فَالْزَمْ الْوضُوء.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ جَوَاز الْأَخْذ بالقرائن، لِأَن الصَّحَابِيّ لما أبضأ عَن الْإِجَابَة مُدَّة الِاغْتِسَال خَالف الْمَعْهُود مِنْهُ، وَهُوَ سرعَة الْإِجَابَة للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَمَّا رأى عَلَيْهِ أثر الْغسْل دلّ على أَنه كَانَ مَشْغُولًا بجماع. الثَّانِي: يسْتَحبّ الدَّوَام على الطَّهَارَة لكَون النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يُنكر عَلَيْهِ تَأْخِير إجَابَته، وَكَأن ذَلِك كَانَ قبل إِيجَابهَا، إِذْ الْوَاجِب لَا يُؤَخر للمستحب. الثَّالِث: أَن هَذَا الحكم مَنْسُوخ، وَلم يق بِعَدَمِ نسخه إلاَّ من روى عَن هِشَام بن عُرْوَة وَالْأَعْمَش وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَدَاوُد، وَادّعى القَاضِي عِيَاض أَنه لَا يعلم من قَالَ بِهِ بعد خلاف الصَّحَابَة إلاَّ الْأَعْمَش وَدَاوُد. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إعلم أَن الْأمة مجمعة الْآن على وجوب الْغسْل بِالْجِمَاعِ، وَإِن لم يكن مَعَه إِنْزَال، وعَلى وُجُوبه بالإنزال، وَكَانَت جمَاعَة من الصَّحَابَة على أَنه لَا يجب إلاَّ بالإنزال، ثمَّ رَجَعَ بَعضهم وانعقد الْإِجْمَاع بعد الآخرين. وَفِي (الْمحلى) : وَمِمَّنْ رأى أَن لَا غسل من الْإِيلَاج فِي الْفرج إِن لم يكن إِنْزَال عُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَطَلْحَة بن عبيد الله وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن مَسْعُود وَرَافِع بن خديج وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي بن كَعْب وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَابْن عَبَّاس والنعمان بن
(3/58)
بشير وزيد بن ثابت وجمهور الأنصار وعطاء بن أبي رباح وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهشام بن عروة والأعمش وبعض أصحاب الظاهر. وقال ابن حزم: وروي إيجاب الغسل عن عائشة أم المؤمنين وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عمر وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب وابن مسعود وابن عباس والمهاجرين. قلت: وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وبعض أصحاب الظاهر والنخعي والثوري.
تابعه وهب.
أي تابع النضر بن شميل وهب بن جرير ابن حازم، ووصل هذه المتابعة أبو العباس السراج في مسنده عن زياد بن أيوب.
قال حدثنا شعبة قال أبو عبد الله ولم يقل غندر ويحيى عن شعبة الوضوء

قوله: (قال: حدثنا شعبة) وفي بعض النسخ: حدثنا شعبة، بدونه لفظ: قال، وهو المراد سواء ذكر أو لا، أي: قال وهب: حدثنا شعبة عن الحكم عن ذكوان ... إلى آخره، بمثل ما ذكر. وفي رواية وهب عن شعبة. أخرجها الطحاوي. قال: أخبرنا يزيد، قال: حدثنا وهب، قال: حدثنا شعبة عن الحاكم عن ذكوان أبي صالح عن أبي سعيد الخدري ... الحديث. قوله: (ولم يقل) ، من كلام البخاري أي: لم يقل غندر، وهو محمد بن جعفر ويحيى بن سعيد القطان الوضوء، يعني رويا هذا الحديث عن شعبة بهذا الإسناد والمتن، لكن لم يقولا فيه لفظ: الوضوء، بل قالا: فعليك، فقط بحذف المبتدأ وجاز ذلك لقيام القرينة عليه، والمقدر عن القرينة كالملفوظ. كذا قاله الكرماني. وقال بعضهم: لكن لم يقولا فيه: عليك الوضوء، وأما يحيى فهو كما قاله، قد أخرجه أحمد في (مسنده) عنه ولفظه: فليس عليك غسل. وأما غندر فقد أخرجه أحمد أيضا في مسنده عنه لكنه ذكر الوضوء ولفظه: (فلا غسل عليك، عليك الوضوء) . وهكذا أخرجه مسلم وابن ماجه والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عنه، وكذا ذكر أكثر أصحاب شعبة كأبي داود الطيالسي وغيره عنه، وكأن بعض مشايخ البخاري حدثه به عن يحيى وغندر معًا، فساقه له على لفظ يحيى. والله اعلم. قلت: أما الكلام الكرماني فلا وجه له، لأن معنى قوله: عليك، على ما قرره يحتمل أن يكون: عليك الغسل، ويحتمل أن يكون: عليك الوضوء، والاحتمال الأول غير صحيح لأن في رواية يحيى في مسند أحمد التصريح بقوله: فليس عليك غسل، والاحتمال الثاني هو الصحيح، لأن في رواية غندر: عليك الوضوء، فحينئذ قوله: لم يقل غندرو يحيى عن شعبة الوضوء، معناه: لم يذكرا لفظ: عليك الوضوء، وهذا كما رأيت في رواية أحمد عن يحيى ليس فيها: عليك الوضوء، وإنما لفظه: فليس عليك غسل. فان قلت: كيف قال البخاري: لم يقولا عن شعبة الوضوء، فهذا في رواية غندر ذكر: عليك الوضوء؟ قلت: كأنه سمع من بعض مشايخه أنه حدثه عن يحيى وغندر كليهما، فساق شيخه له على لفظ يحيى، ولم يسقه على لفظ غندر، فهذا تقرير ما قاله بعضهم، ولكن فيه نظر على ما لا يخفى.

35 - (باب الرجل يوضىء صاحبه)

أي: هذا باب في بيان حكم من يوضىء غيره. قوله: (يوضىء) بالتشديد والهمزة في آخره من: وضأ يوضىء، من باب التفعيل.
والمناسبة بين البابين من حيث إن كلا منهما مشتمل على حكم من أحكام الوضوء.

181 - حدثنى محمد بن سلام قال أخبرنا يزيد بن هارون عن يحيى عن موسى بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن اسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب فقضى حاجته قال اسامة بن زيد فجعلت أصب عليه ويتوضا فقلت يا رسول الله أتصلي فقال المصلى أمامك.
(انظر الحديث: 139 وطرفه) .
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم ستة. الأول: هو محمد بن سلام كما هو في رواية كريمة، وسلام بتخفيف اللام، وقيل بالتشديد، والأول أصح، وقد مر في كتاب الإيمان. الثاني: يزييد بن هارون، أحد الأعلام، مر في باب
(3/59)
التبرز في البيوت. الثالث: يحيى بن سعيد الأنصاري، مر في كتاب الوحي. الرابع: موسى بن عقبة الأسدي المدني التابعي، تقدم في إسباغ الوضوء. الخامس: كريب مولى ابن عباس التابعي، تقدم أيضا في إسباغ الوضوء. السادس: أسامة بن زيد، رضي الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة. ومنها: أن فيه رواية ثلاثة من التابعين في نسق واحد، وهم: يحيى وموسى وكريب، وهو من أوساط التابعين. ومنها: أن رواته ما بين بيكندي وواسطي ومدني، ووقع لابن المنير في هذا الاسناد وهم فإنه قال: فيه ابن عباس عن أسامة بن زيد، وليس من رواية ابن عباس، وإنما هو من رواية كريب مولى ابن عباس عن أسامة.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في الطهارة عن القعنبي وعن ابن سلام، وأخرجه في الحج عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن موسى بن عقبة، في الحج أيضا عن مسدد عن حماد بن زيد عن يحيى عن موسى. وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وعن محمد بن رمح عن ليث بن سعد عن يحيى بن سعيد به، وعن إسحاق عن يحيى بن آدم عن زهير كلاهما عن إبراهيم بن عقبة، وعن إسحاق عن وكيع عن سفيان عن محمد بن عقبة كلاهما عن كريب به. وأخرجه أبو داود في الطهارة عن القعنبي به. وأخرجه النسائي فيه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن إبراهيم بن عقبة به، وعن أحمد بن سليمان عن يزيد بن هارون به، وعن قتيبة عن مالك به عن قتيبة عن حماد بن زيد عن إبراهيم بن عقبة به مختصرا.
بيان المعنى والإعراب قوله: (لما أفاض) أي: لما رجع أو دفع. قوله: (من عرفة) أي: من وقوف عرفة، لأن عرفة اسم الزمان، والدفع كان من عرفات لأنه اسم المكان، وقيل: جاء عرفة أيضا اسما للمكان، فعلى هذا لا يحتاج إلى التقدير. وقال الجوهري: قول الناس: نزلنا عرفة شبيه بمولد وليس بعربي محض. قوله: (عدل إلى الشعب) أي: توجه إليه، والشعب، بكسر الشين: الطريق في الجبل. قوله: (أصب) بضم الصاد، ومفعوله محذوف، والجملة خبر: جعلت، لأنه من أفعال المقاربة. قوله: (يتوضأ) جملة موضعها النصب على الحال، وجاز وقوع الفعل المضارع المثبت حالا مع الواو. وقال الزمخشري: قوله تعالى: {ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} (النساء: 19) حال، وكذا {ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} (المائدة: 84) ، ويجوز أن يقدر مبتدأ: (ويتوضأ) خبره، والتقدير: وهو يتوضأ، فحينئذ تكون جملة إسمية أو تكون الواو للعطف: قوله: (قال) ، وفي رواية: (فقال) ، بفاء العطف اي: قال النبي، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. قوله: (المصلى) أي: مكان الصلاة. (أمامك) بفتح الميم الثانية لأنه ظرف، أي: قدامك.
بيان استنباط الأحكام منها: ما قاله النووي: فيه دليل على جواز الاستعانة في الوضوء، وهي على ثلاثة أقسام: أحدها أن يستعين في إحضار الماء فلا كراهية فيه. الثاني: أن يستعين في غسل الأعضاء ويباشر الأجنبي بنفسه غسل الأعضاء فهذا مكروه إلا لحاجة. الثالث: أن يصب عليه، فهذا مكروه في أحد الوجهين، والأولى تركه. قلت: فيه حزازة لأن ما فعل رسول الله، عليه الصلاة والسلام، لا يقال فيه: الأولى تركه، لأنه، عليه الصلاة والسلام، لا يتحرى إلا ما فعله أولى ثم إذا قيل: الأولى تركه، كيف ينازع في كراهته وليس حقيقة المكروه إلا ذلك؟ كذا قاله الكرماني. قلت: هذا حقيقة المكروه كراهة التنزيه لا المكروه كراهة التحريم. وقال ابن بطال: واستدل البخاري من صب الماء عليه أنه يجوز للرجل أن يوضئه غيره لأنه لما لزم المتوضىء اغتراف الماء من الإناء بأعضائه، جاز له أن يكفيه ذلك غيره بدليل صب أسامة. والاغتراف بعض أعمال الوضوء، فكذلك يجوز سائر أعماله، وهذا من باب القربات التي يجوز أن يعملها الرجل عن غيره، بخلاف الصلاة. ولما أجمعوا أنه جائز للمريض أن يوضئه غيره، وييممه إذا لم يستطع، ولا يجوز أن يصلي عنه إذا لم يستطع، ذدل أن حكم الوضوء بخلاف حكم الصلاة. قال: وهذا الباب رد لما روي عن جماعة أنهم قالوا: نكره أن يشركنا في الوضوء أحد. فإن قلت: البخاري لم يبين في هذا المسألة الجواز ولا عدمه. قلت: إذا عقد الباب أفلا يعلم منه جوازه، وإن لم يصرح به؟ وقال ابن المنير: قاس البخاري توضئة الرجل غيره على صبه عليه لاجتماعهما في الإعانة قلت: هذا قياس بالفارق، والفرق ظاهر، وروي عن عمر وعلي، رضي الله تعالى عنهما، أنهما نهيا أن يستقى لهما الماء لوضوئهما، وقالا: نكره أن يشركنا في
(3/60)
الوضوء أحد، ورويا ذلك عن النبي، عليه الصلاة والسلام، قلت: الحديث هو قوله، عليه الصلاة والسلام: (أنا لا أستعين في وضوئي بأحد) قاله لعمر، رضي الله عنه، وقد بادر ليصب الماء على يديه. قال النووي في (شرح المهذب) : هذا حديث باطل لا أصل له، وذكره الماوردي في (الحاوي) بسياق آخر، فقال: روي أن أبا بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، هم بصب الماء على يد رسول الله، عليه الصلاة والسلام، (فقال: أنا لا أحب أن يشاركني في وضوئي أحد) ، وهذا الحديث لا أصل له، والذي وقع على زعم الراوي كان لعمر، رضي الله عنه، دون أبي بكر، وروي عن ابن عمر أنه قال: ما أبالي أعانني رجل على طهوري او على ركوعي وسجودي، وثبت عن ابن عمر خلاف ما ذكر عنه، فروى شعبة عن أبي بشر عن مجاهد أنه كان يسكب على ابن عمر الماء فيغسل رجليه، وهذ أصح عن ابن عمر، إذا راوي المنع رجل اسمه أيفع وهو مجهول، والحديث عن علي، رضي الله عنه، لا يصح لأن راويه النضر بن منصور عن ابي الجنوب عنه، وهما غير حجة في الدين ولا يعتد بنقلهما. وقال البزار في كتاب (السنن) : لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، يعني من حديث النضر عن أبي الجنوب عقبة بن علقمة. وقال عثمان بن سعيد فيما ذكره ابن عدي: قلت ليحيى: ما حال هذا السند؟ فقال: هؤلاء حمالة الحطب وتمام الحديث أخرجه، البزار في كتاب الطهارة، وأبو يعلى في مسنده من طريق النضر بن منصور عن أبي الجنوب، قال: رأيت عليا، رضي الله عنه يستقي الماء لطهوره، فبادرت استقى له فقال: مه يا أبا الجنوب {فإني رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقي الماء لوضوئه، فبادرت استقى له فقال: مه يا أبا الحسن} فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقي الماء لوضوئه فبادرت أستقي له فقال: مه يا عمر فإني لا أريد أن يعينني على وضوئي أحد) . وقال الطبري: صح عن ابن عباس أنه صب على يدي عمر، رضي الله عنه، الوضوء بطريق مكة، شرفها الله تعالى، حين سأله عن المرأتين اللتين تظاهرتا. وقيل: صب ابن عباس على يدي عمر أقرب للمعونة من استقاء الماء، ومحال أن يمنع عمر، رضي الله تعالى عنه، استقاء الماء وبييح صب الماء عليه للوضوء مع سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة. قلت: لقائل أن يقول: إن أسامة تبرع بالصب وكذا غيره أمر منه صلى الله عليه وسلم لهم. فان قلت: هل يجوز أن يستدعي الإنسان الصب من غيره بأمر؟ قلت: نعم لما روي الترمذي محسناً من حديث ابن عقيل عن الربيع، قالت: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بميضأة فقال: اسكبي: فسكبت، فذكرت وضوءه، عليه الصلاة والسلام) رواه الحاكم في (المستدرك) قال: ولم يحتج البخاري بابن عقيل وهو مستقيم الحديث متقدم في الشرف. وروى ابن ماجه بسند صحيح على شرط ابن حبان من حديث صفوان بن عسال، قال: (صببت على النبي، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، الماء في السفر والحضر في الوضوء) ، وعنده أيضا بسند معلل عن أم عياش، وكانت أمه لرقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: (كنت أوضىء رسول الله، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، أنا قائمة وهو قاعد) . وممن كان يستعين على وضوئه بغيره من السلف عثمان، رضي الله تعالى عنه، قال الحسن: رأيته يصب عليه من إبريق. وفعله عبد الرحمن بن أبزى،، والضحاك ابن مزاحم، وقال أبو الضحى: ولا بأس للمريض أن يوضئه الحائض، وبقية الأحكام ذكرناها في باب: إسباغ الوضوء.

182 - حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا عبد الوهاب قال سمعت يحيى بن سعيد قال أخبرني سعد بن إبراهيم أن نافع بن جبير بن مطعم أخبره أنه سمع عروة بن المغيرة بن شعبة يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وأنه ذهب لحاجة له وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضا فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ومسح على الخفين..
ذكر البخاري هذا الحديث هنا لأجل الاستدلال على الإعانة في الوضوء.
بيان رجاله وهم سبعة. الأول: عمرو بن علي الفلاس، أحد الحفاظ الأعلام البصريين. الثاني: عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي البصري. الثالث: يحيى بن سعيد الأنصاري التابعي. الرابع: سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي التابعي، قاضي المدينة. الخامس: نافع
(3/61)
بن جبير بن مطعم القرشي النوفلي المدني التابعي. السادس: عروة بن المغيرة الثقفي الكوفي. السابع: المغيرة، بضم الميم، تقدم في آخر كتاب الإيمان، وهو باللام مثل: الحارث، في أنه علم يدخله لام التعريف على سبيل الجواز، لا مثل: النجم للثريا، فإن التعريف باللام لازم فيه. فإن قلت: لماذا يدخلون اللام في مثل المغيرة وما فائدته؟ قلت: للمح الوصفية.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار كذلك والسماع والعنعنة، وراعى البخاري ألفاظ الشيوخ بعينها حيث فرق بين التحديث والإخبار والسماع. ومنها: أن رواته ما بين بصري وكوفي ومدني. ومنها: أن فيه أربعة من التابعين يروى بعضهم عن بعض، وهو من أحسن اللطائف: اثنان منهم تابعيان صغيران وهما: يحيى وسعد، واثنان تابعيان وسطان وهما: نافع بن جبير وعروة بن المغيرة، وهم من نسق واحد. وفيه رواية الأقران في موضعين الأول في الصغيرين والثاني في الوسطين.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في الطهارة أيضا عن عمرو بن خالد عن الليث عن يحيى بن سعيد، وفي المغازي عن يحيى بن بكير عن الليث، وفي الطهارة أيضا، وفي اللباس عن أبي نعيم عن زكريا بن ابي زائدة عن الشعبي عنه به. وأخرجه مسلم في الطهارة عن قتيبة ومحمد بن رمح، كلاهما عن الليث عن يحيى بن سعيد به، وعن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب الثقفي به، وعن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عنه به مختصرا. وأخرجه أبو داود في الطهارة عن أحمد بن صالح عن ابن وهب عن يونس عن الزهري نحوه، ولم يذكر قصة الصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف، رضي الله تعالى عنه، وعن مسدد عن عيسى بن يونس عن أبيه عن الشعبي به. وأخرجه النسائي منه عن سليمان بن داود والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن وهب عن مالك ويونس وعمرو بن الحارث، ثلاثتهم عن الزهري به، إلا أن مالكًا لم يذكر عروة بن المغيرة، وعن محمد بن إبراهيم عن غندر عن بشر بن الفضل عن ابن عون عن الشعبي به، وهو أتم، وعن قتيبة به مختصرا. وأخرجه ابن ماجه عن محمد بن رمح به.
بيان المعنى والإعراب قوله: (أنه كان) أي: أن المغيرة كان مع رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وأدى عروة كلام أبيه بعبارة نفسه، وإلا فمقتضى الحال أن يقول: قال إني كنت مع رسول الله، عليه الصلاة والسلام. وكذا قوله: (وأن المغيرة) جعل والضمير في و: أنه، وفي: له، للرسول، عليه الصلاة والسلام. قوله: (جعل) أي: طفق من أفعال المقاربة. قوله: (هو يتوضأ) جملة إسمية وقعت حالا. قوله: (فغسل) ، الفاء: فيه هي الفاء التي تدخل بين المجمل والمفصل، لأن المفصل كأنه يعقب المجمل، كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: {فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} (البقرة: 226، 227) لتفصيل قوله تعالى: {اللذين يؤلون من نسائهم} (البقرة: 226) فإن قلت: لم قال: فغسل، ماضيا ولم يقل بلفظ المضارع ليناسب لفظ: يتوضأ؟ قلت: الماضي هو الأصل، وعدل في: يتوضأ، إلى المضارع حكاية عن الحال الماضية. قوله: (ومسح برأسه ومسح على الخفين) إنما ذكر في الأول حرف الإلصاق لأنه الأصل، وفي الثاني كلمة: على، نظرا إلى الاستعلاء، كما يقال: مسح إلى الكعب، نظرا إلى الانتهاء، وبحسب المقاصد تختلف صلات الأفعال. فإن قلت: لم كرر لفظ: مسح، ولم يكرر لفظ: غسل؟ قلت: لأنه يريد بذكر المسح على الخفين بيان تأسيس قاعدة شرعية، فصرح استقلالا بالمسح عليهما، بخلاف قضية الغسل فإنها مقررة بنص القرآن.
بيان ابستنباط الأحكام منها: جواز الاستعانة بغيره في الوضوء، لكن من يدعي أن الكراهة مختصة بغير المشقة والاحتياج لا يتم له الاستدلال بهذا الحديث لأنه كان في السفر. الثاني: فيه حكم مسح الرأس. الثالث: فيه جواز المسح على الخفين، وبقية الكلام بعضها مضى وبعضها يأتي في باب: المسح على الخفين. الرابع: فيه من الأدب خدمة الصغير للكبير، ولو كان لا يأمر بذلك.

36 - (باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره)

أي: هذا باب في بيان حكم قراءة القرآن بعد الحدث. قال بعضهم: أي الحدث الأصغر. قلت: الحدث أعم من الأصغر والأكبر، وقراءة القرآن بعد الأصغر تجوز دون الأكبر، وكأن هذا القائل إنما خصص الحدث بالأصغر نظرا إلى أن البخاري تعرض هنا إلى حكم قراءة القرآن بعد الحدث الأصغر دون الأكبر، ولكن جرت عادته أن يبوب الباب بترجمة، ثم يذكر
(3/62)
فيه جزءا مما تشتمل عليه تلك الترجمة، وههنا كذلك. قوله: (وغيره) قال بعضهم: أي من مظان الحدث. وقال الكرماني: أي غير القرآن من السلام وسائر الأذكار. قلت: أما قول هذا القائل: من مظان الحدث، فليس بشيء لأن عود الضمير لا يصح إلا إلى شيء مذكور لفظا وتقديراً بدلالة القرينة اللفظية، أو الحالية، ولم يبين أيضا مظان الحدث، ومظنة الحدث أيضا على نوعين: أحدهما: مثل الحدث، والآخر: ليس مثله، فإن كان مراده النوع الأول فهو داخل في قوله: بعد الحدث، وإن كان الثاني. فهو خارج عن الباب، فإذا لا وجه لما قاله على ما لا يخفى. وأما قول الكرماني: أي غير القرآن، فهو الوجه، ولكن قوله: من السلام وسائر الأذكار، لا وجه له في التمثيل، لأن المحدث إذا جاز له قراءة القرآن، فالسلام وسائر الأذكار بالطريق الأولى أن يجوز، ولو قال غير القرآن مثل: كتابة القرآن، لكان أوجه وأشمل للقولي والفعلي، على أن تعليق البخاري قول منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي مشتمل على القسمين: أحدهما: قراءة القرآن بعد الحدث، والثاني: كتابة الرسائل في حالة الحدث.
ثم المناسة بين البابين ظاهرة من وجه أن في الباب الأول حكم التوضئة، وفي هذا الوضوء، وهذا القدر كاف. فافهم.
وقال منصور عن إبراهيم لا بأس بالقراءة في الحمام وبكتب الرسالة على غير وضوء.

منصور هو: ابن المعتمر السلمي الكوفي، تقدم في باب من جعل لأهل العلم أيامًا. وإبراهيم هو ابن يزيد النخعي الكوفي القعنبي، مر في باب ظلم دون ظلم، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن منصور مثله، وروى عبد الرزاق عن الثوري عن منصور، قال: سألت إبراهيم عن القراءة في الحمام؟ فقال: لم يبن للقراءة، وقال بعضهم: هذا يخالف رواية أبي عوانة. قلت: لا مخالفة بينهما، لأن قولهم: لم يبن للقراءة، إخبار بما هو الواقع في نفسه، فلا يدل على الكراهة ولا على عدمها. أو نقول: عن إبراهيم روايتان، وفي رواية يكره، وفي رواية لا يكره. وقد روى سعيد بن منصور أيضا عن محمد بن أبان عن حماد بن أبي سليمان، قال: سألت إبراهيم عن القراءة في الحمام؟ فقال: يكره ذلك. فان قلت: لم ذكر البخاري الأثر الذي فيه ذكر الحمام، والتبويب أعم من هذا؟ قلت: لأن الغالب أن أهل الحمام أصحاب الأحداث.
واختلفوا في قراءة القرآن في الحمام. فعن ابي حنيفة أنه يكره، وعن محمد بن الحسن أنه لا يكره، وبه قال مالك. وقال بعضهم: لأنه ليس فيه دليل خاص، قلت: إنما كره أبو حنيفة قراءة القرآن في الحمام لأن حكمه حكم بيت الخلاء، لأنه موضع النجاسة، والماء المستعمل في الحمام نجس عنده، وعند محمد طاهر، فلذلك لم يكرهها. قوله: (وبكتب الرسالة) أي: وبكتابة الرسالة، لأن الكتب مصدر دخلت عليه الباء حرف الجر، وهو معطوف على قوله: (لا بأس بالقراءة) ، والتقدير: ولا بأس بكتب الرسالة على غير وضوء، وهذه في رواية كريمة، وفي رواية غيرها: ويكتب الرسالة، على صيغة المجهول من المضارع، والوجه الأول أوجه، وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن الثوري أيضا عن منصور، قال: سألت إبراهيم: أأكتب الرسالة على غير وضوء؟ قال: نعم، وقال بعضهم: وتبين بهذا أن قوله: (على غير وضوء) يتعلق بالكتابة لا بالقراء في الحمام. قلت: لا نسلم ذلك، فإن قوله: (وبكتب الرسالة) على الوجهين يتعلق على قوله: (بالقراءة) . وقوله: (وعلى غير وضوء) يتعلق بالمعطوف عليه لأنهما كشيء واحد. وقال أصحابنا: يكره للجنب أو الحائض أن يكتب الكتاب الذي في بعض سطوره آية من القرآن وإن كانا لا يقرآن شيئا، لأنهما منهيان عن مس القرآن، وفي الكتابة مس، لأنه يكتب بالقلم وهو في يده، وهو صورة المس: وفي (المحيط) : لا بأس لهما بكتابة المصحف إذا كانت الصحيفة على الأرض عند أبي يوسف لأنه لا يمس القرآن بيده وإنما يكتب حرفا فحرفاً، وليس الحرف الواحد بقرآن. وقال محمد: أجب إلى أن لا يكتب لأنه في الحكم ماس للحروف، وهي بكليتها قرآن ومشايخ بخاري أخذوا بقول محمد، كذا في (الذخيرة) .
وقال حماد عن إبراهيم إن كان عليهم إزار فسلم وإلا فلا تسلم.

حماد هو ابن أبي سليمان، فقيه الكوفة وشيخ أبي حنيفة، رضي الله عنه. وإبراهيم هو النخعي، وهذا التعليق وصله الثوري في (جامعه) عنه. قوله: (عليهم) أي على: أهل الحمام العراة المتطهرين، وقال بعضهم: اي على من في الحمام، والمراد الجنس. قلت:
(3/63)
قوله: من في الحمام، يتناول العراء فيه والقاعدين بثيابهم في مسلخ الحمام، وقول إبراهيم مختص بالعراة حيث قال: إن كان عليهم إزار فنسلم عليهم، و: إلا، أي: وإن لم يكن عليهم إزار فلا نسلم. فكيف يطلق هذا القائل كلامه على من في الحمام على سبيل العموم، والسلام على القاعدين بثيابهم لا خلاف فيه؟ .

183 - حدثنا إسماعيل قال حدثنى مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى ابن عباس أن عبد الله بن عباس أخبره أنه بات ليلةً عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حنتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر الا يات الخواتم من سورة آل عمران ثم قام إلي شن معلقة فتوضأ منها فاحسن وضوءه ثم قام يصلي قال ابن عباس فقمت فصنعت مثل ما صيع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع يده اليمنى على رأسي وأخذ باذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح..
قيل: مطابقة الحديث للترجمة في قراءة القرآن بعد الحدث، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قرأ العشر الآيات من آخر آل عمران بعد قيامه من نومه قبل وضوئه. قلت: كيف يقال هذا ونومه لا ينقض وضوءه؟ وقال بعضهم: الأظهر أن مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن مضاجعة الأهل في الفراش لا تخلو من الملامسة. قلت: هذا أبعد من ذاك، لأنا لا نسلم وجود ذلك على التحقيق، ولئن سلمنا ذلك فمراده من الملامسة اللمس باليد أو الجماع؟ فإن كان الأول: فلا ينقض الوضوء أصلا، سيما في حقه، عليه السلام؛ وإن كان الثاني: فيحتاج إلى الاغتسال، ولم يوجد هذا أصلا في هذه القصة، والظاهر أن البخاري وضع هذا الحديث في هذا الباب بناء على ظاهر الحديث، حيث توضأ بعد قيامه من النوم، وإلا مناسبة في وضعه هذا الحديث ههنا. فافهم.
بيان رجاله وهم خمسة. الأول: إسماعيل بن أبي أويس الأصبحي. الثاني: مالك بن أنس، خال إسماعيل المذكور. الثالث: مخرمة، بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء. ابن سليمان الوالي المدني. الرابع: كريب، مولى ابن عباس. الخامس: عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والإخبار. ومنها: أن رواته مدنيون. ومنها: أن فيه الراوي عن خاله، وهو رواية إسماعيل عن خاله مالك.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا الأصيلي في الصلاة عن عبد الله بن يوسف، وفي الوتر عن القعنبي، وفي التفسير عن قتيبة وعن علي بن عبد الله، وفي الصلاة أيضا عن أحمد عن ابن وهب. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وعن هارون ابن سعيد عن ابن وهب به، وعن محمد بن سلمة عن ابن وهب، وعن محمد بن رافع. وأخرجه أبو داود عن القعنبي وعن عبد الملك بن شعيب. وأخرجه الترمذي في الشمائل عن قتيبة به، وعن إسحاق بن موسى وعن محمد بن عبد الله. وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن خلاد عن معن به.
بيان لغاته قوله: (في عرض الوسادة) ، بفتح العين وسكون الراء، وقال السفاقسي؛ ضم العين غير صحيح، ورويناه بفتحها عن جماعة، وقال ابو عبد الملك: روي بفتح العين وهو ضد الطول، وبالضم الجانب، والفتح أكثر. وقال الداودي عرضها بضم العين، وأنكره أبو الوليد، وقال: لو كان كما قال لقال: توسد النبي صلى الله عليه وسلم وأهله طول الوسادة، وتوسد ابن عباس عرضها. فقوله: (فاضطجع في عرضها) يقتضي أن يكون العرض محلا لاضطجاعه، ولا يصح ذلك إلا أن يكون فراشا. وفي (المطالع)
(3/64)
: الفتح عند أكثر مشايخنا، ووقع عن جماعة منهم: الداودي وحاتم الطرابلسي والأصيليل بضم العين، والأول أظهر. قال النووي: هو الصحيح، والوساد: المتكأ. قال ابن سيده: وقد توسد ووسده إياه. وفي (المجمل) : جمع الوسادة وسائد، والوسادة ما يتوسد عن الموم، والجمع وسد. وفي (الصحاح) : الوساد والوسادة: المخدة، والجمع: وسائد ووسد، وزعم ابن التين أن الوساد الفراش الذي ينام عليه، فكأن اضطجاع ابن عباس في عرضها عند رؤوسها أو أرجلهما، كذا قال أبو الوليد: قال النووي: وهذا باطل. قوله: (الى شن) بفتح الشين المعجمة وتشديد النون: وهو وعاء الماء إذا كان من أدم فأخلق، وجمعه: شنان، بكسر الشين المعجمة وتشديد النون. قوله: (بأذني) بضم الهمزة وسكون الذال المعجمة. قوله: (يفتلها) أي: يدلكها ويعركها. قوله: (ثم خرج) أي من الججرة إلى المسجد فصلى الصبح أي بالجماعة.
بيان المعاني والإعراب قوله: (فاضطجعت) أي: وضعت الجنب على الأرض وكان مقتضى الظاهر أن يقول: اضطجع بصورة الماضي الغائب، كما قال: إنه بات. أو قال: بت كما قال: فاضطجعت، بصورة المتكلم فيهما، ولكنه قصد بذلك التفنن في الكلام وهو نوع من أنواع الالتفات. فإن قلت: من هو القاصد لذلك؟ قلت: كريب، لأنه هو الذي نقل كلام ابن عباس، والظاهر أن اختلاف العبارتين من ابن عباس ومن كريب، لأنه كريباً أخبر أولا عن ابن عباس أنه باتت ليلة عند ميمونة، ثم أضمر لفظ: قال، قبل قوله: (فاضطجعت) ، فيكون الكلام على أسلوب واحد. قوله: (حتى) للغاية. قوله: (أو قبله) ظرف لقوله: (استيقظ) . إن قلنا: إن: اذا ظرفية اي: حتى استيقظ وقت انتصاف الليل، أو قبل انتصافه. وكلمة: أو، للتشكيك أو يكون متعلقا بفعل مقدر. إن قلنا: إن إذا، شرطية و: استيقظ، جزاؤها، والتقدير: حتى إذا استنصف الليل، أو كان قبل الانتصاف، استيقظ. قوله: (فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده) وفي بعض النسخ: (فجعل يمسح النوم) . ففي الوجه الأول يكون: يمسح، التي هي جملة من الفعل والفاعل في محل النصب على الحال من الضمير الذي في: فجلس وفي الوجه الثاني: تكون الجملة خبر: فجعل، لأنه من أفعال المقاربة. ومسح النوم من العينين من باب إطلاق اسم الحال على المحل، لأن المسح لا يقع إلا على العينين، والنوم لا يمسح. وقال بعضهم: أو أثر النوم من باب إطلاق إسم السبب على المسبب. قلت: أثر النوم من النوم لأنه بقيته، فكيف يكون من هذا الباب؟ قوله: (ثم قرأ العشر الآيات) بإضافة العشر إلى الآيات، ويجوز دخول لام التعريف على العدد عند الإضافة، نحو: الثلاثة الأثواب، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. قوله: (الخواتم) بالنصب لأنه صفة: العشر، وهو جمع خاتمة أي: أواخر سورة آل عمران، وهو قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض} (آل عمران: 190) الى آخر السورة. فإن قلت: ذكر في هذا الحديث الذي تقدم في باب التخفيف، هكذا: فتوضأ من شن معلق وضوءًا خفيفا، بتذكير وصف الشن، وتوصيف الوضوء بالخفة، وههنا أنث الوصف حيث قال: معلقة، وقال: فأحسن وضوءه، والمراد به الإتمام والإتيان بجميع المندوبات. فما وجه الجمع بينهما؟ قلت: الشن: يذكر ويؤنث، والتذكير باعتبار لفظه أو باعتبار الأدم أو الجلد، والتأنيث باعتبار القربة، وإتمام الوضوء لا ينافي التخفيف، لأنه يجوز أن يكون أتى بجميع المندوبات مع التخفيف، أو هذا كان في وقت، وذاك في وقت آخر. قوله: (فصنعت مثل ما صنع) أي: قال ابن عباس: فصنعت مثل ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم أي: توضأت نحوا مما توضأ، كما صرح به في باب التخفيف، ويحتمل أن يريد به أعم من ذلك فيشمل النوم حتى انتصاف الليل ومسح العينين عن النوم وقراءة العشر الآيات والقيام إلى الشن والوضوء وإحسانه. قوله: (يفتلها) جملة وقعت حالا، وأما فتله أذنه: إما للتنبيه عن الغفلة وإما لإظهار المحبة. كذا قاله الكرماني. قلت: لم يكن فتله أذنه إلا لأجل أنه لما وقف وقف بجنبه اليسار فأخذ أذنه وعركها وأداره إلى يمينه. قوله: (فصلى ركعتين) لفظ: ركعتين، ست مرات فيكون المجموع، اثني عشر ركعة. قوله: (ثم أوتر) قال الكرماني: أي جاء بركعة أخرى فردة. قلت: لم لا يجوز أن يكون معنى قوله: أوتر، صلى ثلاث ركعات، لأنها وترا ايضاً، بل الأوجه هذا لأنه ورد النهي عن البتيراء، وهو التنفل بركعة واحدة. ثم إعلم أن قوله: (فصلى ركعتين) إلى قوله: (ثم اوتر) تقييد وتفسير للمطلق الذي ذكر في باب التخفيف حيث قال هناك: فصلى ما شاء الله.
بيان استنباط الأحكام الأول: قال ابن بطال فيه رد على من كره قراءة القرآن على غير طهارة لمن لم يكن جنبا، وهي الحجة الكافية في ذلك، لأنه، عليه الصلاة والسلام، قرأ العشر الآيات بعد قيامه من النوم قبل الوضوء، وقال الكرماني:
(3/65)
أقول: ليس ذلك حجة كافية، لأن قلب رسول الله، عليه الصلاة والسلام، لا ينام ولا ينتقض وضوؤه به، وكذا رد عليه ابن المنير، ثم قال: وأما كونه توضأ عقيب ذلك فلعله جدد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ. واستحسن بعضهم كلامه بالنسبة إلى كلام ابن بطال حيث قال: بعد قيامه من النوم، ثم قال: لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرا في كونه أحدث، ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم، نعم، إن وقع شعر به بخلاف غيره، وما أدعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه. قلت: قوله: ولا يلزم من كون نومه ... إلى آخره غير مسلم، وكيف يمنع عدم الملازمة، بل يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث في حالة النوم، لان هذا من خصائصه، فيلزم من قول هذا القائل أن لا يفرق بين نوم النبي صلى الله عليه وسلم ونوم غيره، وقوله: وما أدعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه. قلت: هذا عند عدم قيام الدليل على ذلك، وههنا قام الدليل بأن وضوءه لم يكن لأجل الحدث، وهو قوله، عليه الصلاة والسلام: (تنام عيناي ولا ينام قلبي) ، وحينئذ يكون تجديد وضوئه لأجل طلب زيادة النور، حيث قال: الوضوء نور على نور. الثاني: فيه جواز الاضطجاع عند المحرم، وإن كان زوجها عندها. الثالث: فيه استحباب صلاة الليل وقراءة الآيات المذكورة بعد الانتباه من النوم. الرابع: فيه جواز عرك أذن الصغير لأجل التأديب، أو لأجل المحبة. الخامس: فيه استحباب مجيء المؤذن إلى الإمام وإعلامه بإقامة الصلاة. السادس فيه تخفيف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح مع مراعاة أدائها. وغير ذلك من الأحكام التي مضى ذكر بعضها، وسيأتي بعضها أيضا في كتاب الوتر. إن شاء الله تعالى.

37 - (باب من لم ير الوضوء إلا من الغشي المثقل)

أي: هذا باب في بيان من لم ير الوضوء إلا من الغشي، بفتح الغين المعجمة وسكون الشين المعجمة وفي آخره ياء آخر الحروف. يقال: غشى عليه غشية وغشياناً فهو مغشي عليه، والغشى: مرض يعرض من طول التعب والوقوف، وهو ضرب من الإغماء، إلا أنه أخف منه. وقال صاحب (العين) : غشي عليه: ذهب عقله، وفي القرآن: {كالذي يغشى عليه من الموت} (الأحزاب: 19) وقال الله تعالى {فاغشيناهم فهم لا يبصرون} (ي س: 9) . قوله: (المثقل) ، بضم الميم: من أثقل يثقل إثقالاً فهو مثقل بكسر القاف للفاعل، وبفتحها للمفعول، وهو ضد الخفيف. فان قلت: كيف يجوز هذا الحصر وللوضوء أسباب أخر غير الغشي؟ قلت: أينما يقع مثل هذا الحصر فالمراد أنه رد لاعتقاد السامع حقيقة أو ادعاء، فكأن ههنا من يعتقد وجوب الوضوء من الغشي مطلقًا، سواء كان مثقلًا أو غير مثقل، وأشركهما في الحكم، فالمتكلم حصر على أحد النوعين من الغشي فأفرده بالحكم مزيلاً للشركة، ومثله يسمى قصر الإفراد، ومعناه أنه لا يتوضأ إلا من الغشي المثقل، لا من الغشي الغير المثقل، وليس المعنى أنه يتوضأ توضأ من الغشي المثقل لا من سبب من أسباب الحدث، وجواب آخر: أنه استثناء مفرغ، فلا بد من تقدير المستثنى منه مناسباً له، فتقديره من لم ير الوضوء من الغشي. إلا من الغشي المثقل.
والمناسبة بين البابين من حيث إن في الباب السابق عدم لزوم الوضوء عن القراءة، وههنا عدم لزومه عند الغشي الغير المثقل.

184 - حدثنا إسماعيل قال حدثنى مالك عن هشام بن عروة عن امرأته فاطمة عن جدتها أسماء بنت أبي بكر أنها قالت أتيت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين خسفت الشمس فاذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي فقلت ما لناس فأشارت بيدها نحو السماء وقالت سبحان الله فقلت آية فأشارت أي نعم فقمت حتى تجلاني الغشي وجعلت أصب فوق رأسي ماء فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور
(3/66)
مثل أو قريباً من فتنة الدجال لا أدري أي ذلك قالت أسماء يؤتي أحدكم فيقال ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن لا أدري أي ذلك قالت أسماء فيقول هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فاجبنا وآمنا واتبعنا فيقال نم صالحاً فقد علمنا إن كنت لمؤمناً وأما المنافق أو المرتاب لا أدري أي ذلك قالت أسماء فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة في قوله: (حتى تجلاني الغشي) ، لأنه لو كان مثقلًا لكان إنتقض الوضوء منها، لأنه كالإغماء حينئذ، والدليل على أنه لم يكن مثقلًا لأنها صبت الماء على رأسها ليزول الغشي، وذلك يدل على أن حواسها كانت حاضرة، وهو يدل على عدم انتقاض وضوئها.
بيان رجاله وهم ستة: الأول: إسماعيل بن أبي أويس، وقد مر عن قريب. الثاني: مالك بن أنس. الثالث: هشام بن عروة بن الزبير بن العوام القريشي؛ والرابع: فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام. الخامس: جدتها أسماء، على وزن حمراء، بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم، وزوجة الزبير بن العوام، وفي بعض النسخ عن: جدته، بتذكير الضمير، وكلاهما صحيحان بلا تفاوت في المعنى، لأن أسماء جدة لهشام ولفاطمة كليهما، وتقدم ذكر الثلاثة في باب: من أجاب الفتيا بإشارة اليد. السادس: عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع وبصيغة الإفراد والعنعنة والقول. ومنها: أن رواته كلهم مدنيون. ومنها: أن فيه رواية الأقران هشام وامرأته فاطمة.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في خمسة مواضع في الطهارة عن إسماعيل، وفي الكسوف عن عبد الله بن يوسف، وفي الاعتصام عن القعنبي، ثلاثتهم عن مالك، وفي العلم عن موسى بن إسماعيل عن وهيب، وفي الجهاد، وقال محمود: حدثنا أبو أسامة، ثلاثتهم عن هشام بن عروة به، وفي السمر عن يحيى ابن سليمان عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن هشام به مختصرا. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة به، وعن أبي بكر وأبي كريب، كلاهما عن أبي أسامة نحوه، وقد مر الكلام في هذا الحديث مستوفى في كتاب العلم في باب: من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس، وكانت ترجمة الباب فيه.

38 - (باب مسح الرأس كله)

أي: هذا باب في بيان حكم مسح كل الرأس في الوضوء ولفظ: (كله) ، موجود عندهم إلا في رواية المستملي فإنه ساقط.
والمناسبة بين البابين أن الباب الأول مترجم بترك الوضوء من الغشي إلا إذا كان مثقلًا، وهذا الباب يشتمل على مسح جميع الرأس، وهو جزء من الوضوء.
لقول الله تعالى وامسحوا بروسكم

احتج البخاري في وجوب مسح جميع الرأس بقوله تعالى {وامسحو برؤوسكم} (المائدة: 6) واحتجاجه به إنما يتم إذا كانت: الباء، زائدة كما ذهب إليه مالك، رحمه الله تعالى.
وقال ابن المسيب المرأة بمنزلة الرجل تمسح على رأسها

أي: قال ابن المسيب، رضي الله تعالى عنه، ووصله ابن أبي شيبة في (مصنفه) : حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الكريم يعنى ابن مالك عن سعيد بن المسيب المرأة والرجل في مسح الرأس سواء. قوله: (بمنزلة الرجل) أي: في وجوب مسح جميع الرأس، هكذا فسره الكرماني، ومع هذا يحتمل أن يكون مراده أنه بمنزلة الرجل في وجوب أصل المسح، فحينئذ هذا الأثر لا يساعد البخاري في تبويبه لمسح كل الرأس، ونقل عن أحمد أنه قال: يكفي المرأة مسح مقدم رأسها.
(3/67)
وسئل مالك: أيجزىء أن يمسح بعض الرأس فاحتج بحديث عبد الله بن زيد

أيجزىء: يجوز فيه الوجان: احدهما: بفتح الياء من جزى أي كفى، والهمزة فيه للاستفهام. والثاني: بضم الياء من الإجزاء وهو الأداء الكافي لسقوط التعبد به، وفي بعض النسخ: ببعض رأسه، وفي بعضها: بعض الرأس، والسائل عن مالك في مسح الرأس هو إسحاق بن عيسى ابن الطباع، بينه ابن خزيمة في (صحيحه) من طريقه، ولفظه: سألت مالكًا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه أيجزيه؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد، قال: (مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم رد يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كله) . وقال بعضهم: موضع الدلالة من الحديث والآية: ان لفظ الآية مجمل لأنه يحتمل أن يراد بها مسح الكل، عن أن: الباء، زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول. قلت: لا إجمال في الآية، وإنما الإجمال في المقدار دون المحل، لأن الرأس وهو معلوم، وفعله صلى الله عليه وسلم كان بيانا للإجمال الذي في المقدار، وهذا القائل لو علم معنى الإجمال لما قال لفظ الآية مجمل. قوله: (فاحتج) اي: مالك احتج بحديث عبد الله بن زيد الذي ساقه هنا على عدم الإجزاء في مسح بعض الرأس، والمعنى: أنه لما سئل عن مسح الرأس روى هذا الحديث واحتج به على أنه لا يجوز أن يقتصر ببعض الرأس.

185 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضا فقال عبد الله بن زيد نعم فدعً بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ثم مضمض واستنثر ثلاثاً ثم غسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه..
مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (ثم مسح رأسه) . إلى آخره.
بيان رجاله وهم ستة. الأول: عبد الله يوسف التنيسي. الثاني: مالك بن انس. الثالث: عمرو بن يحيى بن عمارة، بضم العين المهملة وتخفيف الميم، وقد تقدموا. الرابع: أبوه يحيى بن عمارة بن أبي حسن، واسمه تميم بن عبد بن عمرو بن قيس، وأبو حسن له صحبة، وكذا لعمارة فيما جزم به ابن عبد البر. وقال أبو نعيم: فيه نظر. وقال الذهبي: عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني، له صحبة، وقيل: ابوه بدري وعقبي. الخامس: الرجل السائل هو عمر بن يحيى، وإنما قال: جد عمرو بن يحيى تجوزاً لأنه عم أبيه، وسماه جداً لكونه في منزلته. وقيل: إن المراد بقوله هو عبد الله بن زيد وهذا وهم، لأنه ليس جداً لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازًا، وذكر في (الكمال) في ترجمة عمرو بن يحيى أنه ابن بنت عبد الله بن زيد. قالوا: إنه غلط، وقد ذكر محمد بن سعد أن أم عمرو بن يحيى هي حميدة بنت محمد بن إياس بن بكير، وقال غيره: هي أم النعمان بنت أبي حية. والله اعلم. وقد اختلف رواة (الموطأ) في تعيين هذا السائل فأبهمه أكثرهم. قال معن بن عيسى في روايته عن عمرو عن ابيه يحيى: إنه سمع أبا محمد بن حسن، وهو جد عمرو بن يحيى. قال لعبد الله بن زيد، وكان من الصحابة فذكر الحديث، وقال محمد بن الحسن الشيباني: عن مالك حدثنا عمرو عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد، وكذا ساقه سحنون في (المدونة) . وقال الشافعي في (الأم) : عن مالك عن عمرو عن أبيه. فإن قلت: هل يمكن أن يجمع هذا الاختلاف؟ قلت: يمكن أن يقال: اجتمع عند عبد الله بن زيد بن ابي حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه عمارة بن أبي حسن، فسألوه عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وتولى السؤال منهم له عمارة بن أبي حسن، فحيث نسب إليه السؤال كان على الحقيقة، ويؤيده رواية سليمان بن بلال عند البخاري في باب الوضوء من التور، قال: حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال: كان عمي، يعنى عمرو بن أبي حسن، يكثر الوضوء، فقال لعبد الله ابن زيد: أخبرني، فذكره. وحيث نسب السؤال إلى أبي حسن فعلى المجاز لكونه كان الأكبر وكان حاضرا، وحيث نسب السؤال ليحيى بن عمارة فعلى المجاز أيضا لكونه ناقل الحديث، وقد حضر السؤال، وكانوا كلهم متفقين على السؤال،
(3/68)
غير أن السائل منهم كان عمرو بن أبي حسن، ويوضح ذلك ما رواه أبو نعيم في (المستخرج) من حديث الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عمه عمرو بن أبي حسن. قال: كنت كثير الوضوء فقلت لعبد الله بن زيد ... الحديث السادس: من الرجال عبد الله بن زيد الأنصاري، رضي الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والأخبار، كذلك والعنعنة والقول. ومنها: أن رواته كلهم مذنيون إلا عبد الله بن يوسف وقد دخلها. ومنها: أن فيه رواية الابن عن الأب.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في الطهارة في خمسة مواضع عن عبد الله بن يوسف هنا، وعن موسى ابن إسماعيل وسليمان بن حرب، كلاهما عن وهيب، وعن خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال، وعن مسدد عن خالد بن عبد الله وعن أحمد ابن يونس عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، خمستهم عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه به. وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن محمد بن الصباح، وعن القاسم بن زكريا، وعن إسحاق بن موسى، وعن عبد الرحمن بن بشر. وأخرجه الأربعة أيضا في الطهارة: فأبو داود عن مسدد وعن القعنبي وعن الحسن بن علي، والترمذي عن إسحاق بن موسى الأنصاري به مختصرا. والنسائي عن عقبة بن عبد الله بن اليعمري وعن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين وعن محمد بن منصور؛ وابن ماجه عن الربيع بن سليمان وحرملة بن عيسى كلاهما عن الشافعي عن مالك وعن أبي بكر بن أبي شيبة مختصرا، وعن علي بن محمد مختصرا.
بيان اللغات والمعاني قوله: (فأفرغ على يده) أي: فصب الماء على يده، وفي بعض الروايات: (يديه) . قوله: وفي رواية موسى عن وهيب: فأكفأ، بهمزتين. وفي رواية سليمان بن حرب في باب مسح الرأس مرة عن وهيب: فكفأ، بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى. يقال: كفأ الإناء وأكفأه إذا أماله. وقال الكسائي: كفأت الإناء كببته، وأكفأته أملته، والمراد في الموضعين أفراغ الماء من الإناء على اليد. قوله: (فغسل يده مرتين) بإفراد اليد في رواية مالك، وتثنية اليد في رواية وهيب وسليمان بن بلال عند البخاري، وكذا الدراورذي عند ابي نعيم، وفي رواية مالك: (فغسل يده مرتين) . بإفراد اليد، يحمل على الجنس، ثم إنه عند مالك مرتين، وعند هؤلاء ثلاثًا، وكذا لخالد بن عبد الله عند مسلم فان قلت: لم لا يحمل هذا على الوقعتين؟ قلت: المخرج واحد والأصل عدم التعدد. قوله: (ثم تمضمض واستنثر) ، وفي رواية الكشميهني: (مضمض واستنشق) ومعنى استنثر: استنشق الماء ثم استخراج ذلك بنفس الأنف، والنثرة الخيشوم وما ولاه وتشق واستنشق الماء في أنفه صبه فيه ويقال نشر وانتشر واستنشر إذا حرك النشرة، وهي طرف الأنف. وقال بعضهم: الاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس. قلت: لا نسلم ذلك، فقال ابن الأعرابي وابن قتيبة: الاستنشاق والاستنثار واحد. قوله: (ثم غسل وجهه ثلاثًا) أي: ثلاث مرات، ولم تختلف الروايات في ذلك. قوله: (ثم غسل يديه مرتين مرتين) كذا بتكرار: مرتين، ولم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين مرتين، وفي رواية مسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد: (انه رأى النبي، عليه الصلاة والسلام، توضأ وفيه يده اليمنى ثلاثًا ثم الأخرى ثلاثًا) فيحمل عل أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديثين غير متحد. قوله: (إلى المرفقين) كذا رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: إلى المرفق، بالإفراد على إرادة الجنس. قوله: (ثم مسح رأسه) زاد ابن الطباع لفظه: كله، وكذا في رواية ابن خزيمة، وفي رواية خالد بن عبد الله: (مسح برأسه) ، بزيادة: الباء. قوله: (ثم غسل رجليه) ، وفي رواية وهيب الآتية إلى الكعبين.
بيان الإعراب قوله: (أتستطيع) ؟ الهمزة فيه للاستفهام. قوله: (أن تريني) فكلمة أن، مصدرية، والجملة في محل النصب على أنها مفعول: تستطيع، والتقدير: هل تستطيع الإراءة إياي كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ قوله: (يتوضأ) جملة في محل النصب على أنها خبر: كان، ويجوز أن تكون تامة ويكون قوله: (يتوضأ) حالا. قوله: (نعم) ، مقول القول، وهو يكون جملة، والتقدير: نعم أستطيع أن أريك. قوله: (فدعا بماء) الفاء: للتعقيب، وكذا: الفاء في: فافرغ، وفي: فغسل يديه، وأما كلمة: ثم، في ستة مواضع في الحديث بمعنى: الواو، وليست على معناها الأصلي، وهو: الإمهال. كذا قال ابن بطال. قلت: ثم،
(3/69)
في هذه المواضع للترتيب لأن: ثم، تستعمل لثلاثة معان: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة. مع أن في كل واحد خلافًا، والمراد من الترتيب هو الترتيب في الإخبار لا الترتيب في الحكم مثل ما يقال بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب! أي: ثم أخبرك أن الذي صنعته أمس أعجب. قوله: (بدأ بمقدم رأسه) إلى قوله: (منه) بيان لقوله: (فأقبل بهما وأدبر) ، ولذلك لم تدخل الواو عليه. قوله: (بدأ منه) إلى آخره من الحديث، وليس مدرجاً من كلام مالك.
بيان استنباط الاحكام الأول: فيه غسل اليد قبل شروعه في الوضوء، وذكر هنا مرتين، وذكر في حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، مرتين أو ثلاثًا، ثم إن هذا الغسل ليس من سنن الوضوء ولا من الفروض، وذهب داود وابن جرير الطبري إلى إيجاب ذلك، وأن الماء ينجس إن لم تكن اليد مغسولة. وقال ابن القاسم: غسلهما عبادة؛ وقال مالك: السنة أن يغسل يديه قبل الشروع في الوضوء مرتين، كما هو في رواية هذا الحديث. قلت: فيه أقوال خمسة: الأول: إنه سنة، وهو المشهور عندنا، كذا في (المحيط) و (المبسوط) ويدل عليه أنه، عليه الصلاة والسلام، لم يتوضأ قط إلا غسل يديه. وفي (المنافع) تقديم غسلهما إلى الرسغين سنة تنوب عن الفرض، كالفاتحة تنوب عن الواجب وفرض القراءة. الثاني: إنه مستحب للشاك في طهارة يده، كذا روي عن مالك. الثالث: إنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار، قال أحمد. الرابع: إن من شك: هل أصابت يده نجاسة أم لا؟ يجب غسلهما في مشهور مذهب مالك. الخامس: إنه واجب على المنتبه من النوم مطلقًا، وبه قال داود وأصحابه. وفي الحواشي تقديم غسل اليدين للمستيقظ يترك بالحديث، وإلا فسببه شامل له ولغيره.
الثاني: فيه المضمضة والاستنشاق، وهما سنتان في الوضوء، فرضان في الغسل. وبه قال الثوري. وقال الشافعي: سنتان فيهما، وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري والزهري وقتادة والحكم وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك والأوزاعي والليث، وهو رواية عن عطاء وأحمد، وعنه أنهما واجبتان فيهما، وهو مذهب ابن أبي ليلى وحماد وإسحاق. والمذهب الرابع: أن الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل دون المضمضة، وبه قال أبو ثور وأبو عبيد، وهو رواية عن أحمد.
الثالث: فيه أنه، عليه الصلاة والسلام، مضمض واستنشق ثلاثًا بثلاث غرفات، وبه قال الشافعي، وفي (الروضة) . في كيفيته وجهان: أصحهما: يتمضمض من غرفة ثلاثًا، ويستنشق من أخرى ثلاثًا. والثاني: بست غرفات. واستدل أصحابنا بحديث الترمذي رواه عن علي، رضي الله تعالى عنه، وفي: (مضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا) ، وقال: حديث حسن صحيح. فإن قلت: لم يحك فيه ان كل واحدة من المضامض والاستنشاقات بماء واحدة بل حكى انه تمضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا قلت مضمونه ظاهرا ما ذكرناه، وهو أن يأخذ لكل واحد منهما ماء جديدا، وكذا روى البويطي عن الشافعي أنه يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة، وثلاث غرفات للاستنشاق.
الرابع: فيه غسل الوجه ثلاث مرات، وليس فيه خلاف.
الخامس: فيه غسل يديه مرتين، وجاء في رواية مسلم: ثلاثًا. فإن قلت: هل هذا يغسل يديه ههنا من أول الأصابع أو يغسل ذراعيه؟ قلت: ذكر في الأصل غسل ذراعيه لا غير لتقدم غسل اليدين إلى الرسغ مرة، وفي (الذخيرة) : الأصح عندي أن يعيد غسل اليدين ظاهرهما وباطنهما، لأن الأول كان سنة افتتاح الوضوء، فلا ينوب عن فرض الوضوء.
السادس: فيه أن المرفقين هما يدخلان في غسل اليدين عند الجمهور، خلافًا لزفر ومالك في رواية، وقد روى الدارقطني من حديث جابر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه) ، وروى البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر: (وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق) ، وروى الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد العبدي عن أبيه مرفوعا: (ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه) .
السابع: فيه مسح رأسه، احتج به مالك وابن علية وأحمد في رواية علي أن مسح جميع الرأس فرض؛ ولكن أصحاب مالك اختلفوا، فقال أشهب: يجوز مسح بعض الرأس، وقال غيره: الثلث فصاعدا، وعندنا وعند الشافعي: الفرض مسح بعض الرأس. فقال أصحابنا: ذلك البعض هو ربع الرأس، واستدلوا بحديث المغيرة بن شعبة لأن الكتاب مجمل في حق المقدار فقط، لأن: الباء، في (وامسحو برؤوسكم) للإلصاق باعتبار أصل الوضع، فإذا قرنت بآلة المسح يتعدى الفعل بها إلى محل المسح فيتناول جميعه، كما تقول: مسحت الحائط بيدي، ومسحت رأس اليتيم بيدي، فيتناول كله،
(3/70)
وإذا قرنت بمحل المسح يتعدى الفعل بها إلى الآلة فلا يقتضي الاستيعاب، وإنما يقتضي إلصاق الآلة بالمحل، وذلك يستوعب الكل عادة بل أكثر الآلة ينزل منزلة الكل فيتأدى المسح بإلصاق ثلاثة أصابع بمحل المسح، ومعنى التبعيض إنما يثبت بهذا الطريق لا بمعنى أن: الباء، للتبعيض، كما قاله البعض. وقد أنكر بعض أهل العربية كون: الباء، للتبعيض، وقال ابن برهان: من زعم أن: الباء، تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفون، وقد جعل الجرجاني معنى الإلصاق في: الباء، أصلا وإن كانت تجيء لمعان كثيرة. وقال ابن هاشم: أثبت مجيء: الباء، للتبعيض الأصمعي والفارسي والقتبي وابن مالك. قيل: والكوفيون، وجعلوا منه: {عينا يشرب بها عباد الله} (الإنسان: 6) قيل ومنه: {وامسحوا برؤوسكم} (المائدة: 6) فالظاهر

أن: الباء، فيهما للإلصاق. وقيل: هي في آية الوضوء للاستعانة، وإن في الكلام حذفا وقلبًا، فإن: مسح، يتعدى إلى المزال عنه بنفسه، وإلى المزيل: بالباء، فالأصل امسحوا رؤوسكم بالماء. فان قلت: أليس أن في التيمم حكم المسح ثبت بقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (النساء: 43) ، ثم الإستيعاب فيه شرط؟ قلت: عرف الاستيعاب فيه إما بإشارة الكتاب، وهو أن الله تعالى أقام التيمم في هذين العضوين مقام الغسل عند تعذره، والاستيعاب فرض بالنص، وكذا فيما قام مقامه، أو عرف ذلك بالسنة وهو قوله، عليه الصلاة والسلام، لعثمان، رضي الله تعالى عنه: (يكفيك ضربتان: ضربة للوجه وضربه للذراعين) . وأما على رواية الحسن عن أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، إنه لا يشترط الاستيعاب فلا يرد شيء. فإن قلت: المسح فرض، والمفروض مقدار الناصية، ومن حكم الفرض أن يكفر جاحده، وجاحد المقدار لا يكفر، فكيف يكون فرضا؟ قلت: بل جاحد، أصل المسح كافر لأنه قطعي، وجاحد المقدار لا يكفر لأنه في حق المقدار ظني. فان قلت: أيها الحنفي! إنك استدللت بحديث المغيرة على أن المقدار في المسح هو قدر الناصية، وتركت بقية الحديث وهو: المسح على العمامة. قلت: لو عملنا بكل الحديث يلزم به الزيادة على النص، لأن هذا خبر الواحد، والزيادة به على الكتاب نسخ، فلا يجوز. وأما المسح على الرأس فقد ثبت بالكتاب فلا يلزم ذلك، وأما مسحه، عليه الصلاة والسلام، على العمامة فأوله البعض بان المراد به ما تحته من قبيل إطلاق اسم الحال على المحل، وأوله البعض بأن الراوي كان بعيدا عن النبي، عليه الصلاة والسلام، فمسح على رأسه ولم يضع العمامة من رأسه، فظن الراوي أنه مسح على العمامة. وقال القاضي عياض: وأحسن ما حمل عليه أصحابنا حديث المسح على العمامة أنه، عليه الصلاة والسلام، لعله كان به مرض منعه كشف رأسه، فصارت العمامة كالجبيرة التي يمسح عليها للضرورة. وقال بعضهم: فإن قيل: فلعله اقتصر على مسح الناصية لعذر لأنه كان في سفر، وهو مظنة العذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية، كما هو ظاهر سياق مسلم من حديث المغيرة. قلنا: قد روي عنه مسح مقدم الرأس من غير مسح على العمامة. وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه) ، وهو مرسل، لكنه اعتضد من وجه آخر موصولا، أخرجه أبو داود من حديث أنس. وفي إسناده أبو معقل لا يعرف حاله، فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة. قلت: قول هذا القائل من أعجب العجائب لأنه يدعي أن المرسل غير حجة عند إمامه، ثم يدعي أنه اعتضد بحديث موصول ضعيف باعترافه هو، ثم يقول: وحصلت القوة من الصورة المجموعة، فكيف تحصل القوة من شيء ليس بحجة وشيء ضعيف؟ فإذا كان المرسل غير حجة يكون في حكم العدم، ولا يبقى إلا الحديث الضعيف وحده، فكيف تكون الصورة المجموعة؟ .
الثامن: فيه البداءة في مسح الرأس بمقدمه، وروي في هذا الباب أحاديث كثيرة. فعند النسائي من حديث عبد الله بن زيد: (ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وادبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه) . وعند ابن أبي شيبة من حديث الربيع: (بدأ بمؤخره ثم مد يديه على ناصيته) . وعند الطبراني: (بدأ بمؤخر رأسه ثم جره إلى مؤخره) . وعند أبي داود: (يبدأ بمؤخره ثم بمقدمه وبإذنه كليهما) . وفي لفظ: (مسح الراس كله من قرن الشعر كل ناحيته لمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته) . وفي لفظ: (مسح رأسه كله وما أقبل وما أدبر وصدغيه) . وعند البزار من حديث أبي بكرة يرفعه: (توضأ ثلاثًا ثلاثًا) وفيه: (مسح برأسه يقبل بيده من مقدمه إلى مؤخره ومن مؤخره إلى مقدمه) . وعند ابن نافع من حديث أبي هريرة: (وضع يديه
(3/71)
على النصف من رأسه ثم جرهما إلى مقدم رأسه ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه وجرهما إلى صدغيه) . وعند أبي داود من حديث أنس: (أدخل يده من تحت العمامة فمسح بمقدم رأسه) . وفي كتاب ابن السكن: (فمسح باطن لحيته وقفاه) . وفي (معجم) البغوي وكتاب ابن ابي خيثمة: (مسح رأسه إلى سالفته) . وفي كتاب النسائي عن عائشة، ووصفت وضوءه، عليه السلام، ووضعت يدها في مقدم رأسها ثم مسحت إلى مؤخره، ثم مدت بيديها بأذنيها، ثم مدت على الخدين. فهذه أوجه كثيره يختار المتوضىء أيها شاء، واختار بعض أصحابنا رواية عبد الله بن زيد. وقال بعضهم: في قوله: بدأ بمقدم رأسه، حجة على من قال: السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس الى ان ينتهي الى مقدمه. قلت: لا يقال: إن مثل هذا حجة عليه، لأنه ورد فيه الأوجه التي ذكرناها الآن، والذي قال: السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس اختار الوجه الذي فيه البداء بمؤخر الرأس، وله أيضا أن يقول: هذا الوجه حجة عليك أيها المختار في البداءة بالمقدم.
التاسع: فيه غسل الرجلين إلى الكعبين، والكلام فيه كالكلام في المرفقين.
العاشر: فيه جريان التلطف بين الشيخ وتلميذه في قوله: (أتستطيع أن تريني) إلى آخره.
الحادي عشر: فيه جواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة.
الثاني عشر: فيه التعليم بالفعل.
الثالث عشر: فيه أن الاغتراف من الماء القليل لا يصير الماء مستعملا، لأن في رواية وهيب وغيره: ثم أدخل يده.
الرابع عشر: فيه استيعاب مسح الرأس، ولكن سنة لا فرضا، كما قررناه.
الخامس عشر: فيه الاقتصار في مسح الرأس على مرة واحدة.

39 - (باب غسل الرجلين إلى الكعبين)

أي: هذا باب في بيان غسل الرجلين إلى الكعبين في الوضوء. والمناسبة بين البابين ظاهرة.

186 - حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب عن عمر عن أبيه شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فاكفأ على يده من النور فغسل يديه ثلاثاً ثم أدخل يده في النور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ثم أدخل يده فمسح رأسه فاقبل بهما وأدبر مرةً غسل رجليه إلى الكعبين..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، والمناسبة بين البابين ظاهرة، والأبحاث المتعلقة به قد ذكرناها في الحديث السابق، ونذكر ههنا التي لم نذكر هناك.
فنقول: موسى هو ابن إسماعيل التبوذكي، مر في كتاب الوحي، ووهيب هو ابن خالد الباهلي مر في باب من أجاب الفتيا، وعمر وهو ابن يحيى بن عمارة، شيخ مالك المتقدم ذكره في الحديث السابق، وعمر وابن أبي حسن، بفتح الحاء، وقال الكرماني: عمرو هذا جد عمرو بن يحيى. فإن قلت: تقدم أن السائل هو جده، وهذا يدل على أنه أخو جده، فما وجه الجمع بينهما؟ قلت: لا منافاة في كونه جداً له من جهة الأم، عما لأبيه. وقال بعضهم: أغرب الكرماني فقال: عمرو بن ابي حسن جد عمرو بن يحيى من قبل أمه، وقدمنا أن أم عمرو بن يحيى ليست بنتا لعمرو بن أبي حسن، فلم يستقم ما قاله بالاحتمال. قلت: لم يغرب الكرماني في ذلك، ولا قاله بالاحتمال، فإن صاحب (الكمال) قال ذلك، وقد مر الكلام فيه في الباب الذي مضى.
قوله: (بتور) ، بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الواو وفي آخره راء: هو الطشت، وقال الجوهري: إناء يشرب منه. وقال الدراوردي: قدح. وقيل: يشبه الطشت، وقيل: مثل القدر يكون من صفر أو حجارة، وفي رواية عبد العزيز ابن أبي سلمة عند البخاري في باب الغسل في المخضب والصفر، بضم الصاد المهملة وسكون الفاء: صنف من جيد النحاس قيل: إنه سمي بذلك لكونه يشبه الذهب، ويسمى أيضا: الشبه، بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة. قوله: (لهم) أي: لأجلهم، وهم: السائل وأصحابه. قوله: (فأكفأ) فعل ماض من الإكفاء، وقد مر في الحديث السابق. قوله: (واستنشق واستنثر) قال الكرماني: هذا دليل من قال: إن الاستنشار هو غير الاستنشاق، وهو الصواب. قلت: قد ذكرنا فيما مضى عن ابن الأعرابي وابن قتيبة: أن الاستنشاق والاستنثار واحد، فان قلت: فعلى هذا يكون عطف الشيء على نفسه. قلت: لا نسم
(3/72)
ذلك، لأن اختلاف اللفظين يجوز ذلك، ويحتمل أن يكون عطف تفسير. قوله: (ثلاثة غرفات) قال الكرماني: يحتمل أن يراد بها أنها كانت للمضمضة ثلاثًا وللاستنشاق ثلاثًا، أو كانت الثلاث لهما، ولهذا هو الظاهر. قلت: الظاهر هو الأول لا الثاني، لأنه ثبت فيما رواه الترمذي وغيره: أنه مضمض واستنشق ثلاثًا. فان قلت: لا يعلم أن كل واحدة من الثلاث بغرفة. قلت: قد قلنا لك فيما مضى: إن البويطي روى عن الشافعي أنه روى عنه أنه: يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق، وكل ما روي من خلاف هذا فهو محمول على الجواز. قوله: (ثم أدخل يده) يدل على أنه اغترف بإحدى يديه، هكذا هو في باقي الروايات، وفي مسلم وغيره، ولكن وقع في رواية ابن عساكر وأبي الوقت من طريق سليمان ابن بلال الآتية: (ثم أدخل يديه) ، بالتثنية، وليس كذلك في رواية أبي ذر، ولا الأصيلي، ولا في شيء من الروايات خارج الصحيح، قاله النووي: (ثم غسل يديه مرتين) ، المراد: غسل كل يد مرتين، كما تقدم من طريق مالك: (ثم غسل يديه مرتين مرتين) ، وليس المراد توزيع المرتين على اليدين ليكون لكل يد مرة واحدة. قوله: (إلى المرفقين) المرفق، بكسر الميم وبفتح الفاء: هو العظم الناتىء في الذراع، سمي بذلك لأنه يرتفق في الإتكاء ونحوه. قوله: (إلى الكعبين) الكعب هو العظم الناتيء عند ملتقى الساق والقدم. قال بعضهم: وحكي عن أبي حنيفة أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك. قلت: هذا مختلق على أبي حنيفة، ولم يقل به أصلا، بل نقل ذلك عن محمد بن الحسن، وهو أيضا غلط، لأن هذا التفسير فسره محمد في حق المحرم إذا لم يجد نعلين يلبس خفين يقطعهما أسفل من الكعبين بالتفسير الذي ذكره.

40 - (باب استعمال فضل وضوء الناس)

أي: هذا باب في بيان استعمال فضل وضوء الناس في التطهر وغيره. والوضوء، بفتح الواو؛ والمراد من فضل الوضوء يحتمل أن يكون ما يبقى في الظرف بعد الفراغ من الوضوء، ويحتمل أن يراد به الماء الذي يتقاطر عن أعضاء المتوضىء، وهو الماء الذي يقول له الفقهاء: الماء المستعمل. واختلف الفقهاء فيه؛ فعن ابي حنيفة ثلاث روايات: فروى عنه أبو يوسف أنه نجس مخفف، وروى الحسن بن زياد أنه نجس مغلظ، وروى محمد بن الحسن وزفر وعافية القاضي أنه طاهر غير طهور، وهو اختيار المحققين من مشايخ ما وراء النهر. وفي (المحيط) : وهو الأشهر الأقيس. وقال في (المفيد) : وهو الصحيح. وقال الأسبيجابي: وعليه الفتوى. وقال قاضيخان: ورواية التغليظ رواية شاذة غير مأخوذ بها، وبه يرد على ابن حزم قوله: الصحيح عن ابي حنيفة نجاسته. وقال عبد الحميد القاضي: أرجو أن لا تثبت رواية النجاسة فيه عن ابي حنيفة. وعند مالك طاهر وطهور، وهو قول النخعي والحسن البصري والزهري والثوري وأبي ثور. وعند الشافعي طاهر غير طهور وهو قوله الجديد. وعند زفر إن كان مستعمله طاهرا فهو طاهر وطهور، وإن محدثا فهو طاهر غير طهور. وقوله: استعمال فضل وضوء الناس أعم من أن يستعمل للشرب أو لإزالة الحدث أو الخبث أو للاختلاط بالماء المطلق، فعلى قول النجاسة لا يجوز استعماله أصلا، وعلى قول الطهورية يجوز استعماله في كل شيء، وعلى قول الطاهرية فقط يجوز استعماله للشرب والعجين والطبخ وإزالة الخبث، والفتوى عندنا على أنه طاهر غير طهور، كما ذهب إليه محمد بن الحسن.
والمناسبة بين البابين من حيث إن الباب السابق في صفة الوضوء، وهذا الباب في بيان الماء الذي يفضل من الوضوء.
وأمر جرير بن عبد الله أهله أن يتوضؤوا بفضل سواكه

هذا الأثر غير مطابق للترجمة أصلا، فإن الترجمة في استعمال فضل الماء الذي يفضل من المتوضىء، والأثر هو الوضوء بفضل السواك، ثم فضل السواك إن كان ما ذكره ابن التين وغيره أنه هو الماء الذي ينتقع به السواك، فلا مناسبة له للترجمة أصلا لأنه ليس بفضل الوضوء، وإن كان المراد أنه الماء الذي يغمس فيه المتوضىء سواكه بعد الاستياك، فكذلك لا يناسب الترجمة. وقال بعضهم: أراد البخاري أن هذا الصنيع لا يغير الماء فلا يمنع التطهر به. قلت: من له أدنى ذوق من الكلام لا يقول هذا الوجه في تطابق الأثر للترجمة. وقال ابن المنير: إن قيل: ترجم على استعمال فضل الوضوء، ثم ذكر
(3/73)
حديث السواك والمجة فما وجهه؟ قلت: مقصوده الرد على من زعم أن الماء المستعمل في الوضوء لا يتطهر به. قلت: هذا الكلام أبعد من كلام ذلك القائل، فأي دليل دل على ان الماء في خبر السواك والمجة فضل الوضوء؟ وليس فضل الوضوء إلا الماء الذي يفضل من وضوء المتوضي. فإن كان لفظ: فضل الوضوء، عربيا فهذا معناه، وإن كان غير عربي فلا تعلق له ههنا. وقال الكرماني: فضل السواك هو الماء الذي ينتقع فيه السواك ليترطب، وسواكهم الأراك، وهو لا يغير الماء. قلت: بينت لك أن هذا كلام واه، وأن فضل السواك لا يقال له: فضل الوضوء، وهذا لا ينكره إلا معاند، ويمكن أن يقال بالجر الثقيل: إن المراد من فضل السواك هو الماء الذي في الظرف والمتوضىء يتوضأ منه، وبعد فراغه من تسوكه عقيب فراغه من المضمضة يرمى السواك الملوث بالماء المستعمل فيه. ثم أثر جرير المذكور وصله ابن أبي شيبة في (مصنفه) والدارقطني في (سننه) وغيرهما من طريق قيس بن أبي حازم عنه، وفي بعض طرقه: كان جرير يستاك ويغمس رأس سواكه في الماء، ثم يقول لأهله: توضأوا بفضله، لا يرى به بأس.

187 - حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا الحكم قال سمعت أبا جحيفة يقول خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به فصلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة..
هذا الحديث يطابق الترجمة إذا كان المراد من قوله: يأخذون من فضل وضوئه ما سال من أعضاء النبي، عليه الصلاة والسلام. وإن كان المراد منه الماء الذي فضل عنه في الوعاء فلا مناسبة أصلا.
بيان رجاله وهم أربعة. الأول: آدم بن أبي اياس تقدم. الثاني: شعبة بن الحجاج كذلك. والثالث: الحكم، بفتح الحاء المهملة وفتح الكاف: ابن عتيبة، بضم العين وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة، تقدم في باب السمر بالعلم. والرابع: أبو جحيفة، بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبالفاء، واسمه وهب بن عبد الله الثقفي الكوفي، تقدم في باب كتابة العلم، رضي الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والسماع. ومنها: أن رواته ما بين عسقلاني وكوفي وواسطي. ومنها: أنه من رباعيات البخاري. ومنها: أن الحكم بن عتيبة ليس له سماع من أحد من الصحابة إلا أبا جحيفة، وقيل: روى عن أبي أوفى أيضا.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن سليمان بن حرب، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الحسن بن منصور. وأخرجه مسلم في الصلاة محمد بن المثني عن محمد بن بشار، كلاهما عن غندر، وعن زهير بن حرب، وعن محمد بن حاتم كلاهما عن ابن مهدي، خمستهم عن شعبة عنه به. وأخرجه النسائي في الصلاة عن محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار به.
بيان اللغات والإعراب قوله: (بالهاجرة) ، قال ابن سيده: الهجيرة والهجيرة والهجر والهاجر: نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهيرة، وقيل: عند زوال إلى العصر، وقيل في ذلك: إنه شدة الحر. وهجر القوم وأهجروا وتهجروا: ساروا في الهجيرة. وفي كتاب (الأنواء الكبير) لأبي حنيفة: الهاجرة بالصيف قبل الظهيرة بقليل أو بعدها بقليل، يقال: أتيته بالهجر الأعلى وبالهاجرة العليا، يريد في آخر الهاجرة، والهو يجرة: قبل العصر بقليل، والهجر مثله. وسميت الهاجرة لهرب كل شيء منها، ولم أسمع بالهاجرة في غير الصيف إلا في قول العجاج في ثور وحش طرده الكلاب في صميم البر:
(ولى كمصباح الدجى المزهورة ... كان من آخر الهجيرة)

قوم هجان هم بالمقدورة.

وفي (الموعب) : أتيته بالهاجرة وعند الهاجرة وبالهجير وعند الهجير، وفي (المغيث) : الهاجرة بمعنى المهجورة، لأن السير يهجر فيها، كماء دافق بمعنى مدفوق، قاله الهروي. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (والمهجر كالمهدي بدنه) ، فالمراد التبكير إلى كل صلاة. وعن الخليل: التهجير إلى الجمعة. التبكير، وهي لغة حجازية. قوله: (فأتي بوضوء) ، بفتح الواو: وهو الماء الذي يتوضأ به. قوله:
(3/74)
(فيتمسحون به) ، من باب التفعل، وهو يأتي لمعان، ومعناه ههنا: العمل، ليدل على أن أصل الفعل حصل مرة بعد مرة، نحو تجرعه أي: شربه جرعة بعد جرعة، والمعنى ههنا كذلك، لأن كل واحد منهم يمسح به وجهه ويديه مرة بعد أخرى، ويجوز أن يكون للتكلف، لأن كل واحد منهم لشدة الازدحام على فضل وضوئه كان يتعانى لتحصيله كتشجع وتصبر. قوله: (عنزة) ، بالتحريك: أقصر من الرمح وأطول من العصار، وفيه زج كزج الرمح.
وأما الإعراب فقوله: (يقول) في محل النصب على أنه مفعول ثان: لسمعت، على قول من يقول: إن السماع يستدعي مفعولين، والأظهر أنه: حال. قوله: (بالهاجر) : الباء، فيه ظرفية بمعنى: في الهاجرة. قوله: (يأخذونه) في محل النصب لأنه خبر جعل الذي هو من أفعال المقاربة. قوله: (عنزة) مرفوع بالابتداء وخبره مقدما، قوله: (بين يديه) ، والجملة حالية.
بيان إستنباط الأحكام: الأول: فيه الدلالة الظاهرة على طهارة الماء المستعمل إذا كان المراد أنهم كانوا يأخذون ما سال من أعضائه صلى الله عليه وسلم، وإن كان المراد أنهم كانوا يأخذون ما فضل من وضوئه صلى الله عليه وسلم في الإناء فيكون المراد منه التبرك بذلك، والماء طاهر فازداد طهارة ببركة وضع النبي صلى الله عليه وسلم، يده المباركة فيه. الثاني: فيه الدلالة على جواز التبرك بآثار الصالحين. الثالث: فيه قصر الرباعة في السفر، لأن الواقع كان في السفر، وصرح في رواية أخرى أن خروجه صلى الله عليه وسلم، وهذا كان من قبة حمراء من أدم بالأبطح بمكة. الرابع: فيه نصب العنزة ونحوها بين يدي المصلي إذا كان في الصحراء.
وقال أبو موسى دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال لهما اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما.
قال الإسماعيلي: ليس هذا من الوضوء في شيء، وإنما هو مثل من استشفى بالغسل له فغسل. قلت: أراد بهذا الكلام أنه لا مطابقة له للترجمة، ولكن فيه مطابقة من حيث إنه، عليه الصلاة والسلام، لما غسل يديه ووجهه في القدح صار الماء مستعملا ولكنه طاهر، إذ لو لم يكن طاهرا لما أمر بشربه وإفراغه على الوجه والنحر، وهذا الماء طاهر وطهور أيضا بلا خلاف، ولكنه إذا وقع مثل هذا من غير النبي، عليه الصلاة والسلام، يكون الماء على حاله طاهرا، ولكن لا يكون مطهراً على ما عرف.
بيان ما فيه من الأشياء الأول: أن أبا موسى هو الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس، تقدم في باب: أي الإسلام أفضل.
الثاني: أن أن هذا تعليق وهو طرف من حديث مطول أخرجه البخاري في المغازي. وأوله عن أبي موسى، قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ومعه بلال، رضي الله عنه، فأتاه أعرابي قال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ قال: إبشر) الحديث، وفيه: (دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه) الحديث. وأخرج أيضا قطعة منه في باب الغسل والوضوء في المخضب. وأخرجه مسلم أيضا في فضائل النبي، عليه الصلاة والسلام.
الثالث: القدح، بفتحين: هو الذي يؤكل فيه. قاله ابن الأثير. قلت: القدح في استعمال الناس اليوم الذي يشرب فيه. قوله: (ومج فيه) اي: صب ما تناوله من الماء بفيه في الإناء. وقال ابن الاثير. مج لعابه إذا قذفه. وقيل: لا يكون مجاً حتى تباعد به. قوله: (قال لهما) أي: لأبي موسى وبلال، رضي الله تعالى عنهما، وكان بلال مع أبي موسى حاضرا عند النبي، عليه الصلاة والسلام. قوله: (وأفرغا) من: الإفراغ. قوله: (ونحو ركما) بالنون جمع نحر، وهو: الصدر.
الرابع: فيه الدلالة على طهارة الماء المستعمل على الوجه الذي ذكرناه، وفيه جواز مج الريق في الماء، قاله الكرماني. قلت: هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأن لعابه أطيب من المسك ومن غيره يستقذر، ولهذا كره العلماء. والنبي، عليه الصلاة والسلام، مقامه أعظم، وكانوا يتدافعون على نخامته ويدلكون بها وجوههم لبركتها وطيبها، وخلوفه ما كان يشابه خلوف غيره، وذلك لمناجاته الملائكة فطيب الله نكهته وخلوف فمه وجميع رائحته. وقال ابن بطال: فيه دليل على أن لعاب البشر ليس بنجس ولا بقية شربه، وذلك يدل على أن نهيه، عليه الصلاة والسلام، عن النفخ في الطعام والشراب ليس على سبيل أن ما تطاير فيه من اللعاب نجس، وإنما هو خشية أن يتقذرة الآكل منه، فأمر بالتأدب في ذلك. وقال أيضا: وحديث ابي موسى يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالشرب من الذي مج فيه، والإفراغ على الوجوه والنحور من أجل مرض أو شيء أصابهما. قال الكرماني: لم يكن ذلك من أجل ما ذكره، بل كان لمجرد التيمن
(3/75)
والتبرك به، وهذا هو الظاهر. قلت: فعلى هذا لا تطابق بينه وبين ترجمة الباب، والعجب من ابن بطال حيث يقول بالاحتمال في الذي يدل على هذا الحديث على التبرك والتيمن ظاهرا، ويقول بالجزم في الذي يحتمل غيره.

189 - حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني محمود بن الربيع قال وهو الذي مج رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وهو غلام من بئرهم..
هذا الحديث لا يطابق الترجمة أصلا، وإنما يدل على ممازحة الطفل بما قد يصعب عليه، لأن مج الماء قد يصعب عليه، وإن كان قد يستلذه.
وقد أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب العلم في باب: متى يصح سماع الصغير، وقد مر الكلام فيه مستوفى من جمع الوجوه.
وعلي بن عبد الله هو ابن المديني، أحد الأعلام، وصالح هو ابن كيسان، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري. والربيع بفتح الراء.
قوله: (من بئرهم) ، يتعلق بقوله: (مج) . وقوله: (وهو غلام) جملة إسمية وقعت حالا. وقوله: (وهو الذي مج) إلى لفظ: (بئرهم) ، كلام لابن شهاب ذكره تعريفاً أو تشريفًا، والضمير في بئرهم: لمحمود وقومه بدلالة القرينة عليه، والذي اخبر به محمود هو قوله: عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو.
وقال عروة عن المسور وغيره يصدق كل واحد منهما صاحبه وإذا وضأ النبي صلى الله عليه وسلم كادوا يقتتلون على وضوئه

عروة: هو ابن الزبير بن العوام تقدم. المسور، بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو: ابن مخرمة، بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء: الزهري ابن بنت عبد الرحمن بن عوف، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين، وصح سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، روي له اثنان وعشرون حديثا، ذكر البخاري منها ستة، فأصابه حجر من أحجار المنجنيق وهو يصلي في الحجر، فمكث خمسة أيام ثم مات زمن محاصرة الحجاج مكة سنة أربع وستين. والألف واللام فيه كالألف واللام في: الحارث، يجوز إثباتها ويجوز نزعها وهو في الحالتين علم.
قوله: (يصدق كل واحد منهما صاحبه) أي: يصد كل من المسور ومروان صاحبه، لأن المراد من قوله: وغيره، وهو مروان على ما يأتي. وقد خبط الكرماني هنا خباطاً فاحشا، وسأبنيه عن قريب إن شاء الله تعالى. قوله: (وغيره) يريد به مروان بن الحكم، لأن البخاري أخرج هذا التعليق في كتاب الشروط في باب الشروط في الجهاد موصولا، فقال: حدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: اخبرني الزهري، قال: أخبرني عروة ابن الزبير عن المسور ابن مخرمة ومروان، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية) الحديث وهو طويل جدا إلى أن قال: (ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي، عليه الصلاة والسلام، بعينيه. قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم، نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كانوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له) إلى آخر الحديث. والمراد من قوله: ثم إن عروة، وهو عروة بن مسعود أرسله كفار مكة إلى النبي، عليه الصلاة والسلام، زمن الحديبية. قوله: (واذا توضأ) الضمير فيه يرجع إلى النبي، عليه الصلاة والسلام، والحاكي هو عروة بن مسعود لأنه هو الذي شاهد من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، ما كانوا يفعلون بين يدي النبي، عليه الصلاة والسلام. وهو أيضا أخبر بذلك لأهل مكة، كما ستقف على الحديث بطوله. قوله: (كانوا يقتتلون) كذا هو في رواية أبي ذر، وفي، رواية الباقين: (كادوا يقتتلون) . قال بعضهم: هو الصواب، لأنه لم يقع بينهم قتال. قلت: كلاهما سواء، والمراد به المبالغة في ازدحامهم على نخامة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى وضوئه. وأما الكرماني فإنه قال: أولا: فإن قلت: هو رواية عن المجهول ولا اعتبار به. قلت: الغالب أن عروة لا يروى إلا عن العدل، فحكمه حكم المعلوم. وأيضًا هو مذكور على سبيل التبعية، ويحتمل في التابع ما لا يحتمل في غيره. أقول
(3/76)
هذا السؤال، غير وارد أصلا، لأن هذا التعليق، وهو قوله: وقال عروة ... قد أخرجه البخاري موصولا، وبين فيه أن المراد من قوله: وغيره هو مروان، كما ذكرناه، فإذا سقط السؤال فلا يحتاج إلى الجواب. وقال الكرماني: ثانيًا: فإن قلت: هذا تعليق من البخاري أم لا؟ قلت: هو عطف على مقول ابن شهاب اي: قال ابن شهاب: أخبرني محمود وقال عروة، أقول: نعم، هذا تعليق وصله في كتابه كما ذكرنا وليس هو عطفا على مقول ابن شهاب. وقال ثالثا: قوله منهما أي: من محمود والمسور، أي: محمود يصدق مسوراً، ومسور يصدق محمودًا. أقول: ليس كذلك، بل المعنى أن المسور يصدق مروان بن الحكم، ومروان يصدق مسوراً. وقال رابعا: ولفظ يصدق، هو كلام ابن شهاب أيضا، ومقول كل واحد منهما هو لفظ: وإذا توضأ. أقول: لفظ: وإذا توضأ، ليس مقول كل واحد منهما، بل مقول عروة بن مسعود، لأنه هو القائل بذلك والحاكي به عند مشركي مكة، وذكر أبو الفضل بن طاهر أن هذا الحديث معلول، وذلك أن المسور ومروان لم يدركا هذه القصة التي كانت بالحديبية سنة ست لأن مولدهما كان بعد الهجرة بسنتين، وعلى ذلك اتفق المؤرخون. وأما ما في (صحيح مسلم) عن المسور قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على هذا المنبر وأنا يومئذ محتلم) ، فيحتاج إلى تأويل لغوي أنه كان يعقل لا الاحتلام الشرعي، أو أنه كان سميناً غير مهزول فيما ذكره القرطبي. وقال صاحب (الأفعال) : حلم حلماً إذا عقل. وقال غيره: تحلم الغلام صار سميناً، وهو معدود في صغار الصحابة، مات سنة أربع وستين.

190 - حدثنا عبد الرحمن بن يونس قال حدثنا حاتم بن إسماعيل عن الجعد قال سمعت السائب بن يزيد يقول ذهبت بي خالتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابن اختي وجع فمسح رأسي ودعا لي بالبركة ثم توضأ فشربت من وضوئه ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة إن كان المراد من قوله: (فشربت من وضوئه) الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة، وإن كان المراد: من فضل وضوئه، فلا مطابقة. ووقع للمستملي على رأس هذا الحديث لفظه: باب، بلا ترجمة. وعند الأكثرين وقع بلا فصل بينه وبين الذي قبله.
بيان رجاله وهم اربعة. الأول: عبد الرحمن بن يونس أبو مسلم البغدادي المستملي احد الحفاظ، استملى لسفيان بن عيينة وغيره، مات فجأة سنة أربع وعشرين ومائتين. الثاني: حاتم بن إسماعيل الكوفي، نزل المدينة ومات بها سنة ست وثمانين ومائة، في خلافة هارون. الثالث: الجعد، بفتح الجيم وسكون العين المهملة ابن عبد الرحمن بن أوس المدني الكندي، والمشهور أنه يقال له: الجعيد، بالتصغير. الرابع: السائب اسم فاعل من السبب، بالمهملة وبالياء آخر الحروف بعدها الباء الموحدة: ابن يزيد من الزيادة الكندي. قال: حج بي أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين، روي له خمسة أحاديث، والبخاري أخرجها كلها، توفي بالمدينة سنة إحدى وتسعين.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والسماع. ومنها: أن رواته ما بين بغدادي وكوفي ومدني. ومنها: أن الرواية فيه من صغار الصحابة، رضي الله عنهم.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في صفة النبي صلى الله عليه وسلم عن محمد بن عبيد الله، وفي الطب عن إبراهيم بن حمزة، وفي الدعوات عن قتيبة وهناد عن عبد الرحمن، أربعتهم عن حاتم بن إسماعيل وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم عن إسحاق بن إبراهيم عن الفضل بن موسى. وأخرجه مسلم في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيبة ومحمد بن عباد، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به وأخرجه الترمذي في المناقب عن قتيبة به وقال حسن غريب من هذا الوجه وأخرجه النسائي في الطب عن قتيبة به.
بيان اللغات قوله: (ذهبت به) ، والفرق بينه وبين: أذهبه أزاله وجعله ذاهبًا. ومعنى ذهب به: استصحبه ومضى به معه. قوله: (وقع) ، بفتح الواو وكسر القاف وبالتنوين، وفي رواية الكشميهني وأبي ذر الهروي وقع بفتح القاف على لفظ الماضي، وفي رواية كريمة: (وجع) ، بفتح الواو وكسر الجيم، وعليه الأكثرون، ومعنى: وقع، بكسر القاف: أصابه وجع في قدميه
(3/77)
وزعم ابن سيده أنه يقال: وقع الرجل والفرس وقعا فهو وقع: إذا حفي من الحجارة والشوط، وقد وقعه الحجر، وحافر وقيع وقعته الحجارة فقصت منه، ثم استعير للمشتكي المريض، يبينه قولها: وجع، والعرب تسمي كل مرض وجعاً. وفي (الجامع) : وقع الرجل فوقع إذا حفي من مشيه على الحجارة. وقيل: هو أن يشتكي لحم رجليه من الحفا. وقال ابن بطال: وقع معناه أنه وقع في المرض. وقال الجوهري: وقع أي: سقط، والوقع أيضا: الحفا. قوله: (فشربت من وضوئه) بفتح الواو. قوله: (إلى خاتم النبوة) بكسر: التاء، أي: فاعل الختم، وهو الإتمام والبلوغ إلى الآخر، وبفتح: التاء، بمعنى: الطابع، ومعناه الشيء الذي هو دليل على أنه لا نبي بعده. وقال القاضي البيضاوي: خاتم النبوة أثر بين كتفيه، نعت به في الكتب المتقدمة وكان علامة يعلم بها أنه النبي الموعود، وصيانة لنبوته عن تطرق القدح إليها صيانة الشيء المستوثق بالختم. قوله: (مثل زر الحجلة) : الزر، بكسر الزاي وتشديد الراء. والحجلة، بفتح الحاء والجيم: واحدة الحجال، وهو بيوت تزين بالثياب والستور والإثرة، لها على وأزرار. وقال ابن الأثير: الحجلة، بالتحريك: بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كبار، ويجمع على: حجال. وقيل: المراد بالحجلة: الطير، وهي التي تسمى القبحة، وتسمى الأنثى الحجلة، والذكر: يعقوب، وزرها: بيضها. ويؤيد هذا أن في حديث آخر: (مثل بيضة الحمامة) . وعن محمد بن عبد الله شيخ البخاري. الحجلة من حجل الفرس الذي بين عينيه، وفي بعض نسخ المغاربة: الحجلة، بضم الحاء المهملة وسكون الجيم. قال الكرماني: وقد روي أيضا بتقديم الراء على الزاي، ويكون المراد منه: البيض. يقال: أرزت الجرادة بفتح الراء وتشديد الزاي: إذا كبست ذنبها في الأرض فباضت.
وجاءت فيه روايات كثيرة: ففي رواية مسلم عن جابر بن سمرة: (ورأيت الخاتم عند كتفيه مثلي بيضة الحمامة يشبه جسده) ، وفي رواية أحمد، من حديث عبد الله بن سرجس: (ورأيت خاتم النبوة في نغض كتفه اليسرى كأنه جمع فيه خيلان سود كأنهما الثآليل) . وفي رواية أحمد أيضا من حديث ابي رمثة التيمي، قال: (خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت برأسه ردع حناء، ورأيت على كتفه مثل التفاحة، فقال ابي: إني طبيب ألا أبطها لك؟ قال: طبيبها الذي خلقها) . وفي (صحيح) الحاكم: (شعر مجتمع) ، وفي كتاب البيهقي: (مثل السلعة) . وفي (الشمائل) : (بضعة ناشزة) . وفي حديث عمرو بن أخطب: (كشيء يختم به) . وفي (تاريخ) ابن عساكر: (مثل البندقة) ، وفي الترمذي: (كالتفاحة) . وفي (الروض) : كاثم المحجم الغائص على اللحم. وفي (تاريخ ابن ابي خيثمة) : شامة خضراء محتفرة في اللحم، وفيه أيضا: شامة سوادء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكبات كأنها عرف الفرس. وفي (تاريخ القضاعي) : ثلاث مجتمعات. وفي كتاب (المولد) لابن عابد: كان نورا يتلألأ. وفي (سيرة) ابن أبي عاصم: عذرة كعذرة الحمامة. قال أبو أيوب: يعنى فرطمة الحمامة، وفي (تاريخ نيسابور) : مثل البندقة من لحم مكتوب فيه باللحم: (محمد رسول الله) . وعن عائشة، رضي الله تعالى عنها، كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة، وكانت مما يلي القفا. قالت: فلمسته حين توفي فوجدته قد رفع. وقيل: كركبة العنز، وأسده أبو عمر عن عباد بن عمرو، وذكر الحافظ ابن دحية في كتابه (التنوير) : كان الخاتم الذي بين كتفي رسول الله، عليه الصلاة والسلام، كأنه بيضة حمامة مكتوب في باطنها: (الله وحده) : وفي ظاهرها: (توجه حيث شئت فإنك منصور) . ثم قال: هذا حديث غريب استنكره؛ قال: وقيل: كان من نور. فإن قلت: هل كان خاتم النبوة بعد ميلاده أو ولد هو معه؟ قلت: قيل: ولد وهو معه، وعن ابن عائد في (مغازيه) بسنده إلى شداد بن أوس، فذكر حديث الرضاع وشق الصدر، وفيه: وأقبل الثالث. يعين الملك وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه، ووجد برده زمانا. وفي (الدلائل) لأبي نعيم: أن النبي، عليه الصلاة والسلام، لما ولد ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج صرة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتم، فضرب على كتفيه كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة: فان قلت: أين كان موضعه؟ قلت: قد روي أنه بين كتفيه. وقيل: كان على نغض كتفه اليسى، لأنه يقال: إنه الموضع الذي يدخل منه الشيطان إلى باطن الإنسان، فكان هذا عصمة له، عليه الصلاة والسلام، من الشيطان. وذكر أبو عمران، ميمون بن مهران، ذكر عن عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه: أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان منه، فرأى جسده ممهى يرى داخله من خارجه، ورأى الشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه حداء قلبه، له خرطوم كخرطوم البعوضة، وقد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه
(3/78)
يوسوس إليه، فإذا ذكر الله تعالى العبد خنس. ثم الحكمة في الخاتم. على وجه الاعتبار. أن قلبه، عليه الصلاة والسلام، لما ملىء حكمة وإيمانا، كما في (الصحيح) ، ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكاً أو درا، فلم يجد عدوه سبيلا إليه من أجل ذلك الختم، لأن الشيء المختوم محروس، وكذا تدبير الله، عز وجل، في هذه الدنيا إذا وجد الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصام فيما بين الآدميين، فلذلك ختم رب العلمين في قلبه ختماً تطامن له القلب، وبقي النور فيه، ونفذت قوة القلب إلى الصلب فظهرت بين الكتفين كالبيضة، ومن أجل ذلك برز بالصدق على أهل الموقف، فصارت له الشفاعة من بين الرسل بالمقام المحمود، لأن ثناء الصدق هو الذي خصه ربه بما لم يخص به أحدا غيره من الأنبياء، وغيرهم، يحققه قول الله العظيم: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم} (يونس: 2) قال ابو سعيد الخدري، وقد صدق: هو محمد، عليه السلام، شفيعكم يوم القيامة، وكذا قال الحسن وقتادة وزيد بن أسلم: وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ذكره مسلم من حديث أبي بن كعب، رضي الله تعالى عنه، وأخرت الثالثة ليوم ترغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. وقال القاضي عياض: هذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه. وقال النووي: هذا باطل، لأن شق الملكين إنما كان في صدره.
مشكلات ما وقع في هذا الباب قوله: (في نغض كتفه اليسرى) ، بضم النون وفتحها وكسر الغين المعجمة وفي آخره ضاد معجمة، قال ابن الاثير: النغض والنغض والناغض: أعلى الكتف. وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه. قوله: (كأه جمع) ، بضم الجيم وسكون الميم، معناه: مثل جمع الكف، وهو أن تجمع الأصابع وتضمها، ومنه يقال: ضربه بجمع كفه. (و: الخيلان) بكسر الخاء المعجمة وسكون الياء، جمع: خال. قوله: (الثآليل) جمع: ثؤلول، وهو الحبة التي تظهر في الجلد كالحمصة فمادونها. قوله: (ردع حناء) ، بفتح الراء وسكون الدال وفي آخره عين مهملة: أي لطخ حناء، والحناء، بالكسر والتشديد وبالمد، معروف. والحناءة أخص منه. قوله: (ألا أبطها) ؟ من البط، وهو: شق الدمل والخراج. قوله: (بضعة ناشزة) . البضعة، بفتح الباء الموحدة: القطعة من اللحم. و: ناشزة، بالنون والشين والزاي المعجمتين أي: مرتفعة عن الجسم. قوله: (محتفرة) : أي غائصة، وأصله من حفر الأرض.
بيان استنباط الأحكام الاول: فيه بركة الاسترقاء. الثاني: فيه الدلالة على مسح رأس الصغير، وكان مولد السائب الذي مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في السنة الثانية من الهجرة، وشهد حجة الوداع، وخرج مع الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه من تبوك. الثالث: فيه الدلالة على طهارة الماء المستعمل، وإن كان المراد من قول السائب بن يزيد: فشربت من وضوئه، وهو: الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة. وقال بعضهم: هذه الأحاديث يعني التي في هذا الباب. ترد عليه: أي على أبي حنيفة، لأن النجس لا يتبرك به. قلت: قصد هذا القائل التشنيع على أبي حنيفة بهذا الرد البعيد، لأن ليس في الأحاديث المذكورة ما يدل صريحًا على أن المراد من: فضل وضوئه، هو: الماء الذي تقاطر من أعضائه الشريفة. وكذا في قوله: (كانوا يقتتلون على وضوئه) ، وكذا في قول السائب: (فشربت من وضوئه) . ولئن سلمنا أن المراد هو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة، فأبو حنيفة ينكر هذا ويقول بنجاسة ذاك، حاشاه منه، وكيف يقول ذلك هو يقول بطهارة بوله وسائر فضلاته؟ ومع هذا قد قلنا: لم يصح عن أبي حنيفة تنجيس الماء المستعمل، وفتوى الحنيفة عليه، فانقطع شغب هذا المعاند. وقال ابن المنذر: وفي إجماع أهل العلم على أن البلل الباقي على أعضاء المتوضىء، وما قطر منه على ثيابه، دليل قوي على طهارة الماء المستعمل. قلت: المثل.
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء.
والماء الباقي على أعضاء المتوضيء لا خلاف لأحد في طهارته، لأن من يقول بعدم طهرته إنما يقول بالانفصال عن العضو، بل عند بضعهم بالانفصال والاستقرار في مكان. وأما الماء الذي قطر منه على ثيابه فإنما سقط حكمه للضرورة لتعذر الاحتراز عنه.

41 - (باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة)

أي: هذا باب في بيان حكم المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة، كما فعله عبد الله بن زيد.
والمناسبة بين البابين من حيث إن كلا منهما من تعلقات الوضوء. فالأول: في الوضوء، بالفتح، والثاني: في الوضوء، بالضم.
(3/79)
191 - حدثنا مسدد قال حدثنى خالد بن عبد الله قال حدثنا عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد أنه أفرغ من الاناء على يديه فغسلهما ثم غسل أو مضمض واستنشق من كفة واحدة ففعل ذلك ثلاثًا فغسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ومسح برأسه ما أقبل وما أدبر وغسل رجليه إلى الكعبين ثم قال هكذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم خمسة. الأول: مسدد بفتح الدال المسددة، وقد تقدم في أول كتاب الايمان. الثاني: خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي، أبو الهيثم الطحان، يحكى أنه تصدق بزنة بدنه فضة ثلاث مرات، مات سنة تسع وستين ومائة. الثالث: عمرو بن يحيى، رضي الله تعالى عنه، ابن عمارة المازني الأنصاري، تقدم قريبا. الرابع: أبوه يحيى، تقدم أيضا. الخامس: عبد الله بن زيد الأنصاري.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة. ومنها: أن رواته ما بين بصري وواسطي ومدني. ومنها: أن فيه فعل الصحابي ثم إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره قد ذكرنا عن قريب أن البخاري قد أخرج حديث عبد الله بن زيد في خمسة مواضع. وأخرجه مسلم عن محمد بن الصباح عن خالد بن عبد الله بسنده هذا من غير شك، ولفظه: (ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق) : وأخرجه أيضا الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية عن خالد كذلك.
بيان لغاته ومعناه قوله: (أفرغ) اي: صب الماء في الإناء على يديه. قوله: (ثم غسل) أي: فمه. قوله: (أو مضمض) شك من الراوي. قال الكرماني: الظاهر أن الشك من يحيى. وقال بعضهم: الظاهر أن الشك من مسدد شيخ البخاري، ثم قال: وأغرب الكرماني فقال: الظاهر أن الشك فيه من التابعي: قلت: كل منهما محتمل، وكونه من الظاهر من أين بلا قرينة؟ قوله: (من كفة) كذا في رواية أبي ذر، وفي رواية الأكثر بن: (من كف) بلا هاء، وفي بعض النسخ: (من غرفة واحدة) . وقال ابن بطال: من كفة، أي: من حفنة واحدة، فاشتق لذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى، ولا يعرف في كلام العرب إلحاق هاء التأنيث في الكف. وقال ابن التين: اشتق بذلك من اسم الكف، وسمي الشيء باسم ما كان فيه. وقال صاحب (المطالع) : هي بالضم والفتح مثل غرفة وغرفة، أي: ملأ كفه من ماء. وقال بعضهم: ومحصل ذلك أن المراد من قوله: (كفه) فعلة في أنها تأنيث الكف. قلت: هذا محصل غير حاصل، فكيف يكون كفة تأنيث كف، والكف مؤنث؟ والأقرب إلى الصواب ما ذكره ابن التين قوله: (فغسل يديه إلى المرفقين) . ولا يكون ذلك إلا بعد غسل الوجه، ولم يذكر غسل الوجه. وقال الكرماني: فان قلت: أين ذكر غسل الوجه؟ قلت: هو من باب اختصار الحديث وذكر ما هو المقصود، وهو الذي ترجم له الباب مع زيادة بيان ما اختلف فيه من التثليث في المضمضة والاستنشاق وإدخال المرفق في اليد وتثنية غسل اليد ومسح ما أقبل وأدبر من الرأس وغسل الرجل منتهياً إلى الكعب، وأما غسل الوجه فأمره ظاهر لا احتياج له إلى البنيان؛ فالتشبيه في: (هكذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم) ليس من جميع الوجوه، بل في حكم المضمضة والاستنشاق. قلت: هذا جواب ليس فيه طائل، وتصرف غير موجه، لأن هذا في باب التعليم لغيره صفة الوضوء، فيشهد بذلك قوله: (هكذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، ويؤيد ذلك ما جاء في حديث الآخر عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد، وهو حد عمرو بن يحيى: (أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضأ) ؟ الحديث ... وقد مر عن قريب، وكل ما روي عن عبد الله بن زيد في هذا الباب حديث واحد وقد ذكر فيه غسل الوجه، وكذا ثبت ذلك في رواية مسلم وغيره، فإذا كان هذا في باب التعليم فكيف يجوز له ترك فرض من فروض الوضوء وذكر شيء من الزوائد؟ والظاهر أنه سقط من الراوي كما أنه شك في قوله: (ثم غسل أو مضمض) . وقول الكرماني: واما غسل الوجه فأمره ظاهر، غير ظاهر، وكونه ظاهرا عند عبد الله بن زيد لا يستلزم أن يكون ظاهرا عند السائل عنه، ولو كان ظاهرا لما سأله. وقوله
(3/80
: ذكر ما هو المقصود، أي: ذكر البخاري ما هو المقصود، وهو الذي ترجم له الباب. قلت: كان ينبغي أن يقتصر على المضمضمة والاستنشاق فقط، كما هو عادته في تقطيع الحديث لأجل التراجم، فيترك اختصاراً ذكر فرض من الفروض القطعية، ويذكر زوائد لا تطابق الترجمة. وقال الكرماني: وقد يجاب أيضا بأن المفعول المحذوف الوجه، أي: ثم غسل وجهه، وحذف لظهوره، فأو، بمعنى: الواو، في قوله: (أو مضمض) ، ومن كفة واحدة يتعلق: بمضمض واستنشق فقط. قلت: هذا أقرب إلى الصواب لأنه لا يقال في الفم في الوضوء إلا مضمض، وإن كان يطلق عليه الغسل.
بيان استنباط الأحكام قد تقدم، وإنما مراد البخاري ههنا بيان أن المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة، وهذا أحد الوجوه الخمسة المتقدمة، وليس هذا حجة على من يرى خلاف هذا الوجه، لأن الكل نقل عنه، عليه السلام، بيانا للجواز.

42 - (باب مسح الرأس مرةً)

أي هذا باب في بيان مسح الرأس مرة واحدة. والمناسبة بين البابين ظاهرة.

192 - حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا وهيب قال حدثنا عمرو بن يحيى عن أبيه قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم (فكفأه على يديه فغسلهما ثلاثاً ثم أدخل يده في الاناء) فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات من ماء ثم أدخل يده في الاناء فغسل وجهه ثلاثًا ثم ادخل يده في الاناء فغسل يديه الى المرفقين مرتين ثم ادخل يده في الاناء فمسح برأسه فأقبل بيديه وادبر بهما ثم ادخل يده في الاناء فغسل رجليه..
قوله: (باب مسح الرأس مرة) ، هكذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الأصيلي: (باب مسح الرأس مسحة) .
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وهي في قوله: (فمسح برأسه) ، أي: مرة واحدة، والدليل عليه شيئان. أحدهما: أنه نص على الثلاث وعلى مرتين في غيره. والثاني: أنه صرح بالمرة في حديث موسى عن وهيب، كما يذكره الآن، وقد تقدم الكلام فيه فيما مضى. قوله: (وهيب) هو ابن خالد. قوله: (فدعا بتور من ماء) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (فدعا بماء) ، لم يذكر: التور. قوله: (فكفأه) أي: أماله، وفي رواية الأصيلي: (فاكفأه) ، بزيادة همزة في أوله، وهذه كلها مضت في باب غسل الرجلين إلى الكعبين، والتفاوت بينهما أنه كرر لفظ: مرتين، ههنا وزاد: الباء، في: مسح برأسه. ولفظ: (ثم ادخل يده في الاناء) ، ونقص لفظ: مرة واحدة، منه ولفظ: إلى الكعبين. وقال الكرماني: فإن قلت: هل فرق بين تكرار لفظ: مرتين، وعدمه غير التأكيد؟ قلت: هذا نص في غسل كل يد مرتين، وذلك ظاهر فيه.
وحدثنا موسى قال حدثنا وهيب قال مسح رأسه مرةً.

موسى هو ابن إسماعيل التبوذكي؛ ووهب هو ابن خالد، وتقدمت طريق موسى هذا في باب غسل الرجلين إلى الكعبين، وذكر فيها أنه مسح الراس مرة واحدة. وقال ابن بطال: قال الشافعي: المسنون ثلاث مسحات، والحجة عليه أن المسنون يحتاج إلى شرع، وحديث عثمان، رضي الله عنه، وإن كان فيه: أنه مسح برأسه مرة، وهو قول الشافعي. وقال الكرماني: الشرع الذي قال الشافعي في مسنونية الثلاث ما روى أبو داود في (سننه) : أنه، عليه الصلاة والسلام، مسح ثلاثًا، والقياس على سائر الأعضاء. قلت: روى أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا اسرائيل عن عامر عن شقيق بن حمزة عن شقيق بن سلمة، قال: (رأيت عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، غسل ذراعيه ثلاثًا، ومسح رأسه ثلاثًا، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا) . قلت: المذكور من حديث الجماعة هو مسح الراس مرة واحدة، ولهذا قال أبو داود في (سننه) : أحاديث عثمان الصحاح تدل على أن مسح الرأس مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثًا
(3/81)
وقالوا فيها: مسح رأسه، ولم يذكروا عددا، كما ذكروا في غيره، ووصف عبد الله بن زيد وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: مسح براسه مرة واحدة، متفق عليه. وحديث علي، رضي الله تعالى عنه، وفيه: (مسح رأسه مرة واحدة) . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وكذا وصف عبد الله بن أبي أوفى وابن عباس وسلمة بن الأكوع والربيع، كلهم قالوا: ومسح برأسه مرة واحدة، ولم يصح في أحاديثهم شيء صريح في تكرار المسح. وقال البيهقي: قد روي من أوجه غريبة عن عثمان ذكر التكرار في مسح الرأس، إلا أنها مع خلاف الحفاظ الثقات ليست بحجة عند أهل المعرفة، وإن كان بعض أصحابنا يحتج بها. فان قلت: قد روى الدارقطني في (سننه) عن محمد بن محمود الواسطي عن شعيب بن أيوب عن أبي يحيى الجماني عن أبي حنيفة عن خالد بن علقمة عن عبد خير عن عليه رضي الله تعالى عنه: (أنه توضأ) الحديث، وفيه: (ومسح برأسه ثلاثًا) ، ثم قال: هكذا رواه أبو حنيفة عن علقمة بن خالد. وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات عن خالد بن علقمة، فقالوا فيه: ومسح رأسه مرة واحدة ومع خلافة إياهم قال: إن السنة في الوضوء مسح الرأس مرة واحدة. قلت: الزيادة عن الثقة مقبولة، ولا سيما من مثل أبي حنيفة، رضي الله عنه. وأما قوله: فقد خالف في حكم المسح، غير صحيح، لأن تكرار المسح مسنون عن أبي حنيفة أيضا، صرح بذلك صاحب (الهداية) : ولكن بماء واحد. وقول الكرماني والقياس على سائر الأعضاء، رد بأن المسح مبني على التخفيف، بخلاف الغسل، ولو شرع التكرار لصار صورة المغسول. وقد اتفق على كراهة غسل الرأس بدل المسح وإن كان مجزياً. وأجيب: بأن الخفة تقتضي عدم الاستيعاب، وهو مشروع بالاتفاق، فليكن العدد كذلك ورد بالحديث المشهور الذي رواه ابن خزيمة وصححه وغيره أيضا من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة الوضوء حيث قال: قال النبي، عليه الصلاة والسلام، بعد أن فرغ: (من زاد على هذا فقد أساء وظلم) . فإن في رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما روي من الأحاديث في تثليث المسح، إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس، جمعا بين هذه الأدلة القائل بهذا الرد هو بعضهم ممن تصدى لشرح البخاري، وفيه نظر، لأنه الثلاث نص فيه، والاستيعاب بالمسح لا يتوقف على العدد، والصواب أن يقال: الحديث الذي فيه المسح ثلاثًا لا يقاوم الأحاديث التي فيها المسح مرة واحدة، ولذلك قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم. وقال ابو عمر ابن عبد البر: كلهم يقول مسح الرأس مسحة واحدة. فإن قلت: هذا الذي ذكرته يرد على أبي حنيفه. قلت: لا يرد أصلا، فإنه رأى التثليث سنة لكونه رواه، ولكنه شرط أن يكون بماء واحد، وهذا خلاف ما قاله الشافعي، رحمه الله، ومع هذا المذهب: الإفراد لا التثليث، لما ذكرنا.

43 - (باب وضوء الرجل مع إمرأته وفضل وضوء المرأة)

أي: هذا باب في بيان حكم وضوء الرجل مع امرأته في إناء واحد، والوضوء في الموضعين بضم الواو في الأول وفي الثاني بالفتح، لأن المراد من الأول والفعل، ومن الثاني الماء الذي يتوضأ به. قوله: (وفضل) بالجر عطفا على قوله: (وضوء الرجل) وفي بعض النسخ: (باب وضوء الرجل مع المرأة) ، وهو أعم من أن تكون: امرأته، أو غيرها.
وتوضأ عمر بالحميم من بيت نصرانية

هذا الأثر المعلق ليس له مطابقة للترجمة أصلا، وهذا ظاهر كما ترى. وقال بعضهم: ومناسبته للترجمة من جهة الغالب أن أهل الرجل تبع له فيما يفعل، فأشار البخاري إلى الرد على من منع المرأة أن تتطهر بفضل الرجل، لأن الظاهر أن امرأة عمر، رضي الله عنه، كانت تغتسل بفضله أو معه، فناسب قوله: وضوء الرجل مع امرأته من إناء واحد. قلت: من له ذوق أو إدراك يقول هذا الكلام البعيد، فمراده من قوله: إن اهل الرجل تبع له فيما يفعل، في كل الأشياء أو في بضعهما؟ فإن كان الأول فلا نسلم ذلك، وإن كان الثاني فيجب التعيين. وقوله: لأن الظاهر. إلى آخره، أي: ظاهر دل على هذا. وهل هذا إلا حدس وتخمين؟ وقال الكرماني: فإن قلت: ما وجه مناسبته للترجمة؟ قلت: غرض البخاري في هذا الكتاب ليس منحصراً
(3/82)
في ذكر متون الأحاديث، بل يريد الإفادة أعم من ذلك، ولهذا يذكر آثار الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وفتاوى السلف وأقوال العلماء، ومعاني اللغات وغيرها، فقصد ههنا بيان التوضيء بالماء الذي مسته النار وتسخن بها بلا كراهة دفعا لما قال مجاهد. قلت: هذا أعجب من الأول وأغرب، وكيف يطابق هذا الكلام وقد وضع أبواباً مترجمة، ولا بد من رعاية تطابق بين تلك الأبواب وبين الآثار التي يذكرها فيها، وإلا يعد من التخابيط؟ وكونه يذكر فتاوى السلف وأقوال العلماء ومعاني اللغات لا يدل على ترك المناسبات والمطابقات، وهذه الأشياء أيضا إذا ذكرت بلا مناسبة يكون الترتيب مخبطاً، فلو ذكر شخص مسألة في الطلاق مثلا في كتاب الطهارة، أو مسألة من كتاب الطهارة في كتاب العتاق مثلا، نسب إليه التخبيط. ثم هذا الأثر الأول وصله سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد صحيح بلفظ: إن عمر، رضي الله عنه، كان يتوضأ بالحميم ثم يغتسل منه، ورواه ابي شيبة والدارقطني بلفظ: (كان يسخن له ماء في حميم ثم يغتسل منه) . قال الدارقطني: إسناده صحيح.
قوله: (بالحميم) ، بفتح الحاء المهملة: وهو الماء المسخن. وقال ابن بطال: قال الطبري: هو الماء السخين، فعيل بمعنى مفعول. ومنه سمي الحمام حماما لإسخانه من دخله، والمحموم محموماً لسخونة جسده. وقال ابن المنذر: أجمع أهل الحجاز وأهل العراق جميعًا على الوضوء بالماء السخن غير مجاهد فإنه كرهه. رواه عنه ليث بن أبي سليم. وذكر الرافعي في كتابه: إن الصحابة تطهروا بالماء المسخن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم هذا الخبر. وقال المحب الطبري: لم أره في غير الرافعي! قلت: قد وقع ذلك لبعض الصحابة فيما رواه الطبراني في (الكبير) والحسن بن سفيان في (مسنده) ؛ وأبو نعيم في (المعرفة) ، والمشهور من طريق الأسلع بن شريك، قال: كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب، وخشيت أن اغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلا من الأنصار يرحلها، ووضعت أحجاراً فاسخنت بها ماء فاغتسلت، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى: {يا ايها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى} (النساء: 43) إلى {غفورًا} (النساء: 43) وفي سنده: الهيثم بن زريق الراوي له عن أبيه عن الأسلع مجهولان، والعلاء بن الفضل راويه عن الهيثم وفيه ضعف، وقد قيل: إنه تفرد به. وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كما ذكره البخاري، ومنهم سلمة بن الأكوع أنه كان يسخن الماء يتوضأ به، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، ومنهم ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: (إنا نتوضأ بالحميم وقد أغلي على النار) ، رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن محمد بن بشر عن محمد بن عمرو: حدثنا سملة، قال: قال ابن عباس. ومنهم ابن عمر، رضي الله تعالى عنهم، رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع: أن ابن عمر كان يتوضأ بالحميم.
قوله: (ومن بيت نصرانية) وهو الأثر الثاني، وهو عطف على قوله: (بالحميم) أي: وتوضأ عمر من بيت نصرانية. ووقع في رواية كريمة بحذف الواو من قوله: (ومن بيت) ، وهذا غير صحيح لأنهما أثران مستقلان، فالأول ذكرناه، والثاني الذي علقه البخاري ووصله الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما عن سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه: (أن عمر توضأ من ماء نصرانية في جر نصرانية) ، وهذا لفظ الشافعي. وقال الحافظ أبو بكر الحازمي: رواه خلاد بن أسلم عن سفيان بسنده فقال: (ماء نصراني) ، بالتذكير. والمحفوظ ما رواه الشافعي: (نصرانية) ، بالتأنيث. وفي (الام) للشافعي: من جرة نصرانية، بالهاء في آخرها. وفي (المهذب) لأبي إسحاق: جر نصراني، وقال: صحيح. وذكر ابن فارس في (حلية العلماء) : هذا سلاخة عرقوب البعير يجعل وعاء للماء، فإن قلت: ما وجه تطابق هذا الاثر للترجمة؟ قلت: قال الكرماني: بناء على حذف واو العطف من قوله: (ومن بيت نصرانية) ، ومعتقداً أنه أثر واحد لما كان هذا الاخير الذي هو مناسب لترجمة الباب من فعل عمر، رضي الله عنه. ذكر الأمر الأول أيضا، وإن لم يكن مناسباً لها، لاشتراكهما في كونهما من فعله تكثيراً للفائدة واختصاراً في الكتاب. ويحتمل أن يكون هذا قصة واحدة، أي: توضأ من بيت النصرانية بالماء الحميم، ويكون المقصود ذكر استعمال سؤر المرأة النصرانية، وذكر الحميم إنما هو لبيان الواقع، فتكون مناسبته للترجمة ظاهرة قلت: هذا منه لعدم إطلاعه في كتب القوم، فظن أنه أثر واحد، وقد عرفت أنهما أثران مستقلان. ثم ادعى أن الأمر الأخير مناسب للترجمة، فهيهات أن يكون مناسباً، لأن الباب في وضوء الرجل مع امرأته، وفضل وضوء المرأة؟ فأي واحد من هذين مناسب لهذا؟ وأي واحد من هذين يدل على ذلك؟ أما توضؤ عمر بالحميم فلا يدل على شيء من ذلك ظاهرا، وأما توضؤ عمر
(3/83)
من بيت نصرانية فهل يدل على أن وضوءه كان من فضل هذه النصرانية؟ فلا يدل ولا يستلزم ذلك. فمن ادعى ذلك فعليه البيان بالبرهان.
وقال بعضهم الثاني مناسب لقوله: وفضل وضوء المرأة، لأن عمر، رضي الله عنه، توضأ بمائها، وفيه دليل على جواز التطهر بفضل وضوء المراة المسلمة لأنها لا تكون أسوأ حالا من النصرانية. قلت: الترجمة فضل وضوء المرأة، والنصرانية هل لها فضل وضوء حتى يكون التطابق بينه وبين الترجمة؟ فقوله: من بيت نصرانية لا يدل على أن الماء كان من فضل استعمال النصرانية، ولأن الماء كان لها. فإن قلت: في رواية الشافعي: من ماء نصرانية في جر نصرانية، قلت: نعم، ولكن لا يدل على أنه كان من فضل استعمالها، والذي يدل عليه هذا الأثر جواز استعمال مياههم، ولكن يكره استعمال أوانيهم وثيابهم. سواء فيه أهل الكتاب وغيرهم. وقال الشافعية: وأوانيهم المستعملة في الماء أخف كراهة، فإن تيقن طهارة أوانيهم أو ثيابهم فلا كراهة إذا في استعمالها. قالوا: ولا نعلم فيها خلافًا، وإذا تطهر من إناء كافر ولم يتيقن طهارته ولا نجاسته، فإن كان من قوم لا يتدينون باستعمالها صحت طهارته قطعا، وإن كان من قوم يتدينون باستعمالها فوجهان: أصحهما: الصحة، والثاني: المنع. وممن كان لا يرى بأسا به: الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهما. وقال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا كرهه إلا أحمد وإسحاق. قلت: وتبعهما أهل الظاهر، واختلف قول مالك في هذا، ففي (المدونة) : لا يتوضأ بسؤر النصراني ولا بماء أدخل يده فيه. وفي (العتبية) أجازه مرة وكرهه أخرى. وقال الشافعي في (الام) : لا بأس بالوضوء من ماء المشرك وبفضل وضوئه ما لم يعلم فيه نجاسة. وقال ابن المنذر: انفرد إبراهيم النخعي بكراهة فضل المرأة إن كانت جنبا.

193 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر انه قال كان الرجال والنساء
(3/84)
يتوضؤن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً.
مطابقة الحديث للترجمة غير ظاهرة لأنه يدل على الترجمة صريحًا، لأن المذكور فيها شيئان، والحديث ليس فيه إلا شيء واحد. وقال الكرماني: يدل على الأول صريحًا، وعلى الثاني التزاماً. فإن قلت: هذا لا يدل على أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون من إناء واحد. قلت: قال الدارقطني: وروى هذا الحديث محمد بن النعمان عن مالك بلفظ: (من الميضأة) . وفي رواية القعنبي وابن وهب عنه: (كانوا يتوضؤون زمن النبي، عليه الصلاة والسلام، في الإناء الواحد) . وأخرجه أبو داود أيضا من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: (كنا نتوضأ نحن والنساء من إناء واحد على عهد رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ندلي فيه أيدينا) ، ولا شك أن الأحاديث يفسر بعضها بعضًا.
بيان رجاله وهم أربعة كلهم تقدموا، وعبد الله هو التنيسي.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار بصيغة الجمع والعنعنة والقول. ومنها: أن رواته ما بين تنيسي ومدني. ومنها: أن هذا السند من سلسلة الذهب، وعن البخاري: أصح أسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.
بيان المعاني قال بعضهم ظاهر: (كان الرجال) التعميم، لكن: اللام، للجنس لا للاستغراق. قلت: أخذ هذا من كلام الكرماني حيث قال: فإن قلت: يقرر في علم الأصول أن الجمع المحلى بالألف واللام للاستغراق، فما حكمه ههنا؟ قلت: قالوا بعمومه إلا إذا دل الدليل على الخصوص، وههنا القرينة العادية مخصصة بالبغض. قلت: الجمع مثل الرجال والنساء وما في معناه من العام المتناول للمجموع إذا عرف باللام يكون مجازًا عن الجنس، مثلا إذا قلت: فلان يركب الخيل ويلبس الثياب البيض، يكون للجنس للقطع بأن ليس القصد إلى عهد أو استغراق، فلو حلف لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد أو لا يكلم الناس يحنث بالواحد، إلا أن ينوي العموم فلا يحنث قط، لأنه نوى حقيقة كلامه، ثم هذا الجنس بمنزلة النكرة يخص في الإثبات، كما إذا حلف أن يركب الخيل يحصل البر بركوب واحد، ثم قول ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: (كان الرجال والنساء) إثبات فيقع على الأقل بقرينة العادة، وإن كان يحتمل الكل. فإن قلت: لا يصلح التمسك به لأن قوله: (جميعًا) ينافي وقوعه على الأقل. قلت: معناه مجتمعين، فالاجتماع راجع إلى حالة كونهم يتوضؤون لا إلى كون الرجال والنساء مطلقًا. فافهم. فإنه موضع دقيق. ثم قال الكرماني. فان قلت: لا يصح التمسك به، لأن فعل البغض ليس بحجة. قلت: التمسك ليس بالإجماع بل بتقرير الرسول، عليه الصلاة والسلام. أقول: حاصل السؤال أنه لا يصح التمسك بما روي عن ابن عمر من قوله: (كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن النبي، عليه الصلاة والسلام) لأنك قد قلت: إن المراد البعض لقيام القرينة عليه بذلك، واجتماع الكل متعذر، فلا يكون حجة لعدم الإجماع عليه، وحاصل الجواب أن التمسك ليس بطريق الاجتماع، بل بأن الرسول، عليه الصلاة والسلام، قررهم على ذلك ولم ينكر عليهم، فيكون ذلك حجة للجواز. وقد ذكر أهل الأصول أن قول الصحابي: كان الناس يفعلون، ونحو ذلك، حجة في العمل. لا سيما إذا قيد الصحابي ذلك بزمن النبي، عليه الصلاة والسلام، ثم قال الكرماني: لم لا يكون من باب الإجماع السكوتي، وهو حجة عند الأكثر؟ قلت: لا يتصور الإجماع إلا بعد وفاة رسول الله، عليه الصلاة والسلام.
بيان استنباط الاحكام الأول: فيه أن الصحابي إذا أسند الفعل إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون حكمه الرفع عند الجمهور، خلافًا لقوم. وقال بعضهمم: يستفاد منه أن البخاري يرى ذلك. قلت: لا نسلم ذلك، لأن البخاري وضع هذا المروي عن ابن عمر لبيان جواز وضوء الرجال والنساء جميعًا من إناء واحد، ومع هذا لا يطابق هذا ترجمة الباب بحسب الظاهر كما قررناه.
الثاني فيه دليل على جواز توضيء الرجل والمرأة من إناء واحد. وأما فضل المرأة فيجوز عند الشافعي الوضوء به أيضا للرجل، سواء خلت به أو لا. قال البغوي، وغيره: فلا كراهة فيه للأحاديث الصحيحة فيه، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء. وقال أحمد وداود: لا يجوز إذا خلت به، وروي هذا عن عبد الله بن سرجس والحسن البصري، وروي عن أحمد كمذهبنا، وعن ابن المسيب والحسن كراهة فضلها مطلقًا. وحكى ابو عمر فيها خمسة مذاهب: أحدها: أنه لا بأس أن يغتسل الرجل بفضلها ما لم تكن جنبا أو حائضًا. والثاني: يكره أن يتوضأ بفضلها وعكسه. والثالث: كراهة فضلها له والرخصة في عكسه. والرابع: لا بأس بشروعهما معًا، ولا ضير في فضلها، وهو قول احمد. والخامس: لا بأس بفضل كل منهما شرعا جميعًا أو خلا كل واحد منهم به، وعليه فقهاء الأمصار.
اما اغتسال الرجال والنساء من إناء واحد، فقد نقل الطحاوي والقرطبي والنووي الاتفاق على جواز ذلك، وقال بعضهم: وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان ينهي عنه. وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم. قلت: في نظره نظر، لأنهم قالوا بالاتفاق دون الإجماع، فهذا القائل لم يعرف الفرق بين الاتفاق والاجماع، على أنه روى جواز ذلك عن تسعة من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وهم: علي بن أبي طالب وابن عباس وجابر وأنس وأبو هريرة وعائشة وأم سلمة وأم هانىء وميمونة. فحديث علي، رضي الله عنه، عن أحمد قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله يغتسلون من إناء واحد) ، وحديث ابن عباس عند الطبراني في (الكبير) من حديث عكرمة عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة اغتسلا من إناء واحد من جنابة، وتوضآ جميعًا للصلاة) ؛ وحديث جابر، رضي الله عنه، عند ابن أبي شيبة في (مصنفه) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه يغتسلون من إناء واحد) ؛ وحديث أنس عند البخاري عن أبي الوليد عن شعبة عن عبد الله بن جبير عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل هو والمرأة من نسائه من الإناء الواحد) . وروى الطحاوي نحوه عن أبي بكرة القاضي؛ وحديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عند البزار في (مسنده) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله أو بعض أهله. يغتسلون من إناء واحد) ؛ وحديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، عند الطحاوي والبيهقي، قال: (كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فيبدأ قبلي) ؛ وحديث أم سلمة، رضي الله تعالى عنها عند ابن ماجه والطحاوي، قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله، عليه الصلاة والسلام، من إناء واحد) ، وأخرجه البخاري بأتم منه، وحديث أم هانىء، رضي الله عنها، عند النسائي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين) ؛ وحديث ميمونة عند الترمذي بإسناده إلى ابن عباس، قال: حدثتني ميمونة، قالت: (كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة) . وقال: هذا حديث حسن صحيح، فهذه الأحاديث كلها حجة على من يكره أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، أو تتوضأ المرأة بفضل الرجل، وبقي الكلام في ابتداء أحدهما قبل الآخر. وجاء حديث بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتسلت من جنابة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل. فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنبا فقال صلى الله عليه وسلم: إن الماء لا يجنب) . وجاء أيضا حديث أم حبيبة الجهنية عند ابن ماجه والطحاوي قالت: (ربما اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد) ، وهذا في حق الوضوء. قال الطحاوي: هذا يدل على أن أحدهما كان يأخذ من الماء بعد صاحبه.
فإن قلت: روي عن عبد الله بن سرجس، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل
(3/85)
المراة والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعًا) ، وأخرجه الطحاوي والدارقطني، وروي أيضا من حديث الحكم الغفاري، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة أو بسؤر المرأة، لا يدري أبو حاجب أيهما قال) . وأبو حاجب هو الذي روى عن الحكم، واسم أبي حاجب: سوادة بن عاصم العنزي. وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والطحاوي، وروي أيضا عن حميد بن عبد الرحمن، قال: (كنت لقيت من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، كما صحبه أبو هريرة أربع سنين، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فذكر مثله، أخرجه الطحاوي والبيهقي في المعرفة. قلت: نقل عن الإمام أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل المرأة، وفي جواز ذلك مضطربة، قال: لكن صح من الصحابة المنع فيما إذا دخلت به، ولكن يعارض هذا ما روي بصحة الجواز عن جماعة من الصحابة الذين ذكرناهم.
وأشهر الأحاديث عند المانعين: حديث عبد الله ابن سرجس، وحديث حكم الغفاري. وأما حديث عبد الله بن سرجس، فإنه روي مرفوعا وموقوفاً. وقال البيهقي: الموقوف أولى بالصواب، وقد قال البخاري: أخطأ من رفعه. قلت: الحكم للرافع، لأنه زاد: والراوي قد يفتي بالشيء ثم يرويه مرة أخرى، ويجعل الموقوف فتوى فلا يعارض المرفوع، وصححه ابن حزم مرفوعا من حديث عبد العزيز بن المختار الذي في مسنده، والشيخان أخرجا له، ووثقه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة، فلا يضره وقف من وقفه. وتوقف ابن القطان في تصحيحه لأنه لم يره إلا في كتاب الدارقطني، وشيخ الدارقطني فيه لا يعرف حاله. قلت: شيخه فيه عبد الله بن محمد بن سعد المقبري، ولو رآه عند ابن ماجه أو عند الطحاوي لما توقف، لان ابن ماجه رواه عن محمد بن يحيى عن المعلي بن أسد، والطحاوي رواه محمد بن خزيمة، وهما مشهوران. وأما حديث الحكم الغفاري، فقالت جماعة من أهل الحديث، إن هذا الحديث لا يصح، وأشار الخطابي أيضا إلى عدم صحته، وقال ابن منده: لا يثبت من جهة السند. قلت: لما أخرجه الترمذي قال: هذا حديث حسن، ورجحه ابن ماجه على حديث عبد الله بن سرجس، وصححه ابن حبان وأبو محمد الفارسي، والقول قول من صححه لا من ضعفه، لأنه مسند ظاهره السلامة من تضعف وانقطاع، وقال ابن قدامة: الحديث رواه أحمد واحتج به، وتضعيف البخاري له بعد ذلك لا يقبل لاحتمال أن يكون وقع له من غير طريق صحيح، ويرد بهذا أيضا قول النووي: اتفق الحفاظ على تضعيفه.
الثالث من الأحكام أن ظاهر الحديث يدل على جواز تناول الرجال والنساء الماء في حالة واحدة، وحكى ابن التين عن قوم: أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون جميعًا من إناء واحد، هؤلاء على حدة وهؤلاء على حدة. قلت: الزيادة في الحديث وهو قوله: (من إناء واحد) يرد عليهم، وكأنهم استبعدوا إجتماع الرجال والنساء الأجنبيات، وأجاب ابن التين عن ذلك بما حكاه عن سحنون أن معناه كان الرجال يتوضؤون ويذهبون، ثم تأتي النساء فيتوضأن. قلت: هذا خلاف الذي يدل عليه جميعًا، ومع هذا جاء صريحًا وحدة الإناء في (صحيح ابن خزيمة) في هذا الحديث من طريق معتمر عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: (أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتطهرون، والنساء معهم، من إناء واحد كلهم يتطهرون منه) . قيل: ولنا أن نقول: ما كان مانع من ذلك قبل نزول آية الحجاب، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم، وفيه نظر، والله تعالى أعلم.

44 - (باب صب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه على المغمى عليه)

أي: هذا في بيان صب النبي، عليه الصلاة والسلام، وضوء، بفتح الواو: وهو الماء الذي توضأ به على من أغمي عليه، يقال: أغمي عليه، بضم الهمزة، فهو مغمى عليه، وغمي بضم الغين وتخفيف الميم فهو مغمى عليه، بصيغة المفعول، لأن أصله مغموي على وزن: مفعول، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت ياء، ثم أدغمت الياء في الياء، فصار: مغمى، بضم الميم الثانية وتشديد الياء، ثم أبدلت من ضمة الميم كسرة لأجل الياء، فصار مغمى، والإغماء والغشي بمعنى واحد. قاله الكرماني: وليس كذلك، فإن الغشي مرض يحصل من طول التعب، وهو أخف من الإغماء، والفرق بينه وبين الجنون والنوم أن العقل يكون في الإغماء مغلوبًا، وفي الجنون يكون مسلوباً، وفي النوم يكون مستورا.
والمناسبة بين البابين من حيث إن في كل واحد منهما نوعا من الوضوء.
(3/86)
194 - حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن محمد بن المنكدر قال سميت جابراً يقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وانا مريض لا اعقل فتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت فقلت يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني كلالة فنزلت آية الفرائض..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم أربعة. الأول: أبو الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك، تقدم في كتاب الايمان. الثاني: شعبة بن الحجاج، وقد تكرر ذكره. الثالث: محمد بن المنكدر التيمي القرشي التابعي المشهور، الجامع بين العلم والزهد، وكان المنكدر خال عائشة، رضي الله تعالى عنها، فشكى إليها الحاجة فقالت له: أول شيء يأتيني أبعث به إليك، فجاءها عشرة آلاف درهم، فبعثت بها إليه فاشترى منها جارية فولدت له محمدًا إمامًا متألهاً بكاء، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. الرابع: جابر بن عبد الله الصحابي الكبير، تقدم في كتاب الوحي.
بيان لطائف إسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والسماع. ومنها: أن رواته ما بين بصري وكوفي ومدني ومنها: أنهم كلهم أئمة أجلاء.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا عن أبي الوليد، وفي الطب عن محمد بن بشار عن غندر، وفي الفرائض عن عبد الله بن عثمان عن عبد الله بن المبارك. وأخرجه مسلم في الفرائض عن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد، عن إسحاق بن إبراهيم عن النضر بن شميل وأبي عامر العقدي، وعن محمد بن المثنى عن وهب بن جرير. وأخرجه النسائي فيه، وفي الطهارة، وفي التفسير، وفي الطب عن محمد بن الأعلى عن خالد بن الحارث، ثمانيتهم عنه به.
بيان اللغات والمعنى والإعراب قوله: (يقول) جملة وقعت حالا، وكذا قوله: (يعودني) . وكذا قوله: (وأنا مريض لا أعقل) اي: لا أفهم، وحذف مفعوله إما للتعميم أي: لا أعقل شيئا، أو لجعله كالفعل اللازم. قوله: (من وضوئه) ، بفتح الواو: معناه من الماء الذي يتوضأ، أو مما بقي منه. وأخرج في الاعتصام عن علي بن عبد الله: ثم صب وضوءه علي، ولأبي داود: (فتوضأ وصبه علي) . قوله: (لمن الميراث) ؟ الألف واللام فيه عوض عن ياء المتكلم، أي: لمن ميراثي، ويؤيده ما أخرجه في الاعتصام أنه قال: (كيف اصنع في مالى) ؛ وفي رواية: (ما تأمرني أن أصنع في مالي) ؟ وفي أخرى: (كيف أقضي في مالي) ، وفي أخرى: (إنما ترثني سبع أخوات) ، وفي أخرى فنزلت: {يوصيكم الله في أولادكم} (النساء: 11) . قوله: (كلالة) فيها أقوال أصحها: ما عدا الوالد والولد، وفيه حديث صحيح من طريق البراء بن عازب. وقيل: ما عدا الولد خاصة، وقيل: الأخوة للام، وقيل: بنو العم ومن أشبهم، وقيل: العصبات كلهم وإن بعدوا، ثم قيل: للورثة، وقيل: للميت، وقيل: لهما، وقيل: للمال الموروث. وقال الجوهري: الكل: الذي لا ولد له ولا والد، يقال: كل الرجل يكل كلالة. وقال الزمخشري: تطلق الكلالة على ثلاثة: على من لم يخلف ولدا ولا والداً، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد. قوله: (فنزلت آية الفرائض) وهي قوله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} (النساء: 176)
إلى آخر السورة، وقيل: هي آية المواريث مطلقًا. والفرائض: جمع فريضة، والمراد ههنا: الحصص المقدرة في كتاب الله للورثة.
بيان استنباط الأحكام الأول: قال ابن بطال فيه دليل على طهورية الماء الذي يتوضأ به، لأنه لو لم يكن طاهرا لما صبه عليه. قلت: ليس فيه دليل، لأنه يحتمل أنه صب من الباقي في الإناء. الثاني: فيه رقية الصالحين للماء ومباشرتهم إياه، وذلك مما يرجى بركته. الثالث: فيه دليل على أن بركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم تزيل كل علة. الرابع: فيه أن ما يقرأ على الماء مما ينفع. الخامس: فيه فضيلة عيادة الضعفاء. السادس: فيه فضيلة عيادة الأكابر الأصاغر.

45 - (باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة)

أي: هذا باب في بيان حكم الغسل والوضوء في المخضب، بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الضاد المعجمة وفي آخره باء موحدة. قال ابن سيده: المخضب شبه الإجانة، وقال صاحب (المنتهى) : هو المركن. وقال ابو هلال العسكري في كتاب (التلخيص) : إناء يغسل فيه. وفي (مجمع الغرائب) هو إجانة تغسل فيه الثياب ويقال له المركن. قوله: (والقدح) واحد الأقداح التي للشرب
(3/87)
وقال ابن الأثير: القدح الذي يؤكل فيه، وأكثر ما يكون من الخشب مع ضيف فيه. قوله: (والخشب) ، بفتح الخاء المعجمة: جمع خشبة، وكذلك: الخشب، بضمتين وبسكون الشين أيضا، ومراده: الإناء الخشب، وكذلك الإناء الحجارة، وذلك لأن الأواني تكون من الخشب والحجر وسائر جواهر الأرض كالحديد والصفر والنحاس والذهب والفضة. فقوله: (والخشب) يتناول سائر الأخشاب. وقوله: (والحجارة) يتناول سائر الأحجار من التي لها قيمة، والتي لا قيمة لها، والحجارة حمع حجر وهو جمع نادر: كالجمالة جمع جمل، وكذلك: حجار، بدون الهاء، وهما جمع كثرة، وجمع القلة أحجار. فإن قلت: ما وجه عطف: الخشب والحجارة، على: الخضب والقدح؟ قلت: من باب عطف التفسير، لأن المخضب والقدح قد يكونان من الخشب، وقد يكونان من الحجارة، وقد صرح في الحديث المذكور في هذا الباب بمخضب من حجارة كما يأتي عن قريب، والدليل على صحة ذلك ما قد وقع في بعض النسخ الصحيحة: في المخضب والقدح الخشب والحجارة، بدون حرف العطف. وقال بعضهم: وعطف: الخشب والحجارة، على: المخضب والقدح، ليس من عطف العام على الخاص فقط، بل بين هذين وهذين عموم وخصوص من وجه. قلت: قصارى فهم هذا القائل أنه ليس من عطف العام على الخاص، ثم أضرب عنه إلى بيان العموم والخصوص من وجه بين هذه الأشياء، ولم يبين وجه العطف ما هو وقد وقع في بعض النسخ بعد قوله: والحجارة. (والتور) ، بفتح التاء المثناة من فوق، قال الجوهري: هو إناء يشرب فيه، زاد المطرزي: صغير، وفي (المغيث) لأبي موسى: هو إناء يشبه إجانة من صفر، أو حجارة يتوضأ فيه ويؤكل. وقال ابن قر قول: هو مثل قدح من الحجارة، وقد مر الكلام فيه عن قريب.
والمناسبة بين هذا الباب والأبواب التي قبله ظاهرة، لأن الكل فيما يتعلق بالوضوء.

195 - حدثنا عبد الله منير سمع عبد الله بن بكر حدثنا حميد عن أنس قال حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار إلى أهله وبقي قوم فاتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة فيه ماء فصغر المخضب ان يبسط فيه كفه فتوضأ القوم كلهم قلنا كم كنتم قال ثمانين وزيادةً..
مطابق الحديث للترجمة ظاهرة في قوله: (بمخضب من حجارة) إلى آخره.
بيان رجاله وهم أربعة. الأول: عبد الله بن منير، بضم الميم وكسر النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره رواء، ووقع في رواية الأصيلي: ابن المنير، بالألف واللام. قلت: يجوز كلاهما كما عرف في موضعه، وقد يلتبس هذا: بابن المنير، الذي له كلام في تراجم البخاري وفي غيرها، وهو بضم الميم وفتح النون وتشديد الياء آخر الحروف، وهو متأخر عن ذلك بزهاء أربعمائة سنة، وهو: أبو العباس أحمد بن ابي المعالي محمد كان قاضي اسكندرية وخطيبها، وعبد الله بن منير الحافظ الزاهد السهمي المروزي، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين. الثاني: عبد الله بن بكر أبو وهب البصري، نزل بغداد وتوفي في خلافة المأمون سنة ثمان ومائتين. الثالث: حميد، بالتصغير، ابن ابي حميد الطويل، مات وهو قائم يصلي، وقد تقدم في باب خوف المؤمن أن يحبط عمله. الرابع: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والسماع والعنعنة. ومنها: أن رواته ما بين مروزي وبصري.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في علامات النبوة عن يزيد بن هارون، وأخرجه مسلم ولفظه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالزوراء، والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد، دعا بقدح فيه ماء فوضع كفه فيه فجعل ينبع من بين أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه. قال: قلت: كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زهاء الثلاثمائة) . وأخرجه الإسماعيلي وغيره.
بيان المعاني والإعراب قوله: (حضرت الصلاة) هي صلاة العصر. قوله: (من كان) في محل الرفع، لأنه فاعل: قام. قوله: (إلى أهله) يتعلق بقوله: (فقام) ، وذلك القيام كان لقصد تحصيل الماء والتوضىء به. قوله: (وبقي قوم) أي: عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غابوا عن مجلسه ولم يكونوا على الوضوء أيضا، وإنما توضؤوا من المخضب الذي اتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (فأتي) بضم الهمزة على صيغة المجهول. قوله: (من حجارة) كلمة: من. للبيان. قوله: (فصغر المخضب) أي: لم يسع بسط
(3/88)
الكف فيه لصغره، وقد علم من ذلك أن المخضب يكون من حجارة وغيره، ويكون صغيرا وكبيراً. قوله: (ان يبسط) اي: لأن يبسط، وكلمة: أن، مصدرية أي: لبسط الكف فيه. قوله: (فتوضأ القوم) أي: القوم الذين بقوا عند النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك المخضب الصغير. قوله: (فقلنا) وفي بعض النسخ وفي بعضها: قلت. وهو من كلام حميد الطويل الراوي عن أنس، رضي الله تعالى عنه. قوله: (كم كنتم) ؟ مميز: كم، محذوف تقديره: كم نفسا كنتم؟ وكذلك مميز ثمانين منصوب لأنه خبر للكون المقدر تقديره: كنا ثمانين نفسا وزيادة على الثمانين.
بيان استنباط الأحكام: الأول: فيه دلالة على معجزة كبيرة للنبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: فيه التهيء للوضوء عند حضور الصلاة. الثالث: فيه أن الأواني كلها، سواء كانت من الخشب أو من جواهر الأرض طاهرة، فلا كراهة في استعمالها، وذكر أبو عبيد في (كتاب الطهور) عن ابن سيرين: كانت الخلفاء يتوضأون في الطشت، وعن الحسن رأيت عثمان يصب عليه من إبريق يعنى نحاسا. قال أبو عبيد: وعلى هذا أمر الناس في الرخصة والتوسعة في الوضوء في آنية النحاس وأشباهه من الجواهر إلا ما روي عن ابن عمر من الكراهة. قلت: ذكر ابن أبي شيبة عن يحيى بن سليم عن ابن جريج قال: قال معاوية: كرهت أن أتوضأ في النحاس، وفي كتاب (الأشراف) : رخص كثير من أهل العلم في ذلك، وبه قال الثوري وابن المبارك والشافعي وأبو ثور، وما علمت أني رأيت أحدا كره الوضوء في آنية الصفر والنحاس والرصاص وشبهه، والأشياء على الإباحة وليس يحرم ما هو موقوف على ابن عمر. وقال ابن بطال: وقد وجدت عن ابن عمر أنه توضأ فيه، وهذه الرواية أشبه للصواب، وكان الشافعي وإسحاق وأبو ثور يكرهون الوضوء في آنية الذهب والفضة، وبه نقول. ولو توضأ له متوضىء أجزأه وقد أساء، وعن أبي حنيفة، رضي الله عنه، كان يكره الأكل والشرب في آنية الفضة، وكان لا يرى بأسا بالمفضض، وكان لا يرى بالوضوء منه بأسا. قلت: أبو حنيفة كان يكره الأكل في آنية الذهب أيضا، والمراد من الكراهة: كراهة التحريم، وفي (سنن) أبي داود، بسند ضعيف عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (كنت أغتسل أنا ورسول الله، عليه الصلاة والسلام، في تور من شبه) . وفي (مسند) أحمد بسند صحيح عن زينب بنت جحش: (أن النبي، عليه الصلاة والسلام، كان يتوضأ من مخضب من صفر) . الصفر، بضم الصاد: هو النحاس الجيد. قال أبو عبيدة: كسر الصاد فيه لغة ولم يجزه غيره، ويقال له: الشبه، أيضا بفتحتين لأنه يشبه الذهب.

196 - حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه.
(انظر الحديث: 188 وطرفه) .
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم خمسة: الأول: محمد بن العلاء، بالمهملة وبالمد. الثاني: أبو أسامة حماد ابن اسامة. الثالث: بريد، بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف: بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى، واسم أبي الحارث، ويقال: عامر، ويقال: اسمه كنيته، وأبو موسى اسمه عبد الله بن قيس الأشعري، وهذا الإسناد بعينه تقدم في باب فضل من علم وعلم. ولا تفاوت بينهما إلا في لفظ حماد، فإنه ذكر هنا بالكنية. وثمة بالاسم.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة. ومنها: أن رواته كلهم كوفيون. ومنها: أن فيه ثلاثة مكيون.
بيان المعنى والإعراب قوله: (مج فيه) أي: صب فيه، ومنه: مج لعابه إذا قذفه. قوله: (فيه ماء) ، جملة إسمية في موضع الجر لأنها صفة لقدح. قوله: (فغسل يديه) : الفاء، للعطف على: دعا بالمهملة، ومعنى دعا طلب. قوله: (ووجهه) بالنصب عطف على قوله: (يديه) . وقوله: (ومج) عطف على (غسل) .
بيان استنباط الأحكام الأول: قال الكرماني، هذا الحديث يدل على الغسل في القدح، بفتح الغين، لا على الغسل، بضم الغين، ولا على الوضوء. الثاني: قال الداودي: فيه جواز الوضوء بماء قد مج فيهه. الثالث: فيه دلالة على جواز الشرب منه، وكذا الإفراغ منه على الوجوه والنحور، لأن تمام الحديث أخرجه البخاري معلقا عن أبي موسى في باب استعمال فضل وضوء الناس، وقد ذكرنا بقية الكلام هناك.
(3/89)
197 - حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة قال حدثنا عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ فغسل وجهه ثلاثاً ويديه مرتين مرتين ومسح برأسه فاقبل به وأدبر وغسل رجليه..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم خمسة: الأول: أحمد بن عبد الله بن يونس، نسب إلى جده، تقدم في باب من قال: الإيمان هو العمل الصالح. الثاني: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، بفتح اللام: الماجشون، بفتح الجيم، مر في باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار. الثالث: عمرو بن يحيى. الرابع: أبوه يحيى بن عمارة. الخامس: عبد الله بن زيد، وقد تقدموا في باب غسل الرجلين.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة. ومنها: أن رواته ما بين كوفي ومدني. ومنها: أن فيه اثنين وهما أحمد بن يونس وعبد العزيز، وكلاهما منسوبان إلى جدهما، واسم أب كل منهما: عبد الله، وكنية كل منهما: ابو عبد الله، وكل منهما: ثقة حافظ فقيه.
بيان المعنى والحكم قوله: (أتانا رسول الله، عليه الصلاة والسلام) رواية الكشميهني وابي الوقت، ورواية غيرهما: (أتى رسول الله عليه الصلاة والسلام) . قوله: (في تور) صفة لقوله: (ماء) ، ومحله النصب، وكلمة: من في: (من صفر) للبيان، وتفسير: التور، قد مر عن قريب قوله: (فغسل وجهه) تفسير لقوله: (فتوضأ) وفيه حذف تقديره: فمضمض واستنشق، كما دلت عليه الروايات الأخر، والمخرج متحد. قوله: (في تور من صفر) زيادة عبد العزيز. قال الكرماني: فان قلت: لم يذكر في الترجمة لفظ: التور، وكان المناسب أن يذكر هذا الحديث في الباب الذي بعده. قلت: لعل إيراده في هذا الباب من جهة أن ذلك لتور كان على شكل القدح، أو من جملة أنه حجر، لأن الصفر من أنواع الأحجار، أقول: رأيت في نسخة صحيحة بخط المصنف: والتور، بعد قوله: (والخشب والحجارة) .

198 - حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عائشة قالت لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي فاذن له فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بين رجلين تخط رجلاه في الارض بين عباس ورجل آخر قال عبيد الله فاخبرت عبد الله ابن عباس فقال أتدري من الرجل الآخر قلت لا قال هو علي وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ما دخل بيته واشتد وجعه هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل او كيتهن لعلي أعهد إلى الناس وأجلس في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن ثم خرج إلى الناس..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم خمسة: الأول: أبو اليمان، بفتح الياء آخر الحروف: واسمه الحكم ابن نافع. الثاني: شعيب بن أبي حمزة دينار، وأبو بشر الحمصي. الثالث: محمد بن مسلم الزهري. الرابع: عبيد الله بن عبد الله، بتصغير الابن وتكبير الأب، والكل تقدموا في كتاب الوحي. الخامس: عائشة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار، وبصيغة الإفراد والقول. ومنها: أن رواته ما بن حمصي ومدني. ومنها: أن فيه راويين جليلين: الزهري وعبيد الله.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرج البخاري هذا الحديث في سبع مواضع هنا، وفي الصلاة في موضعين، وفي حد المريض يشهد الجماعة، وإنما جعل الإمام ليؤتم به مختصرا، وفي الهبة، والخمس، وأجر المغازي، وفي باب مرضه، عليه الصلاة والسلام، وفي الطب. وأخرجه مسلم
(3/90)
في الصلاة عن عبد بن حميد ومحمد بن رافع. وأخرجه النسائي في عشرة النساء، وفي الوفاة عن محمد بن منصور، وفي الوفاة أيضا عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به، ولم يذكر ابن عباس. أخرجه الترمذي في الجنائز عن ابن إسماعيل عن سفيان به.
بيان اللغات والإعراب قوله: (لما ثقل) ، بضم القاف، يقال: ثقل الشيء ثقلاً، مثال صغر صغراً، فهو ثقيل. وقال ابو نصر: أصبح فلان ثاقلاً إذا أثقله الملاض، والثقل ضد الخفة، والمعنى ههنا: اشتد مرضه، ويفسره قولها بعده: واشتد به وجعه، وأما: الثقل، بفتح الثاء وسكون القاف، فهو مصدر: ثقل، بفتح القاف: الشيء في الوزن يثقله ثقلاً، من باب: نصر ينصر، إذا وزنه. وكذلك: ثقلت الشاة إذا رفعتها للنظر ما ثقلها من خفتها. وقال بعضهم: وفي القاموس: ثقل كفرح يعنى بكسر القاف فهو ثاقل وثقيل: اشتد مرضه. قلت: هذا يحتاج إلى نسبته إلى أحد من أئمة اللغة المعتمد عليهم. قوله: (في أن يمرض) على صيغة المجهول، من: التمريض، يقال: مرضه تمريضاً إذا أقمت عليه في مرضه، يعني: خدمته فيه. ويحتمل أن يكون التشديد فيه للسلب والإزالة كما تقول قردت البعير إذا أزلت قراده، والمعني هنا: أزلت مرضه بالخدمة. قوله: (فأذن) بتشديد النون لأنه جماعة النساء، أي: أذنت زوجات النبي، عليه الصلاة والسلام، أن يمرض في بيتها. قوله: (تخط رجلاه) بضم الخاء المعجمة، و: رجلاه، فاعله أي: يؤثر برجله على الأرض كأنها تخط خطا، وفي بعض النسخ: تخط، بصيغة المجهول. قوله: (قال عبيد الله) هو الراوي له عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، وهو بالإسناد المذكور بغير واو العطف. قوله: (وكانت) معطوف أيضا بالإسناد المذكور، وعباس هو ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (فأخبرت) أي: بقول عائشة، رضي الله عنها. قوله: (بعد ما دخل بيته) وفي بعض النسخ: (بيتها) ، وأضيف إليها مجازًا: بملابسة السكنى فيه. قوله: (هريقوا علي) كذا في رواية الأكثرين بدون الهمزة في أوله، وفي رواية الأصيلي: (أهريقوا) ، بزيادة الهمزة. وفي بعض النسخ: (اريقوا) . إعلم أن في هذه المادة ثلاث لغات. الأولى: هراق الماء يهرقه هراقة أي: صب، وأصله: أراق يريق إراقة، من باب الإفعال، وأصل: أراق يريق على وزن أفعل، نقلت حركة الياء إلى ما قبلها، ثم قلبت ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها بعد النقل، فصار أراق، وأصل: يريق يأريق على وزن: يؤفعل، مثل: يكرم، أصله: يؤكرم، حذفت الهمزة منه اتباعا لحذفها في المتكلم لاجتماع الهمزتين فيه، وهو ثقيل. اللغة الثانية: أهرق الماء يهرقه إهراقاً على وزن: أفعل إفعالاً. قال سيبويه: قد أبدلوا من الهمزة الهاء ثم لزمت فصارت كأنها من نفس الكلمة حذفت الألف بعد الهاء، وتركت الهاء عوضا عن حذفهم العين، لأن أصل أهرق: أريق. اللغة الثالثة: أهراق يهريق إهراياقاً، فهو مهريق، والشيء مهراق ومهراق أيضا بالتحريك، وهذا شاذ، ونظيره: اسطاع يسطيع اسطياعاً، بفتح الألف في الماضي، وضم الياء في المضارع وهو لغة في: اطاع يطيع، فجعلوا السين عوضا من ذهاب حركة عين الفعل، فكذلك حكم: الهاء، وقد خبط بعضهم خباطاً في هذا الموضوع لعدم وقوفهم على قواعد علم الصرف. قوله: (من سبع قرب) جمع قربة، وهي ما يستقى به، وهو جمع الكثرة، وجمع القلة: قربات، بسكون الراء وفتحها وكسرها. قوله: (أوكيتهن) الأوكية جمع: وكاء، وهو الذي يشد به رأس القربة. قوله: (أعهد) بفتح الهاء اي: أوصى من باب: علم يعلم، يقال عهدت إليه أي: أوصيته. قوله: (واجلس) على صيغة المجهول اي: النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات: (فاجلس) بالفاء. و: المخضب، مر تفسيره عن قريب، وزاد ابن خريمة من طريق عروة عن عائشة أنه كان من نحاس. قوله: (ثم طفقنا نصب عليه) بكسر الفاء وفتحها، حكاه الأخفش، والكسر أفصح. وهو من أفعال المقاربة، ومعناه: جعلنا نصب الماء على رأس النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (تلك) أي: القرب السبع، وفي بعض الروايات: (تلك القرب) . وهو في محل النصب لأنه مفعول نصب. قوله: (حتى طفق) اي حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلينا، وفي: طفق، معنى الاستمرار والمواصلة. قوله: (أن قد فعلتن) أي: بأن فعلتن ما أمرتكن به من إهراق الماء من القرب الموصوفة، و: فعلتن، بضم التاء وتشديد النون، وهو جمع المؤنث المخاطب. قوله: (ثم خرج إلى الناس) أي: خرج من بيت عائشة، رضي الله عنها، وزاد البخاري فيه من طريق عقيل عن الزهري: (فصلى بهم وخطبهم) ، على ما يأتي، إن شاء الله تعالى.
بيان استنباط الاحكام الأول: فيه الدلالة على وجوب القسم على النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لم يحتج إلى الاستئذان عنهن، ثم
(3/91)
وجوبه على غيره بالطريق الاولى. الثاني: فيه لبعض الضرات أن تهب نوبتها للضرة الأخرى. الثالث: فيه استحباب الوصية. الرابع: فيه جواز الإجلاس في المخضب ونحوه لأجل صب الماء عليه، سواء كان من خشب أو حجر أو نحاس، وقد روي عن ابن عمر كراهة الوضوء في النحاس، وقد ذكرناه وقد روي عنه أنه قال: أنا أتوضأ بالنحاس وما يكره منه شيء إلا رائحته فقط. وقيل: الكراهة فيه لأن الماء يتغير فيه، وروي أن الملائكة تكره ريح النحاس. وقيل: يحتمل أن تكون الكراهة فيه لأنه مستخرج من معادن الأرض شبيه بالذهب والفضة، والصواب: جواز استعماله بما ذكرنا من رواية ابن خزيمة، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والحجة البالغة. الخامس: فيه إراقة الماء على المريض بنية التداوي وقصد الشفاء. السادس: فيه دلالة على فضل عائشة، رضي الله تعالى عنها، لتمريض النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها. السابع: فيه إشارة إلى جواز الرقي والتداوي للعليل، ويكره ذلك لمن ليس به علة. الثامن: فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشتد به المرض ليعظم الله أجره بذلك، وفي الحديث الآخر: (إني أوعك كما يوعك رجلان منكم) . التاسع: فيه جواز الأخذ بالإشارة. العاشر: فيه أن المريض تسكن نفسه لبعض أهله دون بعض.
الأسئلة والاجوبة: الأول: ما كانت الحكمة في طلب النبي صلى الله عليه وسلم الماء في مرضه؟ أجيب: بأن المريض إذا صب عليه الماء البارد ثابت إليه قوته، لكن في مرض يقتضي ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك فلذلك طلب الماء، ولذلك بعد استعمال الماء قام وخرج إلى الناس. الثاني: ما الحكمة في تعيين العدد بالسبعة في القرب؟ أجيب: بأنه يحتمل أن يكون ذلك من ناحية التبرك، وفي عدد السبع بركة، لأن له دخولا كثيرا في كثير من أمور الشريعة، ولأن الله تعالى خلق كثيرا من مخلوقاته سبعا. قلت: نهاية العدد عشرة، والمائة تتركب من العشرات، والالوف من المئات، والسبعة من وسط العشرة، وخير الأمور أوساطها، وهي وتر، والله تعالى يحب الوتر، بخلاف السادس والثامن، وأما التاسع فليس من الوسط وإن كان وترا. الثالث: ما الحكمة في تعيين القرب؟ أجيب: بأن الماء يكون فيها محفوظًا وفي معناها ما يشاكلها مما يحفظ فيه الماء، ولهذا جاء في رواية الطبراني في هذا الحديث من آبار شتى. الرابع: ما الحكمة في شرطه، عليه الصلاة والسلام، في القرب عدم حل أوكيتهن؟ أجيب: بأن أولى الماء أطهره وأصفاه، لأن الأيدي لم تخالطه ولم تدنسه بعد، والقرب إنما توكى وتحل على ذكر الله تعالى، فاشترط أن يكون صب الماء عليه من الأسقية التي لم تحلل ليكون قد جمع بركة الذكر في شدها وحلها معًا. الخامس: ما الحكمة في أن عائشة، رضي الله عنها، قالت: (ورجل آخر) ولم تعينه، مع أنه كان هو علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه؟ أجيب: بأنه كان في قلبها منه ما يحصل في قلوب البشر مما يكون سببا في الإعراض عن ذكر اسمه، وجاء في رواية: (بين الفضل ابن عباس) ، وفي أخرى: (بين رجلين أحدهما أسامة) ، وطريق الجمع أنهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة، تارة هذا وتارة هذا، وكان العباس أكثرهم أخذا بيده الكريمة، لأنه كان أدومهم لها إكراما له واختصاصاً به، وعلي وأسامة والفضل يتناوبون اليد الأخرى، فعلى هذا يجاب بأنها صرحت بالعباس وأبهمت الآخر لكونهم ثلاثة، وهذا الجواب أحسن من الاول. السادس: قال الكرماني: أين ذكر الخشب في هذه الاحاديث التي في هذا الباب؟ ثم أجاب بقوله: لعل القدح كان من الخشب.

46 - (باب الوضوء من التور)

أي: هذا باب في بيان حكم الوضوء من التور، وقد مر تفسير التور مستوفى، ووقع في حديث شريك عن أنس في المعراج فأتى بطشت من ذهب فيه تور من ذهب، فدل هذا أن التور غير الطشت، وذلك يقتضي أن يكون التور إبريقاً ونحوه، لأن الطشت لا بد له من ذلك. والمناسبة بين البابين ظاهرة.

199 - حدثنا خالد بن مخلد قال حدثنا سليمان قال حدثنى عمرو بن يحي عن أبيه قال كان عمي يكثر من الوضوء قال لعبد الله بن زيد أخبرني كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ فدعا بتور من ماء فكفأ على يديه فغسلهما ثلاث مرار ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة ثم أدخل يده فاغترف بها فغسل وجهه
(3/92)
ثلاث مرات ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ثم أخذ بيده ماء فمسح رأسه فأدبر به وأقبل ثم غسل رجليه فقال هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم خمسة: الأول: خالد بن مخلد، بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح اللام: القطواني البجلي، مر في أول كتاب العلم. الثاني: سليمان بن بلال أبو محمد، مر في أول كتاب الإيمان. الثالث: عمرو بن يحيى. الرابع: يحيى بن عمارة. الخامس: عم يحيى هو عمرو بن أبي حسن، كما تقدم.
وبقية الكلام فيه وفيما يتعلق بالحديث مر في باب مسح الرأس كله، ولنذكر هنا ما لم نذكره هناك.
قوله: (ثلاث مرات) وفي رواية: (ثلاث مرات) ، فإن قلت: حكم العدد في ثلاثة إلى عشرة أن يضاف إلى جمع القلة، فلم أضيف إلى جمع الكثرة مع وجود القلة وهو: مرات؟ قلت: هما يتعاوضان فيستعمل كل منهما مكان الآخر كقوله تعالى: {ثلاثة قروء} (البقرة: 228) . قوله: (ثم ادخل يده في التور فمضمض) فيه حذف تقديره: ثم أخرجها فمضمض، وقد صرح به مسلم في روايته. قوله: (واستنثر) قد مر تفسير الاستنثار هناك. فإن قلت: لم لم يذكر الاستنشاق؟ قلت: الاستنثار مستلزم للاستنشاق لأنه إخراج الماء من الأنف، هكذا قاله الكرماني. قلت: لا يتأتى هذا على قول من يقول: الاستنثار والاستنشاق واحد، فعلى قول هذا يكون هذا من باب الاكتفاء أو الاعتماد على الرواية الاخرى. قوله: (من غرفة واحدة) حال من الضمير الذي في: (مضمض) ، والمعنى: مضمض ثلاث مرات واستنثر ثلاث مرات حال كونه مغترفاً بغرفة واحدة وهو أحد الوجوه الخمسة للشافعية. وقال بعضهم قوله (من غرفة واحدة) يتعلق بقوله: (فمضمض واستنثر) ، والمعنى جمع بينهما بثلاث مرات من غرفة واحدة كل مرة بغرفة. قلت: يكون الجميع ثلاث غرفات، والتركيب لا يدل على هذا، وهو يصرح بغرفة واحدة. نعم، جاء في حديث عبد الله بن زيد: بثلاث غرفات، وفي رواية ابي داود ومسلم: (فمضمض واستنشق من كف واحدة، يفعل ذلك ثلاثًا) . يعني: بفعل المضمضة والاستنشاق كل مرة منهما بغرفة، فتكون المضامض الثلاث والاستنشاقات الثلاث بثلاث غرفات، وهو أحد الوجوه للشافعية وهو الأصح عندهم قوله: (فغسل وجهه ثلاث مرات) لفظ: ثلاث مرات، متعلق بالفعلين اي: اغترف ثلاثًا فغسل ثلاثًا، وهو على سبيل تنازع العاملين، وذلك لأن الغسل ثلاثًا لا يمكن باغتراف واحد. قوله: (فأدبر بيديه وأقبل) ، احتج به الحسن بن حي على أن البداءة بمؤخر الرأس، والجواب أن: الواو، لا تدل على الترتيب، وقد سبقت الرواية بتقديم الإقبال حيث قال: (فأقبل بيده وأدبر بها) ، وإنما اختلف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في التأخير والتقديم ليري أمته السعة في ذلك والتيسير لهم. قوله: (فقال) ، أي: عبد الله بن زيد.

200 - حدثنا مسدد قال حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا باناء من ماء فاتي بقدح رحراح فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيه قال أنس فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه قال أنس فحزرت من توضأ منه ما بين السبعين إلى الثمانين..
مطابقته للترجمة غير ظاهرة لأن الترجمة باب الوضوء من التور، اللهم إلا إذا أطلق اسم التور على القدح.
بيان رجاله وهم أربعة. الأول: مسدد بن مسهرد. الثاني: حماد بن زيد، تقدم كلاهما. فإن قلت: فلم لا يجوز أن يكون حماد هذا هو حماد ابن سلمة؟ قلت: لأن مسددًا لم يسمع من حماد بن سلمة. الثالث: ثابت البناني، بضم الباء الموحدة وبالنونين، مر في باب القراءة العرض. الرابع: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة. ومنها: أن رواته كلهم بصريون. ومنها: أنهم كلهم أئمة أجلاء.
بيان من أخرجه غيره أخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي الربيع الزهراني.
بيان المعنى قوله: (رحراح) ، بفتح الراء وبالحاءين المهملتين أي: واسع، ويقال: رحرح أيضا بحذف الألف. وقال الخطابي: الرحراح: الإناء الواسع الفم القريب القعر، ومثله لا يسع الماء الكثير، فهو أدل على المعجزة. وروى ابن خزيمة هذا الحديث عن أحمد بن عبدة عن حماد بن زيد، فقال بدل رحراح: زجاج، بزاي مضمومة وجيمين،
(3/93)
وبوب عليه الوضوء من آنية الزجاج، وفي مسنده عن ابن عباس أن المقوقس أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم قدحاً من زجاج، لكن في إسناده مقال. قوله: (فيه شيء من ماء) أي: قليل من ماء، لأن التنوين للتقليل، ومن، للتبعيض. قوله: (ينبع) يجوز فيه فتح الباء الموحدة وضمها وكسرها. قوله: (فحزرت) من الحزر، بتقديم الزاي على الراء، وهو: الخرص. والتقدير قوله: (من) . في محل النصب على المفعولية قوله (ما بين السبعين إلى الثمانين) وتقدم من رواية حميد أنهم كانوا ثمانين وزيادة، والجمع بينهما أن أنسا لم يكن يضبط العدة بل كان يتحقق أنها تنيف على السبعين، ويشك هل بلغت العقد الثامن أو جاوزته، كذا قال بعضهم. وقال الكرماني: ورد أيضا عن جابر ثمة: (كنا خمسة عشر ومائة) ، وهذه قضايا متعددة في مواطن مختلفة وأحوال متغايرة، وهذا أوجه من ذاك، ويستفاد من هذا بلاغه معجزته صلى الله عليه وسلم، وهو أبلغ من تفجير الماء من الحجر لموسى، عليه الصلاة والسلام، لأن في طبع الحجارة أن يخرج منها الماء الغدق الكثير، وليس ذلك في طباع أعضاء بني آدم.

47 - (باب الوضوء بالمد)

أي: هذا باب الوضوء بالمد، بضم الميم وتشديد الدال: والمد، اختلفوا فيه. فقيل: المد رطل وثلث بالعراقي، وبه يقول الشافعي وفقهاء الحجاز. وقيل: هو رطلان، وبه يقول أبو حنيفة وفقهاء العراق. وقال بعضهم: وخالف بعض الحنيفة، فقال: المد رطلان. قلت: مذهب أبي حنيفة أن المد رطلان، وهذا القائل لم يبين المخالف من هو، وما خالف أبو حنيفة أصلا لأنه يستدل في ذلك بما رواه جابر، قال: (كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال) . أخرجه ابن عدي، وبما رواه عن أنس، قال: (كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتوضأ بمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال) ، أخرجه الدارقطني.

201 - حدثنا أبو نعيم قال حدثنا مسعر قال حدثنى ابن جبر قال سمعت أنساً يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل أو كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد.
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم أربعة الأول: أبو نعيم، بضم النون: هو الفضل بن دكين، تقدم في باب فضل من استبرأ لدينه في كتاب الإيمان. الثالث: مسعر، بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة: ابن كدام، بكسر الكاف وبالدال المهملة. وقال أبو نعيم: كان مسعر شكاكاً في حديثه. وقال شعبة: كنا نسمي مسعر المصحف لصدقه. وقال إبراهيم بن سعد: كان شعبة وسفيان إذا اختلفا في شيء. قال: اذهب بنا إلى الميزان: مسعر. مات سنة خمس وخمسين ومائة. الثالث: ابن جبر، بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة، والمراد به: سبط جبر لأنه عبد الله بن عبد الله جبر بن عتيك، تقدم في باب علامة الايمان حب الأنصار، ومن قال بالتصغير فقد صحف، لأن ابن جبير، وهو ابن سعيد لا رواية له عن أنس في هذا الكتاب، وقد روى هذا الحديث الاسماعيلي من طريق ابي نعيم، شيخ البخاري، قال: حدثنا مسعر، قال: حدثني شيخ من الأنصار يقال له: ابن جبر، ويقال له: جابر ابن عتيك. الرابع: أنس بن مالك، رضي الله عنه.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والسماع. ومنها: أن فيه كوفيان: أبو نعيم ومسعر، وبصريان: ابن جبر وأنس. ومنها: أن فيه من ينسب إلى جده.
بيان اللغات والمعنى قوله: (أنسا) بالتنوين، لأنه منصرف وقعع مفعولا. قال الكرماني في بعضها: أنس، بدون الألف، وجوز حذف الألف منه في الكتابة للتخفيف. قلت: لا بد من التنوين وإن كانت الألف لا تكتب. قوله: (يغسل) أي: يغسل جسده. قوله: (أو يغتسل) شك من الراوي. وقال الكرماني: الشك من ابن جبر أنه ذكر لفظ النبي، عليه الصلاة والسلام، أو لم يذكر، وفي أنه قال: يغسل أو يغتسل، من باب الافتعال، والفرق بين الغسل والاغتسال مثل الفرق بين الكسب والاكتساب. وقال غيره: والشك فيه من البخاري، او من أبي نعيم لما حدثه به، فقد رواه الإسماعيلي م طريق ابي نعيم ولم يشك، فقال: يغتسل. قلت: الظاهر أن هذا من الناسخ لأن الإسماعيلي لم يروه بالشك، فنسبته إلى البخاري، أو إلى شيخه أو إلى ابن جبر ترجيح بلا مرجح، فلم لا ينسب إلى مسعر. قوله: (بالصاع) قال الجوهري: الصاع هو الذي يكال به، وهو: أربعة أمداد
(3/94)
إلى خمسة أمداد. وقال ابن سيده: الصاع مكيال لأهل المدينة، يأخذ أربعة أمداد، يذكر ويؤنث، وجمعه: أصوع وأصواع وصيعان وصواع، كالصاع. وقال ابن الأثير: الصاع مكيال يسع أربعة أمداد، والمد مختلف فيه، وفي (الجامع) : تصغيره صويع، فيمن ذكر، وصويعة فيمن أنث، وجمع التذكير أصواع وأصوع في التذكير، وأصوع في التأنيث. وفي (الجمهرة) : أصوع في أذني العدد. وقال ابن بري في (تلخيص اغلاط الفقهاء) : الصواب في جمع صاع أصوع. وقال ابن قرقول: جاء في أكثر الروايات: آصع. قلت: أصل الصاع صوع، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وفيه ثلاث لغات: صاع، وصوع على الأصل، وصواع؛ والجمع: أصوع، وإن شئت أبدلت من الواو المضمومة همزة. قوله: (ويتوضأ بالمد) ، وهو ربع الصاع، ويجمع على أمداد ومدد ومداد، ويأتي الخلاف فيه الآن، وقد مر بعضه عن قريب.
بيان استنباط الحكم يستنبط منه حكمان.
الأول: أنه، عليه الصلاة والسلام، كان يغتسل بالصاع فيقتصر عليه وربما يزيد عليه إلى خمسة أمداد، فدل ذلك أن ماء الغسل غير مقدر بل يكفي فيه القليل والكثير إذا أسبغ وعم، ولهذا قال الشافعي: وقد يرفق الفقيه بالقليل فيكفي، ويخرق الأخرق فلا يكفي، ولكن المستحب أن لا ينقص في الغسل والوضوء عما ذكر في الحديث. وقال بعضهم: فكأن أنسا لم يطلع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعمل في الغسل أكثر من ذلك، لأنه جعلها النهاية. وسيأتي حديث عائشة رضي الله تعالى عنه أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وهو: الفرق، وروى مسلم من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد. قلت: أنس، رضي الله عنه، لم يجعل ما ذكره نهاية لا يتجاوز عنها، ولا ينقص عنها وإنما حكى ما شاهده، والحال تختلف بقدر اختلاف الحاجة، وحديث الفرق لا يدل على أن عائشة، رضي الله تعالى عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم كانا يغتسلان بجميع ما في الفرق. وغاية ما في الباب أنه يدل أنهما يغتسلان من إناء واحد يسمى: فرقا، وكونهما يغتسلان منه لا يستلزم استعمال جميع ما فيه من الماء، وكذلك الكلام في: ثلاثة أمداد. وقال هذا القائل أيضا: وفيه رد على من قدر الوضوء والغسل بما ذكر في حديث الباب: كابن شعبان من المالكية، وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع. قلت: لا رد فيه على من قال به من الحنفية، لأنه لم يقل ذلك بطريق الوجوب، كما قال ابن شعبان بطريق الوجوب، فإنه قال: لا يجزىء أقل من ذلك. وأما من قال به من الحنفية فهو محمد بن الحسن، فإنه روي عنه أنه قال: إن المغتسل لا يمكن أن يعم جسده بأقل من مدر، وهذا يختلف باختلاف أجساد الأشخاص، ولهذا جعل الشيخ عز الدين بن عبد السلام للمتوضىء والمغتسل ثلاث أحوال. أحدها: أن يكون معتدل الخلق كاعتدال خلقه، عليه الصلاة والسلام، فيقتدي به في اجتناب النقص عن المد والصاع. الثانية: أن يكون ضئيلاً ونحيف الخلق بحيث لا يعادل جسده جسده، صلى الله عليه وسلم، فيستحب له أن يستعمل من الماء ما يكون نسبته إلى جسده كنسبة المد والصاع إلى جسده، صلى الله عليه وسلم. الثانية: أن يكون متفاحش الخلق طولا وعرضاً وعظم البطن وثخانة الأعضاء، فيستحب أن لا ينقص عن مقدار يكون بالنسبة إلى بدنه كنسبة المد والصاع إلى بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إعلم أن الروايات مختلفة في هذا الباب، ففي رواية أبي داود من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها: (أن النبي، عليه الصلاة والسلام، كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد) . ومن حديث جابر كذلك، ومن حديث أم عمارة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فأتى بإناء فيه ماء قدر ثلثي المد) . وفي روايته عن أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل الصاع) . وفي رواية ابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما) ، والحاكم في (مستدركه) من حديث عبد الله بن زيد، رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد من ماء فتوضأ، فجعل يدلك ذراعيه) . وقال الحاكم: هذا حديث حسن صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وقال الثوري: حديث أم عمارة حسن. وفي رواية مسلم من حديث عائشة، رضي الله عنها: (كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد) . وفي رواية: (من إناء واحد تختلف أيدينا فيه) وفي رواية (فدعت بأناء قدر الصاع فاغتسلت فيه) وفي آخره كانت تغتسل بخمسة مكاكيك وتتوضأ بمكوك وفي اخرى: (تغسله صلى الله عليه وسلم بالصاع وتوضئه بالمد) . وفي أخرى: (يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) ، وفي رواية البخاري: (بنحو من صاع) ، وفي لفظ: (من قدح يقال له: الفرق) ، وعند النسائي في كتاب (التمييز) : نحو ثمانية أرطال) . وفي (مسند) أحمد بن منيع: (حزرته ثمانية أو تسعة أو عشرة أرطال) .
(3/95)
وعند ابن ماجه، بسند ضعيف عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن أبيه عن جده، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجزىء من الوضوء مد، ومن الغسل صاع) . وكذا رواه الطبراني في (الأوسط) من حديث ابن عباس، وعند أبي نعيم في (معرفة الصحابة) من حديث أم سعد بنت زيد بن ثابت ترفعه: (الوضوء مد والغسل صاع) . وقال الشافعي وأحمد: ليس معنى الحديث على التوقيت أنه لا يجوز أكثر من ولا أقل، بل هو قدر ما يكفي. وقال النووي: قال الشافعي وغيره من العلماء الجمع بين هذه الروايات: إنها كانت اغتسالات في أحوال وجدفيها أكثر ما استعمله وأقله، فدل على أنه لا حد في قدر ماء الطهارة يجب استيفاؤه. قلت: الإجماع قائم على ذلك، فالقلة والكثرة باعتبار الأشخاص والأحوال. فافهم.
والفرق، بفتح الفاء والراء، وقال ابو زيد: بفتح الراء وسكونها، وقال النووي: الفتح أفصح، وزعم الباجي أنه الصواب، وليس كما قال، بل هما لغتان. وقال ابن الاثير: الفرق، بالتحريك: يسع ستة عشر رطلا، وهو ثلاثة أصوع. وقيل: الفرق خمسة أقساط، وكل قسط نصف صاع. وأما الفرق، بالسكون، فمائة وعشرون رطلا، وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الفرق ستة عشر رطلا، والمكوك إناء يسع المد، معروف عندهم. وقال ابن الأثير: المكوك: المد، وقيل: الصاع، والأول أشبه، لأنه جاء في الحديث مفسرًا بالمد. وقال أيضا: المكوك اسم للمكيال، ويختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد، ويجمع على مكاكي بإبدال الياء بالكاف الاخيرة، ويجىء أيضا على مكاكيك.
الحكم الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، وهو رطلان عند أبي حنيفة. وعند الشافعي: رطل وثلث بالعراقي، وقد ذكرناه، وأما الصاع: فعند أبي يوسف خمسة أرطال وثلث رطل عراقية، وبه قال مالك والشافعي وأحمد. وقال ابو حنيفة ومحمد: الصاع ثمانية أرطال، وحجة أبي يوسف ما رواه الطحاوي عنه، قال: قدمت المدينة، وأخرج إلى من أثق به صاعا، وقال: هذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدته خمسة أرطال وثلث، وقال الطحاوي: وسمعت ابن عمران يقول: الذي أخرجه لأبي يوسف هو مالك. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سمعت علي بن المديني يقول: عبرت صاع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته خمسة أرطال وثلث رطل، واحتج أبو حنيفة ومحمد بحديث جابر وأنس، رضي الله عنهما، وقد ذكرناه في أول الباب.

48 - (باب المسح على الخفين)

أي: هذا باب في بيان حكم المسح على الخفين.
والمناسبة بين البابين ظاهرة، لأن كل واحد منهما في حكم من أحكام الوضوء.

202 - حدثنا أصبغ بن الفرج المصري عن ابن وهب قال حدثنى عمر وقال حدثنا أبو النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين وأن عبد الله بن عمر سأل عمر عن ذلك فقال نعم إذا حدثك شيئاً سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره.
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم سبعة: الأول: أصبغ، بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وفي آخره عين معجمة: ابو عبد الله بن وهب القرشي المصري، ولم يكون في المصريين أحد أكثر حديثا منه، وأصبغ كان وراقاً له، مر في باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. الثالث: عمرو، بالواو و: ابن الحارث أبو امية المؤدب الأنصاري المصري القارىء الفقيه، مات بمصر سنة ثمان وأربعين ومائة. الرابع: أبو النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: سالم بن أبي أمية القرشي المدني، مولى عمر بن عبد الله التيمي وكاتبه، مات سنة تسع وعشرين ومائة. الخامس: أبو سلمة، بفتح اللام: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الفقيه المدني، مر في كتاب الوحي. السادس: عبد الله بن عمر بن الخطاب. السابع: سعد بن أبي وقاص، مر في باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة.
(3/96)
بينان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع وبصيغة الإفراد والعنعنة. ومنها: أن فيه ثلاثة من رواته مصريون، وهم: أصبغ وابن وهب وعمرو، وثلاثة مدنيون وهم: أبو النضر وأبو سلمة وابن عمر. ومنها: أن فيه رواية تابعي عن تابعي: أبو النصر عن أبي سلمة. ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي. ومنها: أن معظم الرواة قرشيون فقهاء أعلام. ومنها: أن هذا من مسند سعد بحسب الظاهر، وكذا جعله أصحاب الأطراف، ويحتمل أن يكون من مسند عمر أيضا. وقال الدارقطني: رواه أبو أيوب الإفريقي عن أبي النضر عن أبي سلمة عن ابن عمر عن عمر وسعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال الدارقطني: والصواب قول عمرو بن الحارث عن أبي النضر عن أبي سلمة عن ابن عمر عن سعد.
بيان من أخرجه غيره لم يخرجه البخاري إلا ههنا، وهو من أفراده، ولم يخرج مسلم في المسح إلا لعمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وأخرجه النسائي أيضا في الطهارة عن سليمان بن داود، والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن وهب به.
بيان المعنى والإعراب قوله: (وأن عبد الله بن عمر) عطف على قوله: (عن عبد الله بن عمر) فيكون موصولا إن حمل على أن أبا سلمة سمع ذلك من عبد الله، وإلا فأبو سلمة لم يدرك القصة، وعن ذلك قال الكرماني: وهذا إما تعليق من البخاري، وإما كلام أبي سلمة، والظاهر هو الثاني. قوله: (عن ذلك) أي: عن مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين. قوله: (شيئا) نكرة عام، لأن الواقع في سياق الشرط كالواقع في سياق النفي في إفادة العموم. وقوله: (حدثك) جملة من الفعل والمفعول. وقوله: (سعد) بالرفع فاعله. قوله: (فلا تسأل عنه) أي: عن الشيء الذي حدثه سعد. قوله: (غيره) أي: غير سعد، وذلك لقوة وثوقه بنقله.
بيان استنباط الأحكام الأول: فيه جواز المسح على الخفين ولا ينكره إلا المبتدع الضال. وقالت الخوراج: لا يجوز. وقال صاحب (البدائع) : المسح على الخفين جائز عند عامفة الفقهاء، وعامة الصحابة إلا شيئا روي عن ابن عباس أنه لا يجوز، وهو قول الرافضة. ثم قال: وروي عن الحسن البصري أنه قال: أدركت سبعين بدريًا من الصحابة كلهم يرى المسح على الخفين، ولهذا رآه أبو حنيفة من شرائط أهل السنة والجماعة. فقال: نحن نفضل الشيخين، ونحب الخنتين، ونرى المسح على الخفين، ولا نحرم نبيذ الجر. يعني: المثلث؛ وروي عنه أنه قال: ما قلت بالمسح حتى جاءني مثل ضوء النهار، فكان الجحود ردا على كبار الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، ونسبته إياهم إلى الخطأ، فكان بدعة، ولهذا قال الكرخي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين، والأمة لم تختلف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح. وقال البيهقي: وإنما جاء كراهة ذلك عن علي وابن عباس وعائشة، رضي الله تعالى عنهم. فأما الرواية عن علي سبق الكتاب بالمسح على الخفين فلم يرو ذلك عنه بإسناد موصول يثبت مثله. وأما عائشة فثبت عنها أنها أحالت بعلم ذلك على علي، رضي الله تعالى عنه، وأما ابن عباس فإنما كرهه حين لم يثبت مسح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد نزول المائدة، فلما ثبت رجع إليه. وقال الجوز قاني في (كتاب الموضوعات) : إنكار عائشة غير ثابت عنها. وقال الكاشاني: وأما الرواية عن ابن عباس فلم تصح لأن مداره على عكرمة، وروي أنه لما بلغ عطاء قال: كذب عكرمة، وروي عن عطاء أنه قال: كان ابن عباس يخالف الناس في المسح على الخفين فلم يمت حتى تابعهم، وفي (المغني) لابن قدامة: قال أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يرفعوا؛ وروي عنه أنه قال: المسح أفضل، يعني من الغسل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما طلبوا الفضل، وهذا مذهب الشعبي والحكم وإسحاق. وفي (هداية الحنفية) : الأخبار فيه مستفيضة حتى إن من لم يره كان مبتدعاً، لكن من رآه ثم لم يمسح أخذ بالعزيمة، وكان مأجوراً. وحكى القرطبي مثل هذا عن مالك أنه قال عند موته: وعن مالك فيه أقوال. أحدهما: أنه لا يجوز المسح أصلا. الثاني: أنه يجوز ويكره. الثالث، وهو الأشهر: يجوز أبدا بغير توقيت. الرابع: أنه يجوز بتوقيت. الخامس: يجوز للمسافر دون الحاضر. السادس: عكسه. وقال إسحاق والحكم وحماد المسح أفضل من غسل الرجلين، وهو قول الشافعي، وإحدى الروايتين عن احمد. وقال ابن المنذر: هما سواء، وهو رواية عن أحمد. وقال أصحاب الشافعي: الغسل أفضل من المسح بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن السنة، ولا يشك في جوازه وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من الفقهاء روي عنه إنكار المسح إلا مالكًا، والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك. قلت: فيه نظر لما في (مصنف) ابن أبي شيبة من أن مجاهدًا وسعيد بن جبير وعكرمة كرهوه، وكذا حكى أبو الحسن النسابة عن محمد بن علي بن الحسين وأبي إسحاق السبيعي وقيس بن الربيع، وحكاه القاضي أبو الطيب عن
(3/97)
أبي بكر بن أبي داود والخوارج والروافض. وقال الميموني عن أحمد: فيه سبعة وثلاثون صحابياً، وفي رواية الحسن بن محمد عنه أربعون، وكذا قاله البزار في (مسنده) وقال ابن حاتم: أحد وأربعون صحابياً. وفي (الأشراف) عن الحسن: حدثني به سبعون صحابياً. وقال أبو عمر بن عبد البر: مسح على الخفين سائر أهل بدر والحديبية وغيرهم من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين، وقد أشرنا إلى رواية وخمسين من الصحابة في المسح في شرحنا (لمعاني الآثار) للطحاوي، فمن أراد الوقوف عليه فليرجع إليه.
الثاني: فيه تعظيم لسعد بن أبي وقاص، رضي الله تعالى عنه.
الثالث: فيه أن الصحابي القديم الصحبة قد يخفى عليه من الأمور الجليلة في الشرع ما يطلع عليه غيره، لأن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، أنكر المسح على الخفين مع قدم صحبته وكثرة روايته.
الرابع: فيه أن خبر الواحد إذا حف بالقرائن يفيد اليقين، وقد تكاثرت الروايات بالطرق المتعددة من الصحابة الذين كانوا لا يفارقون النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر ولا في السفر، فجرى ذلك مجرى التواتر. وحديث المغيرة كان في غزوة تبوك، فسقط به من يقول آية الوضوء مدنية، والمسح منسوخ بها، لأنه متقدم، إذ غزوة تبوك آخر غزوة كائنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت قبلها، ومما يدل على أن المسح غير منسوخ حديث جرير، رضي الله تعالى عنه، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وهو أسلم بعد المائدة، وكان القوم يعجبهم ذلك. وأيضًا فإن حديث المغيرة في المسح كان في السفر فيعجبهم استعمال جرير له في الحضر. وقال النووي: لما كان إسلام جرير متأخرًا علمنا أن حديثه يعمل به، وهو مبين أن المراد بآية المائدة غير صاحب الخف، فتكون السنة مخصصة للآية.
الخامس: فيه دليل على أنهم كانوا يرون نسخ السنة بالقرآن، قاله الخطابي.
وقال موسى بن عقبة: أخبرني أبو النضر أن أبا سلمة أخبره أن سعداً حدثه فقال عمر لعبد الله نحوه.

موسى بن عقبة، بضم العين وسكون القاف: التابعي، صاحب المغازي، مات سنة إحدى واربعين ومائة. وفيه ثلاثة من التابعين وهم: موسى، وأبو النضر سالم، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وهم على الولاء مدنيون. وهذا تعليق وصله الإسماعيلي والنسائي وغيرهما، فالإسماعيلي عن أبي يعلى: حدثنا إبراهيم بن الحجاج حدثنا وهيب عن موسى بن عقبة عن عروة ابن الزبير أن سعدا وابن عمر اختلفا في المسح على الخفين، فلما اجتمعا عند عمر قال سعد لابن عمر: سل أباك عما أنكرت علي! فسأله، فقال عمر: نعم، وإن ذهبت إلى الغائط. قال موسى: وأخبرني سالم أبو النضر عن أبي سلمة بنحو من هذا عن سعد وابن عمر وعمر، وقال عمر لابنه، كأنه يلومه: إذا حدث سعد عن النبي، عليه الصلاة والسلام، فلا تبغ وراء حديثه شيئا. والنسائي عن سليمان بن داود. والحارث بن مسكين عن ابن وهب، وعن قتيبة عن إسماعيل بن جعفر عن موسى. ورواه أبو نعيم من حديث وهيب بن خالد عن موسى، وقال الإسماعيلي: ورواية عروة وأبي سلمة عن سعد وابن عمر في حياة عمر مرسلة. وقال الترمذي عن البخاري: حديث أبي سلمة عن ابن عمر في المسح صحيح، قال: وسألت البخاري عن حديث ابن عمر في المسح مرفوعا فلم يعرفه. وقال الميموني: سألت أحمد عنه فقال: ليس بصحيح، ابن عمر ينكر على سعد المسح. قلت: إنما أنكر عليه مسحه في الحضر، كما هو مبين في بعض الروايات، وأما السفر فقد كان ابن عمر يعلمه. ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ابي خيثمة في (تاريخه الكبير) ، وابن أبي شيبة في (مصنفه) من رواية عاصم عن سالم عنه: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين بالماء في السفر) .
واعلم أن خبر: إن، في قوله: (إن سعدا) محذوف، تقديره: إن سعدا حدث أبا سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين. وقوله: (فقال) : الفاء، عطف على ذلك المقدر. قوله: (نحوه) منصوب بأنه مقول القول، أي: نحو إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره.

203 - حدثنا عمرو بن خالد الحراني قال حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعد بن إبراهيم عن نافع بن جبير عن عروة بن المغيرة عن أبيه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن
(3/98)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج لحاجته فاتبعه المغيرة باداوة فيها ماء فصب عليه حين فرغ من حاجته فتوضأ ومسح على الخفين..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم سبعة: الأول: عمرو، بالواو: ابن خالد بن فروخ، بالفاء المفتوحة وضم الراء المشددة وفي آخره خاء معجمة: ابو الحسن الحراني، ونسبته إلى حران، بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وبعد الالف نون. قال الكرماني: موضع بالجزيرة بين العراق والشام. قلت: ليس كما قاله، بل هي مدينة قديمة بين دجلة والفرات كانت تعدل ديار مصر، واليوم خراب. وقيل: هي مولد إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، ويوسف وإخوته، عليهم الصلاة والسلام. وقال ابن الكلبي: لما خرج نوح، عليه الصلاة والسلام، من السفينة بناها. وقيل: إنما بناها ران، خال يعقوب، عليه الصلاة والسلام، فأبدلت العرب الهاء حاء فقالوا: احران. الثاني: الليث بن سعد المصري. الثالث: يحيى بن سعيد الأنصاري. تقدما في كتاب الوحي. الرابع: سعد، بسكون العين؛ إبن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. الخامس: نافع بن جبير بن مطعم. السادس: عروة بن المغيرة بن شعبة. السابع: أبو المغيرة بن شعبة.
بيان لطائف اسناده الاول: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة الكثيرة. والثاني: أن رواته ما بين حراني ومصري ومدني. والثالث: فيه أربعة من التابعين على الولاء، وهم: يحيى وسعد ونافع وعروة.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في مواضع في الطهارة عن عمرو بن علي عن عبد الوهاب الثقفي، وعن عمرو ابن خالد عن الليث، كلاهما عن يحيى بن سعد، وفي المغازي عن يحيى بن بكير عن الليث عن عبد العزيز بن أبي سلمة، كلاهما عن سعد بن إبراهيم عن نافع بن جبير بن مطعم عنه به، وفي الطهارة أيضا، وفي اللباس عن أبي نعيم عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عنه به، وأخرجه مسلم في الطهارة عن قتيبة، وفي الصلاة عن محمد بن رافع، وزاد في قصة الصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف. وأخرجه أبو داود في الطهارة عن أحمد بن صالح، ولم يذكر قصة الصلاة، وعن مسدد عن عيسى بن يونس. وأخرجه النسائي فيه عن سليمان بن داود والحارث بن مسكين وعن قتيبة مختصرا وعن عبد الله بن سعد ابن إبراهيم. وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد بن رمح.
بيان المعاني قوله: (أنه خرج لحاجته) وفي الباب الذي بعد هذا أنه كان في غزوة تبوك على تردد في ذلم من بعض رواته ولمالك وأحمد وأبي داوود من طريق عباد بن زيد عن عروة بن المغيرة أنه كان في غزوة تبوك بلا تردد وأن ذلك كان عند صلاة الفجر قوله: (فأتبعه المغيرة) . من الاتباع؛ بتشديد التاء: من باب الافتعال، ويروى: فاتبعه، من الاتباع بالتخفيف من باب الإفعال. وفي رواية للبخاري من طريق مسروق عن المغيرة في الجهاد وغيره: أن النبي، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وهو الذي أمره أن يتبعه بالإداوة. وزاد: (حتى توارى عني فقضى حاجته، ثم أقبل فتوضأ) . وعند أحمد من طريق أخرى عن المغيرة أن الماء الذي توضأ به أخذه المغيرة من أعرابية صبته له من قربة كانت جلد ميتة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سلها إن كانت دبغتها فهو طهور ماؤها. قال: إني والله دبغتها. قوله: (بإداوة) بكسر الهمزة، أي بمطهرة. قوله: (فتوضأ) ، وفي رواية البخاري في الجهاد زيادة وهي: (وعليه جبة شامية) . وفي رواية ابي داود: (من صوف من جبات الروم) . وللبخاري في روايته التي مضت في باب الرجل يوضىء صاحبه: (فغسل وجهه ويديه) ، وذهل الكرماني عن هذه الرواية فقال: فإن قلت المفهوم من قوله: (فتوضأ ومسح) أنه غسل رجليه ومسح خفيه، لأن التوضؤ لا يطلق إلا على غسل تمام أعضاء الوضوء، ثم قال: قلت: المراد به ههنا غسل غير الرجلين بقرينة عطف مسح الخفين عليه للإجماع على عدم وجوب الجمع بين الغسل والمسح، أقول: وفي رواية للبخاري في الجهاد: (إنه تمضمض واستنشق وغسل وجهه) . زاد أحمد في (مسنده) (ثلاث مرات، فذهب يخرج يديه من كميه فكانا ضيقين، فأخرجهما من تحت الجبة) . ولمسلم من وجه آخر: (وألقى الجبة على منكبيه) . ولأحمد: (فغسل يده اليمنى ثلاث مرات، ويده اليسرى ثلاث مرات) . وللبخاري، في رواية أخرى: (ومسح برأسه) . وفي رواية لمسلم: (ومسح بناصيته على العمامة وعلى الخفين) ، ولو تأمل الكرماني هذه الروايات لما التجأ إلى هذا السؤال والجواب.
(3/99)
بيان استنباط الأحكام الأول: فيه مشروعية المسح على الخفين. الثاني: فيه جواز الاستعانة، كما مر في بابه. الثالث: فيه الانتفاع بجلود الميتات إذا كانت مدبوغة. الرابع: فيه الانتفاع بثياب الكفار حتى يتحقق نجاستها لأنه، عليه الصلاة والسلام، لبس الجبة الرومية، واستدل به القرطبي على أن الصوف لا يتنجس بالموت، لأن الجبة كانت شامية، وكان الشام إذ ذاك دار كفر، ومأكول أهلها الميتات. الخامس: فيه الرد على من زعم أن المسح على الخفين منسوخ بآية الوضوء التي في المائدة لأنها نزلت في غزوة المريسيع، وكانت هذه القصة في غزوة تبوك وهي بعدها بلا خلاف. السادس: فيه التشمير في السفر ولبس الثياب الضيقة فيه لكونها أعون على ذلك. السابع: فيه قبول خبر الواحد في الأحكام ولو كانت امرأة، سواء كان ذلك فيما تعم به البلوى ام لا، لأنه عليه الصلاة والسلام، قبل خبر الأعرابية. الثامن: فيه استحباب التواري عن أعين الناس عند قضاء الحاجة والإبعاد عنهم. التاسع: فيه جواز خدمة السادات بغير إذنهم. العاشر: فيه استحباب الدوام على الطهارة، لأنه صلى الله عليه وسلم، امر المغيرة أن يتبعه بالماء لأجل الوضوء. الحادي عشر: فيه أن الاقتصار على غسل معظم المفروض غسله لا يجوز لإخراجه صلى الله عليه وسلم يديه من تحت الجبة، ولم يكتف بما بقي.

204 - حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن جعفر بن عمر وبن أمية الضمري أن أباه أخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين.
(الحديث 204 طرفه في: 205) .
مطابقة للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم ستة: الأول: أبو نعيم هو الفضل بن دكين. الثاني: شيبان بن عبد الرحمن النحوي. الثالث: يحيى بن أبي كثير التابعي. الرابع: أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، تقدموا في باب كتابة العلم. الخامس: جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، بالضاد المعجمة المفتوحة: أخو عبد الملك بن مروان من الرضاعة، من كبار التابعين، مات سنة خمس وتسعين. السادس: عمرو بن أمية، شهد بدرًا وأحداً مع المشركين، وأسلم حين انصرف المشركون عن أحد، وكان من رجال العرب نجدة وجراءة، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون حديثا، للبخاري منها حديثان، مات بالمدينة سنة ستين.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والإخبار. ومنها: أن فيه ثلاثة من التابعين وهم: يحيى وابو سلمة وجعفر. ومنها: أن رواته ما بين كوفي وبصري ومدني.
بيان من أخرجه غيره أخرجه النسائي في الطهارة عن عباس العنبري عن عبد الرحمن بن مهدي عن حرب بن شداد. وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن مصعب عن الأوزاعي.
بيان الحكم: وهو مشروعية المسح على الخفين.
وتابعه حرب بن شداد وأبان عن يحيى
اي: تابع شيبان بن عبد الرحمن المذكور حرب بن شداد. فقوله: (حرب) مرفوع لأنه فاعل: تابعه، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى شيبان، وقد وصله النسائي عن عباس العنبري عن عبد الرحمن عن حرب عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. قوله: (وأبان) عطف على حرب، وهو أبان بن يزيد العطار، وحديثه وصله الطبراني في (معجمه الكبير) عن محمد ابن يحيى بن المنذر القزاز، حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان بن يزيد عن يحيى فذكره. ثم إعلم أن أبان، عند من صرفه، الألف فيه أصلية، ووزنه: فعال، ومن منعه عكسه. فقال: الهمزة زائدة والألف بدل من الياء، لأن أصله بين.

205 - حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا الاوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن جعفر بن عمر عن أبيه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه.
(انظر الحديث: 204) .
مطابقة للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم سبعة: الأول: عبدان، بفتح المهملة وسكون الباء الموحدة: لقب عبد الله بن عثمان العتكي الحافظ. الثاني: عبد الله بن المبارك المروزي، شيخ الإسلام، تقدما في كتاب الوحي. الثالث: الأوزاعي، وهو عبد الرحمن، تقدم في كتب العلم في باب الخروج في طلب العلم. الرابع: يحيى بن أبي كثير. الخامس: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. السادس: جعفر بن عمرو. السابع: أبوه عمرو بن أمية.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار بصيغة الجمع والعنعنة. ومنها: أن رواته ما بين مروزي وشامي ومدني.
(3/100)
بيان المعنى قوله: (على عمامته وخفيه) ، وهكذا رواه الأوزاعي وهو مشهور عنه، وأسقط بعض الرواة عنه جعفراً من الإسناد هو خطأ، قاله أبو حاتم الرازي، وقال الأصيلي: ذكر العمامة في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي، لأن شيبان رواه عن يحيى ولم يذكرها، وتابعه حرب وأبان، والثلاثة خالفوا الأوزاعي، لأن شيبان رواه عن يحيى، فوجب تغليب الجماعة على الواحد. أقول: على تقدير تفرد الأوزاعي بذكر العمامة لا يستلزم ذلك تخطئته، لأنه زيادة من ثقة غير منافية لرواية غيره فتقبل.
بيان الحكم وهو شيئان: أحدهما: المسح على العمامة. والآخر: على الخفين. أما الأول: فاختلف العلماء فيه، فذهب الإمام أحمد إلى جواز الاقتصار على العمامة بشرط الاعمام بعد كمال الطهارة، كما في المسح على الخفين، واحتج المانعون بقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} (المائدة: 6) ومن مسح على العمامة لم يمسح على رأسه، وأجمعوا على أنه لا يجوز مسح الوجه في التيمم على حائل دونه، فكذلك الرأس. وقال الخطابي: فرض الله مسح الرأس، والحديث في مسح العمامة محتمل للتأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل. قال ابن المنذر: وممن مسح على العمامة: أبو بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، وبه قال عمر وأنس وأبو أمامة، وروي عن سعد بن مالك وأبي الدارداء. وبه قال عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة ومكحول والأوزاعي وابو ثور. وقال عروة والنخعي والشعبي والقاسم ومالك والشافعي واصحاب الرأي: لا يجوز المسح عليها؛ وفي (المغنى) : ومن شرائط جواز المسح على العمامة شيئان: أحدهما: أن تكون تحت الحنك، سواء أرخى لها ذؤابة أم لا، قاله القاضي، ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة إذا وقع عليها الاسم. وقيل: إنما لم يجز المسح على العمامة التي ليس لها حنك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط. قال أبو عبيد: الاقتعاط: أن لا يكون تحت الحنك منها شيء. وروي أن عمر، رضي الله تعالى عنه، رأى رجلا ليس تحت حنكه من عمامته شيء، فحنكه بكور منها، وقال: ما هذه الفاسقية؟ الشرط الثاني: أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، كمقدم الرأس والأذنين، ويستحب أن يمسح على ما ظهر من الرأس مع المسح على العمامة، نص عليه أحمد، ولا يجوز المسح على القلنسوة. وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدا قال بالمسح على القلنسوة إلا أنسا مسح على قلنسوته. وفي جواز المسح للمرأة على الخمار روايتان: احداهما: يجوز، والثانية: لا يجوز. قال نافع وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، ولا يجوز المسح على الوقاية قولا واحدًا، ولا نعلم فيه خلافًا لأنه لا يشق نزعها. وأما الحكم الثاني: للحديث فقد مر الكلام فيه مستوفى.
وتابعه معمر عن يحيى عن أبي سلمة عن عمر وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه.
أي: تابع الأوزاعي معمر بن راشد. فقوله: (معمر) بالرفع فاعل لقوله: (تابعه) ، والضمير المنصوب فيه للأوزاعي، وهذه المتابعة مرسلة وليس فيها ذكر العمامة، لما روى عنه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى عن أبي سلمة عن عمر، وقال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه) ، هكذا وقع في مصنف عبد الرزاق، ولم يذكر العمامة. وأبو سلمة لم يسمع من عمرو، وإنما سمع من أبيه جعفر، فلا حجة فيها. قاله الكرماني، قلت: وقع في كتاب الطهارة لابن منذر من طريق معمر: وفيه إثبات ذكر العمامة، وقال بعضهم: سماع أبي سلمة من عمرو ممكن، فإنه مات بالمدينة سنة ستين، وأبو سلمة مدني، وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمر. وقلت: كونه مدنياً وسماعه من خلق ماتوا قبله لا يستلزم سماعه من عمرو، وبالاحتمال لا يثبت ذلك.

49 - (باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان)

قوله: (باب) إذا قطع عما بعده لا يكون معرباً، لأن الإعراب لا يكون إلا في جزء المركب، وإذا أضيف إلى ما بعده بتأويل: باب في بيان إدخال الرجل رجليه في خفيه وهما طاهرتان، أي: والحال أن رجليه طاهرتان، عن الحدث بأن يكون الباب معرباً على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا باب في بيان إدخال الرجل ... إلى آخره.
والمناسبة بين البابين ظاهرة، لأن كلاً منهما في حكم المسح على الخفين.
(3/101)
206 - حدثنا أبو نعيم قال حدثنا زكرياء عن عامر عن عروة بن المغيرة عن أبيه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لانزع خفيه فقال دعهما فاني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم خمسة: الأول: أبو نعيم الفضل بن دكين. الثاني: ذكريا بن أبي زائدة الكوفي. الثالث: عامر بن شراحيل الشعبي التابعي، قال: ادركت خمسمائة صحابي أو أكثر يقولون: علي وطلحة والزبير في الجنة، تقدم هو وزكريا في باب فضل من استبرأ لدينه. الرابع: عروة بن المغيرة. الخامس: المغيرة بن شعبة، رضي الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة. ومنها: أن رواته كلهم كوفيون. ومنها: أن فيه رواية التابعي.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره قد مر عن قريب.
بيان اللغات والإعراب قوله: (في سفر) : هو سفرة غزوة تبوك كما ورد مبينًا في رواية أخرى في (الصحيح) وكانت في رجب سنة تسع. قوله: (فأهويت) أي: مددت يدي، ويقال: أي أشرت إليه. قال الجوهري: يقال أهوى إليه بيديه ليأخذه. قال الأصمعي: اهويت الشيء إذا أومأت به. وقال التيمي: أهويت أي: قصدت الهوى من القيام إلى القعود. وقيل: الإهواء: الإمالة. قوله: (لأنزع) ، بكسر الزاي من باب: ضرب يضرب، فإن قلت: فيه حرف الحلق، وما فيه حرف من حروف الحلق، يكون من باب: فعل يفعل بالفتح، فيهما. قلت: ليس الأمر كذلك، وإنما إذا وجد فعل يفعل بالفتح فيهما، فالشرط فيه أن يكون فيه حرف من حروف الحلق، وأما إذا كانت كلمة فيها حرف حلق لا يلزم أن تكون من باب فعل يفعل بالفتح فيهما. قوله: (خفية) أي: خفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (دعهما) اي: دع الخفين. فقوله: (دع) أمر معناه: أترك، وهو من الأفعال التي أماتوا ماضيها. قوله: (فإني أدخلتهما) أي: الرجلين. قوله: (طاهرتين) أي من الحدث، وهو منصوب على الحال، وهذا رواية الأكثرين. وفي رواية الكشميهني: (وهما طاهرتان) ، وهي جملة أسمية حالية. وفي رواية أبي داود: (فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان) . وللحميدي في (مسنده) : (قلت يا رسول الله: أيمسح أحدنا على خفيه؟ قال: نعم، إذا أدخلهما وهما طاهرتان) . ولابن خزيمة من حديث صفوان بن غسان: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثًا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا) . قوله: (فمسح عليهما) أي: على الخفين، وفيه إضمار تقديره: فأحدث فمسح عليهما، لأن وقت جواز المسح بعد الحدث. والوضوء، ولا يجوز قبله، لأنه على طهارة.
بيان استنباط الأحكام الأول: فيه جواز المسح على الخفين وبيان مشروعيته. الثاني: احتجت به الشافعية على أن شرط جواز المسح لبسهما على طهارة كاملة قبل لبس الخف، لأن الحديث جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطا لجواز المسح، والمعلق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط. وقال بعضهم: قال صاحب (الهداية) من الحنفية: شرط إباحة المسح لبسهما على طهارة كاملة. قال والمراد بالكاملة وقت الحدث لا وقت اللبس. انتهى. فقال: والحديث حجة عليه، وذكر ما ذكرناه الآن عن الشافعية. قلت: نقول أولا ما قاله صاحب (الهداية) ، ثم نرد على هذا القائل ما قاله. أما عبارة صاحب الهداية فهي قوله: إذا لبسهما على طهارة كاملة، لا يفيد اشتراط الكمال وقت اللبس، بل وقت الحدث، وهو المذهب عندنا حتى لو غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة ثم أحدث يجزيه المسح، وهذا لأن الخف مانع حلول الحدث بالقدم، فيراعى كمال الطهارة وقت المنع وهو وقت الحدث، حتى لو كانت ناقصة عند ذلك كان الخف رافعا. وأما بيان الرد على هذا القائل: بأن الحديث المذكور ليس بحجة على صاحب (الهداية) ، فهو إنا نقول أولا: إن اشتراط اللبس على طهارة كاملة لا خلاف فيه لأحد، وإنما الخلاف في أنه هل يشترط الكمال عند اللبس أو عند الحدث؟ فعندنا عند الحدث، وعند الشافعي عند اللبس. وتظهر ثمرته فيما إذا غسل رجليه أولا ولبس خفيه، ثم أتم الوضوء قبل أن يحدث، ثم أحدث جاز له المسح عندنا، خلافًا له. وكذا لو توضأ فرتب. لكن غسل إحدى رجليه ولبس الخف، ثم غسل الأخرى ولبس الخف الآخر يجوز عندنا خلافًا له، ثم قوله: المعلق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط، سلمناه، ولكن لا نسلم أنه صلى الله عليه وسلم شرط كمال الطهارة وقت اللبس، لأنه لا يفهم من نص الحديث غاية ما في الباب أنه أخبر أنه لبسهما وقدماه كانتا طاهرتين، فأخذنا من هذا اشتراط الطهارة لأجل جواز المسح، سواء كانت الطهارة حاصلة وقت اللبس أو وقت
(3/102)
الحدث، وتقييده بوقت اللبس أمر زائد لا يفهم من العبارة. فإذا تقرر هذا على هذا لم يكن الحديث حجة على صاحب (الهداية) ، بل هو حجة له، حيث اشترط الطهارة لأجل جواز المسح، وحجة عليه حيث يأخذ منه ما ليس يدل على مدعاه. وقال الطحاوي: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: أدخلتهما طاهرتين، يجوز أن يقال: غسلتهما، وإن لم يكمل الطهارة صلى ركعتين قبل أن يتم صلاته، ويحتمل أن يريد: طاهرتان من جنابة أو خبث. ولو قلت: دخلنا البلد ونحن ركبان، يشترط أن يكون كل واحد راكبًا عند دخوله، ولا يشترط افترانهم في الدخول، فتكون كل واحدة من رجليه عند إدخالها الخف طاهرة إذا لم يدخلهما الخفين معًا، وهما طاهرتان، لأن إدخالهما معًا غير متصور عادة، وإن أراد إدخال كل واحدة الخف وهي طاهرة بعد الأخرى فقد وجد المدعي، ومع هذا فإن هذه المسألة مبنية على أن الترتيب شرط عند الشافعي وليس بشرط عندنا، وقال: هذا القائل أيضا: ولابن خزيمة، من حديث صفوان بن عسال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثًا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا) . قال ابن خزيمة: ذكرته للمزني فقال لي: حدث به أصحابنا، فإنه أقوى حجة للشافعي. قلت: فإن كان مراده من قوله: فإنه من أقوى حجة، كون مدة المسح للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يومًا وليلة، فمسلم. ونحن نقول به، وإن كان مراده اشتراط الطهارة وقت اللبس فلا نسلم ذلك، لأنه لا يفهم ذلك من نص الحديث على ما ذكرناه الآن. وقال أيضا: وحديث صفوان، وإن كان صحيحا، لكنه ليس على شرط البخاري، لكن حديث الباب موافق له في الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس. قلت: بعد أن صح حديث صفوان عند جماعة من المحدثين لا يلزم أن يكون على شرط البخاري. وقوله: موافق له في الدلالة. إلى آخره، غير مسلم في كون الطهارة عند اللبس. نعم، موافق له في مطلق اشتراط الطهارة لا غير، فإن ادعى هذا القائل أنه يدل على كونها عند اللبس، فعليه البيان بأي نوع من أنواع الدلالة. الثالث: من الأحكام، فيه: خدمة العالم، وللخادم أن يقصد إلى ما يعرف من خدمته دون أن يأمر بها. الرابع: فيه إمكان الفهم عن الإشارة ورد الجواب بالعلم على ما يفهم من الإشارة، لأن المغيرة أهوى لينزع الخفين، ففهم عنه صلى الله عليه وسلم ما أراد، فأجاب بأنه يجزيه المسح. الخامس: فيه: أن من لبس خفيه على غير طهارة انه لا يمسح عليهما بلا خلاف.

50 - (باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق)

أي: هذا باب في حكم من لم يتوضأ من أكل لحم الشاة، قيد بلحم الشاة ليندرج ما هو مثلها وما هو دونها في حكمها. قوله: (والسويق) بالسين والصاد، لغة فيه لمكان المضارعة، والجمع: أسوقة. وسمي بذلك لانسياقه في الخلق، والقطعة من السويق سويقة، وعن أبي حنيفة: الجذيذة السويق، لأن الحنطة جذت له. يقال: جذذت الحنطة للسويق. وقال أبو حاتم: إذا أرادوا أن يعملوا الفريصة، وهي ضرب من السويق، ضربوا من الزرع ما يريدون حين يستفرك، ثم يسهمونه، وتسهيمه أن يسخن على المقلى حتى ييبس، وإن شاؤا جعلوا معه على المقلى الفودنج، وهو أطيب الأطعمة. وعاب رجل السويق بحضرة أعرابي فقال: لا تعبه، فإنه عدة المسافر، وطعام العجلان، وغذاء المبتكر، وبلغة المريض، وهو يسر فؤاد الحزين، ويرد من نفس المحرور، وجيد في التسمين، ومنعوت في الطب، وفقارة لحلق البلغم، وملتوته يصفي الدم؛ وإن شئت كان شرابًا، وإن شئت كان طعاما، وإن شئت ثريداً وإن شئت خبيصاً. وثريت السويق: صببت عليه ماء ثم لتيته، وفي (مجمع الغرائب) : ثرى يثري ثرية: إذا بل التراب، وإنما بل السويق لما كان لحقه من اليبس والقدم، وهو شيء يتخذ من الشعير أو القمح، يدق فيكون شبه الدقيق إذا احتيج إلى أكله خلط بماء، أو لبن أو رب أو نحوه. وقال قوم: الكعك. قال السفاقسي: قال بعضهم: كان ملتوتاً بسمن. وقال الداودي: هو دقيق الشعير والسلت المقلو، ويرد قول من قال: إن السويق هو الكعك قول الشاعر:
(يا حبذا الكعك بلحم مثرود ... وخشكنان مع سويق مقنود.)

وقال ابن التين ليس في حديثي الباب ذكر السويق، وقال بعضهم: أجيب بأنه دخل من باب أولى، لأنه إذا لم يتوضأ من اللحم مع دسومته، فعدمه من السويق أولى، ولعله أشار بذلك إلى الحديث في الباب الذي بعد. قلت: وإن سلمنا ما قاله،
(3/103)
فتخصيص السويق بالذكر لماذا؟ وقوله: ولعله ... إلى آخره، أبعد من الجواب الأول، لأنه عقد على السويق بابا، فلا يذكر إلا في بابه، وذكره إياه ههنا لا طائل تحته. لأنه لا يفيد شيئا زائدا.
وجه المناسبة بين البابين ظاهر، لأن أكثر هذه الأبواب في أحكام الوضوء.
وأكل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم يتوضؤوا

ليس في رواية أبي ذر لحمًا، وإنما روى: أكل أبو بكر وعمر وعثمان فلم يتوضؤوا، ووجد ذلك في رواية الكشميهني، والأولى أعم، لأن فيها حذف المفعول، وهو يتناول أكل كل ما مسته النار لحمًا أو غيره، وكذا وصل هذا التعليق الطبراني في (مسند الشاميين) بإسناد حسن من طريق سليمان بن عامر، قال: (رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضؤوا) وروى ابن أبي شيبة عن هيثم: أخبرنا علي بن زيد حدثنا محمد بن المنكدر، قال: (أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان خبزًا ولحمًا فصلوا ولم يتوضؤوا) ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر عن ابن عيينة حدثنا ابن عقيل فذكره مطولا، ورواه ابن حبان عن عبد الله بن محمد حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا أبو علقمة عبد الله بن محمد بن أبي فروة حدثني محمد بن المنكدر عنه، ورواه ابن خزيمة حدثنا موسى بن سهل حدثنا علي بن عباس حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن ابن المنكدر، وروى الطحاوي عن أبي بكرة، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا رباح بن أبي معروف عن عطاء عن جابر، قال: (أكلنا مع ابي بكر، رضي الله تعالى عنه، خبزًا ولحمًا ثم صلى ولم يتوضأ) . وأخرجه الطحاوي من عشر طرق، وروى أيضا عن جماعة من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، نحوه. قوله: (فلم يتوضؤوا) : غرضه منه بيان الإجماع السكوتي.
70 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ) مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة. (بيان رجاله) وهم خمسة. كلهم ذكروا. ومن لطائف إسناده التحديث بصيغة الجمع والإخبار بصيغة الجمع والعنعنة. (بيان من أخرجه غيره) أخرجه مسلم وأبو داود جميعًا في الطهارة عن القعنبي عن مالك. (بيان المعنى) قوله " أكل كتف شاة " أي أكل لحمه وفي لفظ للبخاري في الأطعمة " تعرق " أي أكل ما على العرق بفتح العين المهملة وسكون الراء وهو العظم ويقال له العراق بالضم أيضا وفي لفظ " انتشل عرقا من قدر " وعند مسلم " أنه أكل عرقا أو لحمًا ثم صلى ولم يتوضأ ولم يمس ماء " ورواه أبو إسحاق السراج في مسنده بزيادة " ولم يمضمض " وفي مسند أحمد " انتهش من كتف " وعند ابن ماجة " ثم مسح يده بمسح كان تحته " وفي المنصف " أكل من عظم أو تعرق من ضلع " وفي سنن أبي داود " فرأيته يسيل على لحيته أمشاج من دم دمًا ثم قام إلى الصلاة " وفي مسند القاضي إسماعيل بن إسحاق كان ذلك في بيت ضباعة بنت الحارث بن عبد المطلب وهي بنت عم النبي - صلى الله عليه وسلم -. (بيان الحكم) وهو أكل ما مسته النار لا يوجب الوضوء وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد واسحق وأبي ثور وأهل الشام وأهل الكوفة والحسن بن الحسن والليث بن سعد وأبو عبيد وداود بن علي وابن جرير الطبري إلا أن أحمد يرى الوضوء من لحم الجزور فقط وقال ابن المنذر وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعامر بن ربيعة وأبو أمامة وأبي بن كعب وأبو الدرداء لا يرون الوضوء مما مست النار وقال الحسن البصري والزهري وأبو قلابة وأبو مجلز وعمر بن عبد العزيز يجب الوضوء مما غيرت النار وهو قول زيد بن ثابت وأبي طلحة وأبي موسى وأبي هريرة وأنس وعائشة أم المؤمنين وأم حبيبة أم المؤمنين وأبي أيوب واحتجوا بأحاديث كثيرة منها حديث أبي طلحة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أكل ثور أقط فتوضأ منه قال عمر والثور القطعة " رواه الطحاوي بإسناد صحيح والطبراني في الكبير ومنها حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " توضؤا مما غيرت النار " رواه الطحاوي والنسائي والطبراني في الكبير ومنها حديث أم حبيبة قالت " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
(3/104)
توضؤا مما مست النار " رواه الطحاوي بإسناد صحيح وأحمد في مسنده وأبو داود والنسائي ومنها حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " توضؤا مما غيرت النار ولو من ثور أقط " رواه الطحاوي بإسناد صحيح وأخرجه الطبراني في الكبير وأحمد في مسنده وأخرجه الترمذي والسراج في مسنده ومنها حديث سهل بن الحنفية قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أكل لحمًا فليتوضأ " رواه الطحاوي بإسناد حسن واحتجت الجماعة الأولى بأحاديث منها حديث ابن عباس وحديث عمرو بن أمية وغيرهما وأحاديث هؤلاء منسوخة بما روى عن جابر رضي الله تعالى عنه قال " كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ترك الوضوء مما مست النار " أخرجه الطحاوي وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه وقالوا أيضا يجوز أن يكون المراد من الوضوء في الأحاديث الأول غسل اليد لا وضوء الصلاة فإن قلت روى توضأ وروى ولم يتوضأ قلت هو دائر بين الأمرين فحديث جابر بين أن المراد الوضوء الذي هو غسل اليد
208 - حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني جعفر بن عمر وابن أمية أن أخبره أباه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة فدعي إلى الصلاة فألقى السكين فصلى ولم يتوضأ..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم ستة. الأول: يحيى بن بكير هو يحيى بن عبد الله بن بكير المصري. الثاني: الليث بن سعد المصري. الثالث: عقيل، بضم العين: بن خالد الأيلي المصري، سبقوا في كتاب الوحي. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: جعفر بن عمرو بن أمية. السادس: أبوه عمرو بن امية.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والإخبار. ومنها: أن ثلاثة من رواته مصريون والثلاثة الباقية مدنيون. ومنها: أن فيهم إمامين كبيرين.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن عبد العزيز بن عبد الله، وفي الجهاد كذلك، وفي الأطعمة عن أبي اليمان، وفيها عن محمد بن مقاتل أيضا. وأخرجه مسلم في الطهارة عن محمد بن الصباح، وعن أحمد بن عيسى. وأخرجه الترمذي في الأطعمة عن محمود بن غيرن. وأخرجه النسائي في الوليمة عن أحمد بن محمد. وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم.
بيان المعنى وغيره قوله: (يحتز) بالحاء المهملة وبالزاي اي: يقطع، يقال احتزه اي: قطعه. وزاد البخاري في الأطعمة من طريق معمر عن الزهري: (يأكل منها) ، وفي الصلاة من طريق صالح عن الزهري: (يأكل ذراعا يحتز منها) ، وفي أخرى: (يحتز من كتف يأكل منها) . قوله: (من كتف شاة) قال ابن سيده: الكتف العظيم بما فيه، وهي أنثى، والجمع أكتاف. يقال: كتف، بفتح الكاف وكسر التاء، و: كتف، بكسر الكاف وسكون التاء، وقيل: هي عظم عريض خلف المنكب، وهي تكون للناس وغيرهم، والكتف من الإبل والخيل والبغال والحمير وغيرها: ما فوق العضد. وقيل: الكتفان أعلى اليدين، والجمع أكتاف. قال سيبويه: لم يجاوزوا به هذا البناء، وحكى اللحياني في جمعه: كتفه. قوله: (فالقى السكين) زاد في الأطعمة عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري: (فألقاها) . و: السكين، على وزن: فعيل، كشريب يذكر ويؤنث. وحكى الكسائي: سكينة، ولعله سمى به لأنه يسكن حركة المذبوح به.
بيان استنباط الأحكام الأول: فيه دلالة على أن أكل ما مسته النار لا يوجب الوضوء، وقد ذكرناه. الثاني: فيه جواز قطع اللحم بالسكين. فإن قلت: ورد النهي عن ذلك في (سنن ابي داود) . قلت: حديث ضعيف، فإذا ثبت خص بعدم الحاجة الداعية إلى ذلك لما فيه من التشبه بالأعاجم وأهل الترف. الثالث: فيه جواز دعاء الأئمة إلى الصلاة، وكان الداعي في الحديث بلالًا، رضي الله عنه. الرابع: فيه قبول الشهادة على النفي محصوراً، مثل هذا أعنى قوله: (ولم يتوضأ) .

51 - (باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ)

أي: هذا باب في بيان حكم من مضمض من أكل السويق ولم يتوضأ. وفي رواية: (لم يتوضأ) يجوز وجهان. أحدهما: إثبات
(3/105)
الهمزة الساكنة، علامة للجزم. والآخر: حذفها. تقول: لم يتوض، كما تقول: لم يخش، بحذف الألف، والأول هو الأشهر. وقال بعض الشارحين: يجوز في: (لم يتوضأ) روايتان. قلت: لا يقال في مثل هذا روايتان، بل يقال: وجهان، أو لغتان، أو طريقان، أو نحو ذلك.

209 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار مولى بني حارثة أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء وهي أدنى خيبر فصلى العصر ثم دعا بالازواد فلم يؤت إلا بالسويق فأمر به فتري فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلنا ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا ثم صلي ولم يتوضأ..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم خمسة: الثلاثة الأول تكرر ذكرهم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وبشير، بضم الباء الموحدة وفتح الشين المعجمة: ابن يسار بفتح، الياء آخر الحروف: كان شيخا كبيرا فقيها فقيها أدرك عامة الصحابة، وسويد بضم السين المهملة وفتح الواو سكون الياء آخر الحروف ابن النعمان، بضم النون: الأنصاري الأوسي المدني من أصحاب بيعة الرضوان، روي له سبعة أحاديث للبخاري منها حديث واحد، وهو هذا الحديث.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع، والإخبار كذلك والعنعنة. ومنها: أن رواته كلهم مدنيون إلا شيخ البخاري. ومنها: أن فيه رواية التابعي عن التابعي، كلاهما من أكابر التابعين. ومنها: أن رواته كلهم أئمة أجلاء فقهاء كبار.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في سبعة مواضع من الكتاب في الطهارة في موضعين، وفي أحدهما عن عبد الله بن يوسف، وفي الآخر عن خالد بن مخلد، وأخرجه في المغازي عن القعنبي عن مالك، وعن محمد بن بشار، وفي الجهاد عن محمد بن المثنى، وفي موضعين في الأطعمة أحدهما: عن علي بن عبد الله، وعن سليمان بن حرب. وأخرجه النسائي في الطهارة عن قتيبة عن الليث، وفي الوليمة عن محمد بن بشار. وأخرجه ابن ماجه فيه أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة.
بيان اللغات والإعراب قوله: (عام خيبر) ، عام: منصوب على الظرفية. و: خيبر، بلدة معروفة بينها وبين المدينة نحو أربع مراحل. وقال ابو عبيد: ثمانية برد، وسميت باسم رجل من العماليق نزلها وكان اسمه خيبر بن فانية بن مهلائل، وكان عثمان، رضي الله تعالى عنه، مصرها، وهي غير منصرف للعلمية والتأنيث، فتحها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال عياض: اختلفوا في فتحها، فقيل: فتحت عنوة، وقيل: صلحا، وقيل: جلا أهلها عنها بغير قتال، وقيل: بعضها صلحا وبعضها عنوة وبعضها جلاء أهلها بغير قتال. قوله: (بالصبهاء) بالمد، موضع على روحة من خيبر، كذا رواه في الأطعمة، وقال البكري: على بريد، على لفظ تأنيث أصهب. قوله: (وهي أدنى خيبر) أي: اسفلها وطرفها جهة المدينة. قوله: (فصلى العصر) ، الفاء: فيه لمحض العطف وليست للجزاء إذ قوله: إذا ليست جزائية بل هي ظرفية. قوله: (بالأزواد) جمع زاد، وهو طعام يتخذ للسفر. قوله: (فأمر به) أي: بالسويق. قوله: (فثرى) بضم الثاء المثلثة، على صيغة المجهول من الماضي، من التثرية، ومعناه: بل، وقد مر معناه عن قريب مستوفى. قوله: (فأكل رسول الله، عليه الصلاة والسلام) أي: منه. قوله: (وأكلنا) زاد في رواية سليمان: (وشربنا) ؛ وفي الجهاد من رواية عبد الوهاب: (فأكلنا وشربنا) . قوله: (فمضمض) اي: قبل الدخول في الصلاة. فإن قلت: ما فائدة المضمضة منه ولا دسم له؟ قلت: يحتبس منه شيء في أثناء الأسنان وجوانب الفم فيشغله تتبعه عن أحوال الصلاة.
بيان استنباط الأحكام الأول: أن فيه استحباب المضمضة بعد الطعام، للمعنى الذي ذكرناه آنفا، وقال بعضهم: استدل به البخاري على جواز صلاتين فأكثر بوضوء واحد. قلت: البخاري لم يضع الباب لذلك، وإن كان يفهم منه ذلك. الثاني: فيه دلالة على عدم وجوب الوضوء مما مسته النار، وقال الخطابي: فيه دليل على أن الوضوء مما مست النار منسوخ لأنه متقدم، وخيبر كانت سنة سبع، وقال بعضهم: لا دلالة فيه لأن أبا هريرة حضر بعد فتح خيبر. قلت: لا يستبعد ذلك، لأن أبا هريرة ربما يروي حديثا عن صحابي كان ذلك قبل أن يسلم فيسنده إلى النبي، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، لأن
(3/106)
الصحابة كلهم عدول. الثالث: فيه دلالة على جمع الرفقاء على الزاد في السفر، لأن الجماعة رحمة وفيهم البركة. الرابع: استدل به الملهب على أن للإمام أن يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة. الخامس: فيه الدلالة على أن على الإمام أن ينظر لأهل العسكر فيجمع الزاد ليصيب منه من ما لا زاد له.

210 - حدثنا أصبغ قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني عمر وعن بكير عن كريب عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفاً ثم صلى ولم يتوضأ..
كان ينبغي أن يذكر هذا الحديث في الباب الذي قبله لمطابقة الترجمة، ولا مطابقة له للترجمة في هذا الباب، وكذا سأل الكرماني بقوله: فإن قلت: هذا الحديث لا يتعلق بالترجمة، ثم أجاب بقوله: قلت: الباب الأول من هذين البابين هو أصل الترجمة، لكن لما كان في الحديث الثالث حكم آخر سوى عدم التوضىء، وهو المضمضة، أدرج بين أحاديثه بابا آخر مترجماً بذلك الحكم، تنبيها على الفائدة التي في ذاك الحديث الزائدة على الأصل، أو هو من قلم الناسخين، لأن النسخة التي عليها خط الفربري هذا الحديث منها في الباب الأول، وليس في هذا الباب إلا الحديث الأول منهما، وهو ظاهر. أقول: هذا بلا شك من النساخ الجهلة، لأن غالب من يستنسخ هذا الكتاب يستعمل ناسخا حسن الخط جدا، وغالب من يكون خطه حسنا لا يخلو عن الجهل، ولو كتب كل فن أهله لقل الغلط والتصحيف، وهذا ظاهر لا يخفى.
بيان رجاله وهم ستة: أصبغ، وعبد الله بن وهب، وعمرو بن الحارث تقدموا قريبا. وبكير، بضم الباء الموحدة مصغرًا: ابن عبد الله الاشج المدني التابعي، وكريب مصغرًا تقدما. وميمونة أم المؤمنين تقدمت في باب السمر بالعلم.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والإخبار بصيغة الإفراد والعنعنة. ومنها: أن النصف الأول مصريون، والنصف الثاني مدنيون. ومنها: أن فيه إسمين مصغرين وهما تابعيان.
بيان من أخرجه غيره أخرجه مسلم في الطهارة عن احمد بن عيسى عن ابن وهب.
بيان المعنى والحكم قوله: (كتفًا) اي: كتف لحم. وفيه عدم الوضوء عند أكل اللحم، أي لحم كان.

(باب هل يمضم من اللبن)
باب، بالسكون: غير معرب، لأن الإعراب يقتضي التركيب، فإن قدر شيء قبله نحو: هذا باب، يكون معرباً على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: (يمضمض) على صيغة المجهول من المضارع، وفي بعض النسخ: (هل يتمضمض) ، وكلمة: هل، للاستفهام على سبيل الاستفسار.

211 - حدثنا يحيى بن بكير وقتيبة قالا حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبناً فمضمض وقال إن له دسماً.
(الحديث 211 طرفه في: 5609) .
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم سبعة تقدم ذكرهم، وبكير بضم الباء، وعقيل بضم العين، وابن شهاب محمد بن مسلم الزهري، وعبد الله بن عبيد الله بتصغير الابن وتكبير الاب، وعتبة بضم العين وسكون الثاء المثناة من فوق.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة. ومنها: أن فيه شيخين للبخاري وهما: ابن بكير وقتيبة بن سعيد، كلاهما يرويان عن الليث بن سعد، وهذا أحد الأحاديث التي أخرجها الأئمة الستة غير ابن ماجه عن شيخ واحد وهو قتيبة. ومنها: أن رواته ما بين مصري وهو يحيى بن عبد الله بن بكير، والليث وعقيل، وبلخي وهو قتيبة ومدني وهو ابن شهاب وعبيد الله.
بيان من أخرجه غيره أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في الطهارة عن قتيبة به. وأخرجه مسلم أيضا عن زهير بن حرب وعن حرملة بن يحيى، وعن أحمد بن عيسى. وأخرجه ابن ماجه فيه عن دحيم
(3/107)
عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي به.
بيان المعنى والحكم قوله: (دسماً) منصوب لأنه إسم: إن، وقدم عليه خبره. و: الدسم، بفتحتين: الشيء الذي يظهر على اللبن من الدهن. وقال الزمخشري: هو من دسم المطر الأرض إذا لم يبلغ أن يبل الثرى، و: الدسم، بضم الدال وسكون السين: الشيء القليل.
وأما الحكم ففيه دلالة على استحباب تنظيف الفم من أثر اللبن ونحوه. ويستنبط منه أيضا استحباب تنظيف اليدين.
تابعه يونس وصالح بن كيسان عن الزهري
أي: تابع عقيلاً يونس بن يزيد. وقوله: (يونس) فاعل: (تابع) ، والضمير يرجع إلى: عقيل، رضي الله تعالى عنه، لأنه هو الذي يرويه عن محمد بن مسلم الزهري، ووصله مسلم عن حرملة عن ابن وهب، حدثنا يونس عن ابن شهاب به. قوله: (وصالح بن كيسان) اي: تابع عقيلاً أيضا صالح بن كيسان، ووصله أبو العباس السراج في (مسنده) وتابعه أيضا الأوزاعي. أخرجه البخاري في الأطعمة عن أبي عاصم عنه بلفظ حديث الباب. ورواه ابن ماجه من طريق الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي، فذكره بصيغة الأمر: (مضمضوا من اللبن) الحديث. وكذا رواه الطبراني من طريق أخرى عن الليث بالإسناد المذكور. وأخرج ابن ماجه من حديث أم سلمة وسهل بن سعد مثله. وإسناد كل منهما حسن. وفي (التهذيب) لابن جرير الطبري: هذا خبر عندنا صحيح وإن كان عند غيرنا فيه نظر لاضطراب ناقليه في سنده، فمن قائل: عن الزهري عن ابن عباس، من غير إدخال: عبيد الله، بينهما؛ ومن قائل: عن الزهري عن عبيد الله أن النبي، عليه الصلاة والسلام، من غير ذكر: ابن عباس.
وبعد فليس في مضمضته، عليه الصلاة والسلام، وجوب مضمضة ولا وضوء على من شربه، إذا كانت أفعاله غير لازمة العمل بها لأمته، إذا لم تكن بيانا عن حكم فرض في التنزيل. وقال صاحب (التلويح) وفيه نظر من حيث إن ابن ماجه رواه عن عبد الرحمن بن إبراهيم: حدثنا الوليد بن مسلم ... الحديث ذكرناه الآن. وفي حديث موسى بن يعقوب عنده ايضاً، وهو بسند صحيح، قال: حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه عن أم سلمة مرفوعا: (إذا شربتم اللبن فمضمضوا فإن له دسماً) ، وعنده أيضا من حديث عبد المهين بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مضمضوا من اللبن فإن له دسما) . وعند ابن أبي حاتم في (كتاب العلل) من حديث أنس: (هاتوا ماء، فمضمض به) . وفي حديث جابر رضي الله عنه من عند ابن شاهين: (فمضمض من دسمه) . وقال الشيخ أبو جعفر البغدادي: الذي رواه أبو داود بسند لا بأس به عن عثمان بن أبي شيبة عن زيد بن حباب عن مطيع بن راشد عن توبة العنبري، سمع أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (شرب لبنًا فلم يمضمض ولم يتوضأ وصلى) ، يدل على نسخ المضمضة. وقال صاحب (التلويح) : يخدش فيه ما رواه أحمد بن منيع في (مسنده) بسند صحيح: حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن ابن سيرين عن أنس، رضي الله تعالى عنه: (أنه كان يمضمض من اللبن ثلاثًا) ، فلو كان منسوخا لما فعله بعد النبي، عليه الصلاة والسلام قلت: لا يلزم من فعله هذا، والصواب في هذا أن الأحاديث التي فيها الأمر بالمضمضة أمر استحباب لا وجوب، والدليل على ذلك ما رواه أبو داود المذكور آنفا، وما رواه الشافعي، رحمه الله تعالى، بإسناد حسن عن أنس: (أن النبي، صلى الله عليه وسلم، شرب لبنًا فلم يتمضمض ولم يتوضأ) . فإن قلت: ادعى ابن شاهين أن حديث أنس ناسخ لحديث ابن عباس. قلت: لم يقل به أحد، ومن قال فيه بالوجوب حتى يحتاج إلى دعوى النسخ؟ .

53 - (باب الوضوء من النوم)

أي: هذا باب في بيان الوضوء من النوم. هل يجب أو يستحب؟
والمناسبة بين هذا الباب وبين الباب الذي قبله من حيث إن كلا منهما مشتمل على حكم من أحكام الوضوء.
ومن لم ير من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءًا
(3/108)
هذا عطف على ما قبله، والتقدير: وباب من لم ير من النعسة ... إلى آخره، والنعسة: على وزن فعلة: مرة من النعس، من باب: نعس، بفتح العين، ينعس: بضمها من باب: نصر ينصر؛ ومن قال: نعس، بضم العين فقد أخطأ. وفي (الموعب) : وبعض بني عامر يقول: ينعس، بفتح العين. يقال: نعس ينعس نعساً ونعاساً فهو ناعس ونعسان. وامرأة نعسى. وقال ابن السكيت وثعلب: لا يقال: نعسان، وحكى الزجاج عن الفراء أنه قال: قد سمعت: نعسان، من أعرابي من عنزة، قال: ولكن لا أشتهيه. وعن صاحب (العين) أنه قال: وسمعناهم يقولون: نعسان ونعسى، حملوه على: وسنان ووسنى. وفي (المحكم) : النعاس النوم. وقيل: ثقلته، وامرأة نعسانة وناعسة ونعوس، وفي (الصحاح) و (المجمل) : النعاس: الوسن. وقال كراع: وسنان أي: ناعس، والسنة، بكسر السين، أصلها: وسنة، مثل: عدة أصلها وعدة، حذفت الواو تبعا لحذفها في مضارعه، ونقلت فتحتها إلى عين الفعل: وزنها علة. قوله: (والنعستين) تثنية نعسة. قوله: (او الخفقة) عطف على قوله: (النعسة) وهو أيضا على وزن فعلة: مرة، من الخفق، يقال: خفق الرجل، بفتح الفاء، يخفق خفقاً إذا حرك رأسه وهو ناعس؛ وفي (الغريبين) : معنى تخفق رؤوسهم: تسقط أذقانهم على صدورهم. وقال ابن الأثير: خفق إذا نعس، والخفوق الاضطراب، وخفق الليل إذا ذهب. وقال ابن التين: الخفقة النعسة، وإنما كرر لاختلاف اللفظ، وقال بعضهم: الظاهر أنه من ذكر الخاص بعد العام قلت: على قول ابن التين بين النعس والخفقة مساواة، وعلى قول بعضهم: عموم وخصوص بمعنى أن كل خفقة نعسة، وليس كل نعسة خفقة، ويدل عليه ما قال أهل اللغة: خفق رأسه إذا حركها وهو ناعس. وقال ابو زيد: خفق برأسه من النعاس: أماله، ومنه قول الهروي في (الغريبين) : تخفق رؤوسهم، كما ذكرناه، وفيه: الخفق مع النعاس. وقوله: هذا من حديث أخرجه محمد بن نصر في قيام الليل بإسناد صحيح عن أنس، رضي الله تعالى عنه: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون الصلاة فينغسون حتى تخفق رؤوسهم، ثم يقومون الى الصلاة) . وقال بعضهم: ظاهر كلام البخاري: النعاس يسمى نوماً، والمشهور التفرقة بينهما، أن من فترت حواسه بحيث يسمع كلام جليسه ولا يفهم معناه فهو ناعس، وإن زاد على ذلك فهو نائم، ومن علامات النوم الرؤيا، طالت أو قصرت. قلت: لا نسلم أن ظاهر كلام البخاري يدل على عدم التفرقة، فإنه عطف قوله: (ومن لم ير من النعسة) إلى آخره على قوله: (النوم والنعس) في قوله: (باب النوم) .
والتحقيق في هذا المقام أن معنا ثلاثة أشياء: النوم والنعسة والخفقة. أما النوم: فمن قال: إن نفس النوم حدث يقول بوجوب الوضوء من النعاس، ومن قال: إن نفس النوم ليس بحدث لا يقول بوجوب الوضوء على الناعس؛ وأما الخفقة: فقد روي عن ابن عباس أنه قال: وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق خفقة. فالبخاري أشار إلى هذه الثلاثة، فأشار إلى النوم بقوله: (باب النوم) . والنوم فيه تفصيل كما نذكره عن قريب، وأشار بقوله: (النعسة والنعستين) إلى القول بعدم وجوب الوضوء في النعسة والنعستين، ويفهم من هذا أن النعسة إذا زادت على النعستين وجب الوضوء، لأنه يكون حينئذ نائما مستغرقا، وأشار إلى من يقول بعدم وجوب الوضوء على من يخفق خفقة واحدة، كما روى عن ابن عباس بقوله: (او الخفقة) ، ويفهم من هذا أن الخفقة إذا زادت على الواحدة يجب الوضوء، ولهذا قيد ابن عباس الخفقة بالواحدة.
واما النوم ففيه أقوال. الأول: إن النوم لا ينقض الوضوء بحال، وهو محكي عن أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب، وأبي مجلز وحميد بن عبد الرحمن والأعرج، وقال ابن حزم: وإليه ذهب الأوزاعي، وهو قول صحيح عن جماعة من الصحابة وغيرهم، منهم: ابن عمر ومكحول وعبيدة السلماني. الثاني: النوم ينقض الوضوء على كل حال وهو مذهب الحسن والمزني وابي عبد الله القاسم بن سلام وإسحاق بن راهويه، قال ابن المنذر: وهو قول غريب عن الشافعي، قال: وبه أقول. قال: وروي معناه عن ابن عباس وأنس وأبي هريرة، وقال ابن حزم: النوم في ذاته حدث ينقض الوضوء، سواء قل أو كثر، قاعدا أو قائما في صلاة أو غيرها أو راكعا أو ساجدا أو متكئا أو مضطجعا، أيقن من حواليه أنه لم يحدث أو لم يوقنوا. الثالث: كثير النوم ينقض وقليله لا ينقض بكل حال، قال ابن المنذر: وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين، وعند الترمذي: وقال بعضهم: إذا نام حتى غلب على عقله وجب عليه الوضوء، وبه يقول إسحاق. الرابع: إذا نام على هيئة من هيئات المصلي: كالراكع والساجد والقائم والقاعد، لا ينقض وضوءه، سواء كان في الصلاة أو لم يكن، فإن نام مضطجعا أو مستلقيا على قفاه انتقض، وهو قول أبي حنيفة وداود، وقول غريب للشافعي، وقاله أيضا حماد بن أبي سليمان
(3/109)
وسفيان. الخامس: لا يقنقص إلا نوم الراكع، وهو قول عن أحمد ذكره ابن التين. السادس: لا ينقض إلا نوم الساجد، روي أيضا عن أحمد. السابع: من نام ساجدا في مصلاه فليس عليه وضوء. وإن نام ساجدا في غير صلاة توضأ، وإن تعمد النوم في الصلاة فعليه الوضوء، وهو قول ابن المبارك. الثامن: لا ينقض النوم الوضوء في الصلاة، وينقض خارج الصلاة، وهو قول الشافعي. التاسع: إذا نام جالسا ممكنا مقعدته من الأرض لم ينقض، سواء قل أو كثر، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، وهذا مذهب الشافعي، رحمه الله تعالى؛ وقال أبو بكر بن العربي: تتبع علماؤنا مسائل النوم المتعلقة بالأحاديث الجامعة لتعارضها، فوجدوها أحد عشر حالا: ماشيا، وقائمًا، ومستنداً، وراكعاً، وقاعدا متربعاً، ومحتبياً، ومتكئاً، وراكباً، وساجداً، ومضطجعاً، ومستقراً. وهذا في حقنا، فأما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن خصائصه أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم، مضطجعا ولا غير مضطجع.

212 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فان أحدكم إذ صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه.
مطابقة هذا الحديث والذي بعده للترجمة تفهم من معنى الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أوجب قطع الصلاة، وأمر بالرقاد دل ذلك على أنه كان مستغرقا في النوم، فإنه علل ذلك بقوله: (فان أحدكم) الخ، وفهم من ذلك أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك، ولم يغلب عليه فإنه معفو عنه، ولا وضوء فيه: وأشار البخاري إلى ذلك بقوله: (ومن لم من النعسة) الخ، ولا غلبة في النعسة والنعستين، فإذا زادت يغلب عليه النوم فينتقض وضوؤه، كما ذكرنا، وكذلك لا غلبة في الخفقة الواحدة كما أشرنا إليه عن قريب، وقال ابن المنير: فان قلت: كيف مخرج الترجمة من الحديث ومضمونها أن لا يتوضأ من النعاس الخفيف، ومضمون الحديث النهي عن الصلاة مع النعاس؟ قلت: إما أن يكون البخاري تلقاها من مفهوم تعليل النهي عن الصلاة حينئذ بذهاب العقل المؤدي إلى أن ينعكس الأمر: (يريد أن يدعو فيسب نفسه) ، فإنه دل أنه إن لم يبلغ هذا المبلغ صلى به، وإما أن يكون تلقاها من كونه إذا بدأ به النعاس، وهو في النافلة اقتصر على إتمام ما هو فيه ولم يستأنف أخرى، فتماديه على ما كان فيه يدل على أن النعاس اليسير لا ينافي الطهارة، وليس بصريح في الحديث، بل يحتمل قطع الصلاة التي هو فيها، ويحتمل النهي عن استئناف شيء آخر، والأول أظهر.
بيان رجاله وهم خمسة ذكروا كلهم غير مرة، وهشام هو ابن عروة يروي عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام عن عائشة، رضي الله عنها. وفي رواية الأصيلي صرح بذكر عروة، والرواة كلهم مدنيون غير شيخ البخاري.
بيان من أخرجه غيره أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن قتيبة عن مالك. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي عن مالك.
بيان المعنى والإعراب قوله: (وهو يصلي) جملة إسمية وقعت حالا. قوله: (فليرقد) أي: فلينم، وللنسائي من طريق أيوب عن هشام: (فلينصرف) ، والمراد به الخروج من الصلاة بالتسليم، فان قلت: فقد جاء في حديث ابن عباس، في نومه في بيت ميمونة رضي الله عنها: (فجعلت إذا غفيت يأخذ بشحمتي أذني) ، ولم يأمره بالنوم. قلت: لأنه جاء تلك الليلة ليتعلم منه ففعل ذلك ليكون أثبت له. فان قلت: الشرط هو سبب للجزاء، فههنا النعاس سبب للنوم أو للأمر بالنوم؟ قلت: مثله محتمل للأمرين، كما يقال في نحو: اضربه تاديباً، لأن التأديب مفعول له، إما للأمر بالضرب وإما للمأمور به، والظاهر الأول. قوله: (وهو ناعس) جملة اسمية وقعت حالا. فإن قلت: ما الفائدة في تغيير الأسلوب حيث قال: ثمة وهو يصلي، بلفظ الفعل، وههنا: وهو ناعس، بلفظ إسم الفاعل؟ قلت: ليدل على أنه لا يكفي تجدد أدنى نعاس وتقضيه في الحال، بل لا بد من ثبوته بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول. وعدم علمه بما يقرأ. فإن قلت: هل فرق بين نعس وهو يصلي، وصلى وهو ناعس؟ قلت: الفرق الذي بين ضرب قائما، وقام ضاربًا، وهو احتمال القيام بدون الضرب في الأول، واحتمال الضرب بدون القيام في الثاني. وإنما اختار ذلك ثمة وهذا هنا لأن الحال قيد وفضلة، والأصل في الكلام هو ماله القيد، ففي الأول: لا شك أن النعاس هو علة الأمر بالرقاد لا الصلاة فهو
(3/110)
المقصود الأصلي في التركيب، وفي الثاني: الصلاة علة للاستغفار، إذ تقدير الكلام: فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس يستغفر. وقوله: (لا يدري) وقع موقع الجزاء إذا كانت كلمة: إذا، شرطية. وإن لم تكن شرطية يكون خبرا: لان، فافهم. قوله: (لعله يستغفر) أي: يريد الاستغفار، (فيسب) يعني: يدعو على نفسه، وصرح به النسائي في رواية من طريق أيوب عن هشام؛ وفي بعض النسخ: (يسب) ، بدون الفاء. فإن قلت: ما الفرق بينهما؟ قلت: بدون الفاء تكون الجملة حالا، وبالفاء عطفا على: (يستغفر) ؛ ويجوز في: (يسب) الرفع والنصب، أما الرفع فباعتبار عطف الفعل على الفعل، وأما النصب فباعتبار أنه جواب لكلمة: لعل، التي للترجي، فإنها مثل: ليت. فإن قلت: كيف يصح ههنا معنى الترجي؟ قلت: الترجي فيه عائد إلى المصلي لا إلى المتكلم به، أي: لا يدري أمستغفر أم ساب مترجياً للاسغفار، فهو في الواقع بضد ذلك. أو استعمل بمعنى التمكن بين الاستغفار والسب، لأن الترجى بين حصول المرجو وعدمه، فمعناه: لا يدري أيستغفر أم يسب؟ وهو متمكن منهما على السوية.
بيان استنباط الأحكام الأول: أن فيه الأمر بقطع الصلاة عند غلبة النوم عليه، وأن وضوءه ينتقض حينئذ. الثاني: أن النعاس إذا كان أقل من ذلك يعفى عنه، فلا ينتقض وضوؤه، وقد أجمعوا على أن النوم القليل لا ينقض الوضوء، وخالف فيه المزني فقال: ينقض قليله وكثيره، لما ذكرنا. وقال المهلب وابن بطال وابن التين وغيرهم: إن المزني خرق الإجماع. قلت: هذا تحامل منهم عليه، لأن الذي قاله نقل عن بعض الصحابة التابعين، وقد ذكرناه عن قريب، إن شاء الله تعالى. الثالث: فيه الأخذ بالاحتياط لأنه علل بأمر محتمل. الرابع: فيه الدعاء في الصلاة من غير تعيين بشيء من الأدعية. الخامس: فيه الحث على الخشوع وحضور القلب في العبادة، وذلك لأن الناعس لا يحضر قلبه، والخشوع إنما يكون بحضور القلب.

213 - حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ.
وجه المطابقة للترجمة قد ذكرناه
بيان رجاله وهم خمسة: الأول: أبو معمر، بفتح الميمين: هو عبد الله بن عمرو المشهور بالمقعد، تقدم ذكره في باب قول النبي، عليه الصلاة والسلام: (اللهم علمه الكتاب) . الثاني: عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان التنوري، تقدم في الباب المذكور. الثالث: أيوب السختياني، سبق ذكره في باب حلاوة الإيمان. الرابع: أبو قلابة، بكسر القاف وتخفيف اللام: واسمه عبد الله بن زيد الحرمي، سبق ذكره في الباب المذكور. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة. ومنها: أن رواته كلهم بصريون. ومنها: أن فيه رواية التابعي عن التابعي، وهما: أيوب وأبو قلابة، رحمهما الله تعالى.
بيان من أخرجه غيره أخرجه النسائي أيضا في الطهارة عن يعقوب بن إبراهيم عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن أيوب.
بيان المعنى والإعراب قوله: (إذا نعس أحدكم) ليس في بعض النسخ لفظ: احدكم، بل الموجود: إذا نعس، فقط اي: إذا نعس المصلي، وحذف فاعله للعلم به بقرينة ذكر الصلاة، وقد جاء في رواية الإسماعيلي: (إذا نعس احدكم) ، وفي (مسند) محمد بن نصر من طريق وهيب عن أيوب: (فلينصرف) . قوله: (فلينم) قال المهلب: إنما هذا في صلاة الليل، لأن الفريضة ليست في أوقات النوم، ولا فيها من التطويل ما يوجب ذلك. قلنا: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. قوله: (في الصلاة) وفي بعض النسخ ليس فيه ذكر الصلاة. قوله: (حتى يعلم) بالنصب لا غير، وقال الكرماني: قيل معنى: (فلينم) ؛ فليتجوز في الصلاة ويتمها وينام. قوله: (ما يقرأ) كلمة: ما، موصولة، والعائد المفعول محذوف، والتقدير: ما يقرؤه، ويحتمل أن تكون استفهامية. وقال الإسماعيلي: في هذا الحديث اضطراب، لأن حماد بن زيد رواه فوقفه، وقال فيه: قرىء علي كتاب عن أبي قلابة، فعرفته. ورواه عبد الوهاب الثقفي عن أيوب فلم يذكر أنسا. وأجيب: بأن هذا لا يوجب الاضطراب، لأن رواية عبد الوارث أرجح بموافقة وهيب والطفاوي له عن أيوب. قوله: (قرىء على) لا يدل على أنه لم يسمعه من أبي قلابة، بل يحمل على أنه عرف أنه فيما سمعه من أبي قلابة.
بيان استنباط الأحكام الأول: أن فيه الأمر بقطع الصلاة عند غلبة النوم. الثاني: أن قليل النوم معفو كما ذكرنا
(3/111)
في الحديث السابق، لأن ذلك يوضح معنى هذا. الثالث: فيه الحث على الخضوع والخشوع، وذلك بطريق الالتزام.

54 - (باب الوضوء من غير حدث)

أي: هذا باب في بيان حكم الوضوء من غير حدث، والمراد به وضوء المتوضىء يعني: يكون على ظهرة ثم يتطهر ثانيًا من غير حدث بينهما.
والمناسبة بين البابين ظاهرة، لكون كل منهما من تعلقات الوضوء.

214 - حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن عمرو بن عامر قال سمعت أنساً ح قال وحدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثنى عمرو بن عامر عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قلت كيف كنتم تصنعون قال يجزيء أحدنا الوضوء ما لم يحدث.
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم ستة؛ وللحديث إسناد ان: أحدهما عن محمد بن يوسف الفريابي مر في باب: لا يمسك ذكره بيمينه، عن سفيان الثوري تقدم في باب علامة المنافق عن عمرو، بالواو، ابن عامر الأنصاري الثقة الصالح، روى له الجماعة عن أنس بن مالك. والآخر عن مسدد بن مسرهد، تكرر ذكره عن يحيى القطان، مر ذكره، وهذا تحويل من إسناد إلى إسناد آخر، وفي بعض النسخ بعد قوله: سمعت أنسا صورة: ح، وهو إشارة إلى التحويل، أو إلى الحائل أو إلى: صح، أو إلى الحديث، وقد مر تحقيقه.
بيان لطائف اسناده منها: أن في الإسناد الأول التحديث بصيغة الجمع والعنعنة والسماع. وفي الثاني: التحديث بصيغة الجمع والتحديث بصيغة الإفراد والعنعنة. ومنها: أن في الإسناد الأول: بين البخاري وبين سفيان رجل. وفي الثاني: بينهما رجلان. ومنها: أن في الإسناد الثاني: صرح بسماع سفيان عن عمرو حيث قال: حدثني عمر، وفي الاول: قال عن عمرو، وسفيان من المدلسين، والمدلس لا يحتج بعنعنته إلا أن يثبت سماعه من طريق آخر. ومنها: أن رواته ما بين فريابي وكوفي وبصري. ومنها: أن الإسناد الأول عال، والثاني نازل، وذلك بكون سفيان الثوري أتى بالحديث عن عمرو، وإنما قلنا: إنه هو الثوري لأنا لم نجد لسفيان بن عيينة عن عمر رواية.
بيان من أخرجه غيره أخرجه الترمذي في الطهارة عن ابن بشار عن يحيى وعبد الرحمن، كلاهما عن سفيان به، وقال: صحيح. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد عن شعبة عنه بمعناه. وأخرجه ابن ماجه فيه عن سويد ابن سعيد عن شريك نحوه. وأخرجه الترمذي من حديث سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن حميد عن أنس: (ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر. قال: قلت لأنس: كيف كنتم تصنعون) ؟ الحديث، وقال: حديث حميد عن أنس غريب من هذا الوجه، والمشهور عند أهل العلم حديث عمرو، وفي (العلل) قال الترمذي: سألت محمدًا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: لا ادري ما سلمة هذا؟ ولم يعرف محمد هذا من حديث حميد.
بيان المعنى والإعراب قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ) هذه العبارة تدل على أنه كان عادة له. قوله: (عند كل صلاة) أراد بها الصلاة المفروضة من الأوقات الخمسة. قوله: (قلت كيف تصنعون) ؟ الحديث. القائل عمرو بن عامر، والخطاب للصحابة، رضي الله عنهم، وكلمة: كيف، يسأل بها عن الحال. قوله: (يجزىء) ، بضم الياء آخر الحروف، أي: يكفي من أجزأني الشيء أي: كفاني، وفي رواية الإسماعيلي: يكتفى، وفاعله الوضوء بالرفع. قوله: (أحدنا) منصوب لأنه مفعول يجزىء.
بيان استنباط الأحكام الأول: اختلفوا في هذا الباب، فذهبت طائفة من الظاهرية والشيعة إلى وجوب الوضوء لكل صلاة في حق المقيمين دون المسافرين، واحتجوا في ذلك بحديث بريدة بن الحصيب؛ (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد) . أخرجه الطحاوي وابن أبي شيبة وابو يعلى، وأخرجه مسلم وأبو داود عنه، قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد.
(3/112)
.) ، الحديث، وذهبت طائفة، الى أن الوضوء واجب لكل صلاة مطلقًا من غير حدث، وروي ذلك عن ابن عمر وأبي موسى وجابر أن عبد الله، وعبيدة السلماني، وأبي العالية، وسعيد بن المسيب وابراهيم والحسن.
وحكى ابن حزم في (كتاب الإجماع) هذا المذهب عن عمرو بن عبيد، قال: وروينا عن إبراهيم النخعي أنه لا يصلي بوضوء واحد أكثر من خمس صلوات، ومذهب أكثر العلماء من الأئمة الأربعة، وأكثر أصحاب الحديث وغيرهم: أن الوضوء لا يجب إلا من حدث. وقالوا: لأن آية الوضوء نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة، لأن معنى قوله تعالى: {إذا قمتم الى الصلاة} (المائدة: 6) إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون، واستدل الدارمي على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء إلا من حدث) . وحكى الشافعي عمن لقيه من أهل العلم أن التقدير: إذا قمتم من النوم. فإن قلت: ظاهر الآية يقتضي التكرار، لأن الحكم المذكور وهو قوله: {فاغسلوا} (المائدة: 6) معلق بالشرط، وهو {إذا قمتم الى الصلاة} (المائدة: 6) فيقتضي تكرار الحكم عند تكرار الشرط، كما هو القاعدة عندهم. قلت: المسألة مختلف فيها، والأكثرون على أنه لا يقتضيه لفظا. وقال الزمخشري، رحمه الله تعالى: فإن قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة، محدث وغير محدث، فما وجهه؟ قلت: يحتمل أن يكون الأمر للوجوب، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة. وأن يكون للندب. فان قلت: هل يجوز أن يكون الامر شاملًا للمحدثين وغيرهم، لهؤلاء على وجه الإيجاب ولهؤلاء على وجه الندب؟ قلت: لا، لأن تناول الكلمة الواحدة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والعمية. وقال الطحاوي، رحمه الله تعالى: قد يجوز أن يكون وضوؤه، عليه الصلاة والسلام، لكل صلاة على ما روى بريدة، كان ذلك على التماس الفضل لا على الوجوب، والدليل على ذلك ما رواه الطحاوي وابن أبي شيبة من حديث أبي عطيف الهذلي، قال: (صليت مع عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما، الظهر فانصرف في مجلس في داره، فانصرفت معه حتى إذا نودي بالعصر دعا بوضؤ فتوضأ، فقلت له: أي شيء هذا يا ابا عبد الرحمن الوضوء عند كل صلاة؟ فقال: وقد فطنت لهذا مني، ليست بسنة، إن كان لكافياً وضوئي لصلاة الصبح وصلواتي كلها ما لم أحدث، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ على طهر كتب الله له بذلك عشر حسنات، ففي ذلك رغبت يا ابن أخي) .
وقال الطحاوي: وقد روي عن أنس بن مالك ما يدل على ما ذكرنا، يعني اكتفاء المصلي بوضوء واحد لصلوات كثيرة ما لم يحدث، وذلك لأنه قد علم حكم ما ذكرنا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ير ذلك فرضا، بل كان ذلك لإصابة الفضل، وإلا لما كان وسعه، ولا لغيره، أن يخالفوه. وقال الطحاوي أيضا: ويجوز أن يكون ذلك فرضا أولا ثم نسخ، ثم استدل على ذلك بحديث أسماء ابنة زيد بن الخطاب ابن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة فهذا دل على النسخ.
وفي رواية ابن خزيمة في (صحيحه) : فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. ويقال في الجواب: يحتمل أن يكون ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن شاهين: لم يبلغنا أن أحدا من الصحابة والتابعين كانوا يتعمدون الوضوء لكل صلاة إلا ابن عمر، وفيه نظر، لأنه روى ابن ابي شيبة. حدثنا وكيع عن ابن عون عن ابن سيرين: كان الحلفاء يتوضؤون لكل صلاة. وفي لفظ: كان أبو بكر وعمر وعثمان يتوضؤون لكل صلاة. وقال بعضهم: يمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ، ويكون الأمر في حق المحدثين على الوجوب، وفي حق غيرهم للندب. قلت: هذا لا يصح لما ذكرنا عن قريب أنه على هذا يكون من باب الإلغاز، فلا يجوز.
الثاني من الاحكام: فيه دلالة على فضيلة الوضوء لكل صلاة وحدها.
الثالث: يجوز الاكتفاء بوضوء واحد ما لم يحدث.
الرابع: فيه دلالة على وجوب الوضوء عند الحدث لمن يريد الصلاة.

215 - حدثنا خالد بن مخلد قال حدثنا سليمان قال حدثنا يحيى ابن سعيد قال أخبرني بشير بن يسار قال أخبرني سويد بن النعمان قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كنا بالصهباء صلي لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فلما صلى دعا بالاطعمة فلم يوتإلا بالسويق فأكلنا وشربنا ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب فمضمض
(3/113)
ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ..
هذا الحديث قد تقدم في باب: من مضمض من السويق ولم يتوضأ عن قريب، وتكلمنا هناك بما يتعلق به، وههنا ذكره ثانيًا لفوائد. منها: أن هناك رواه عن عبد الله بن يوسف بالتحديث عن مالك بالإخبار عن يحيى بن سعيد بالعنعنة، وههنا روي عن خالد بن مخلد بالتحديث بصيغة الجمع عن سليمان بن بلال بالتحديث بصيغة الجمع عن يحيى بن سعيد بالتحديث بصيغة الإفراد صريحًا منه ومن شيخه بالإخبار بصيغة الإفراد، وعن شيخ شيخه بالإخبار بصيغة الجمع. ومنها: أن هناك قال: عن بشير بن يسار، مولى بني حارثة، أن سويد بن النعمان أخبره، بالإخبار بصيغة الإفراد، وههنا: أخبرني بشير بن يسار، قال: أخبرنا سويد بن النعمان، بصيغة الجمع. وهناك: أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وههنا: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهناك: عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء. وهي ادنى خيبر، وههنا: حتى إذا كنا بالصبهاء، ولم يقل: وهي أدني خيبر. وهناك: فصلى العصر، وههنا: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر. وهناك: ثم دعا بالأزواد، وههنا: فلما صلى دعا بالأطعمة. وهناك بعد قوله: فلم يؤت إلا بالسويق فأمر به فثرى فاكل رسول الله صلى الله عليه وسلم واكلنا، وههنا: فلم يؤت إلا بالسويق فاكلنا وشربنا. وهناك: ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا ثم صلى ولم يتوضأ، وههنا: فمضمض ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ.
واعلم أنه ليس للبخاري حديث لسويد بن النعمان إلا هذا الحديث الواحد. وقد أخرجه في مواضع كما ذكرناه، وهو أنصاري حارثي، شهد بيعة الرضوان، وذكر ابن سعد أنه شهد قبل ذلك أحدا وما بعدها، والله اعلم.

55 - (باب)

باب بالسكون، لأن الإعراب لا يكون إلا بالعقد والتركيب، اللهم إلا إذا قدر شيء فيكون حينئذ معرباً نحو ما تقول: هذا باب، لأنه حينئذ يكون خبر مبتدأ. وقال بعضهم: باب، بالتنوين هو غلط.
والمناسبة بين البابين من حيث إن في الباب الأول ذكر الوضوء من غير حدث، وله فضل كبير إذا كان المتوضىء محترزاً عن إصابة البول بدنه أو ثوبه، وفي هذا الباب يذكر الوعيد في حق من لا يحترز منه.
من الكبائر أن لا يستتر من بوله

كلمة: أن، مصدرية في محل الرفع على الابتداء. قوله: (من الكبائر) ، مقدما خبره، والتقدير: ترك استتار الرجل من بوله من الكبائر، وهو جمع: كبيرة، وهي: الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعا، العظيم أمرها: كالقتل والزنا والفرار من الزحف وغير ذلك، وهي من الصفات الغالبة، يعني: صار إسما لهذه الفعلة القيبحة. وفي الأصل هي صفة، والتقدير: الفعلة الكبيرة. واختلفوا في الكبائر فقيل: سبع، وهو ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، فقيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الاشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) . وقيل: الكبائر تسع، وروى الحاكم في حديث طويل: (والكبائر تسع) فذكر السبعة المذكورة، وزاد عليها: (عقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام) . وقيل: الكبيرة كل معصية. وقيل: كل معصية. وقيل: كل ذنب قرن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، وقال رجل لابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبعمائة. قلت: الكبيرة أمر نسبي، فكل ذنب فوقه ذنب فهو بالنسبة إليه صغيرة، وبالنسبة إلى ما تحته كبيرة.

216 - حدثنا عثمان قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال بلى كان أحدهما
(3/114)
لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرةً له يا رسول الله لم فعلت هذا قال صلى الله عليه وسلم لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا أو أن ييبسا..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لا تخفي.
بيان رجاله وهم خمسة. الأول: عثمان بن أبي شيبة الكوفي. الثاني: جرير ابن عبد الحميد. الثالث: منصور بن المعتمر، الثلاثة تقدموا في باب: من جعل لأهل العلم أيامًا. الرابع: مجاهد بن جبر، بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة: الإمام في التفسير، تقدم في أول كتاب الإيمان. الخامس: عبد الله بن عباس.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع والعنعنة. ومنها: أن رواته ما بين كوفي ورازي ومكي. ومنها: أن هذا الحديث رواه الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس، فادخل بينه وبين ابن عباس طاوساً، لما يأتي عن قريب أن البخاري أخرجه هكذا، وإخراج البخاري بهذين الوجهين يقتضي أن كليهما صحيح عنده، فيحمل على أن مجاهدًا سمعه من طاوس عن ابن عباس، وسمعه أيضا من ابن عباس بلا واسطة. أو العكس، ويؤيد ذلك أن في سياق: مجاهد عن طاوس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس، وصرح ابن حبان بصحة الطريقين معًا، وقال الترمذي: رواية الأعمش أصح. وقال الترمذي في (العلل) : سألت محمدًا: أيهما أصح؟ فقال: رواية الأعمش أصح، فإن قيل: إذا كان حديث الأعمش أصح فلم لم يخرجه وخرج الذي غير صحيح؟ قيل له: كلاهما صحيح؟ قيل له: كلاهما صحيح، فحديث الأعمش أصح، فالأصح يستلزم الصحيح على ما لا يخفى، ويؤيده أن شعبة بن الحجاج رواه عن الأعمش كما رواه منصور ولم يذكر طاوساً.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه الأئمة الستة وغيرهم، والبخاري أخرجه في مواضع هنا عن عثمان، وفي الطهارة أيضا عن محمد بن المثنى في موضعين، وفي الجنائز عن يحيى بن يحيى، وفي الأدب عن يحيى، وعن محمد بن سلام، وفي الجنائز أيضا عن قتيبة، وفي الحج عن علي. وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي سعيد الأشج، وأبي كريب، وإسحاق ابن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيع به، وعن أحمد بن يوسف. وأخرجه أبو داود فيه عن زهير بن حرب، وهناد بن السري، كلاهما عن وكيع به. وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة وهناد وأبي كريب، ثلاثتهم عن وكيع به. وأخرجه النسائي فيه، وفي التفسير عن هناد عن وكيع به، وفي الجنائز عن هناد عن معاوية به. وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية ووكيع به.
بيان لغاته قوله: (بحائط) أي: بستان من النخل إذا كان عليه جدار، ويجمع على: حيطان وحوائط، وأصله: حاوط بالواو، قلبت الواو: ياء، لأنه من الحوط، وهو الحفظ والحراسة، والبستان إذا عمل حواليه جدران يحفظ من الداخل، ولا يسمى البستان حائطا إلا إذا كان عليه جدران. فان قلت: أخرج البخاري في هذا الأدب، ولفظه: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة) ، وهنا: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط) . وبينهما تناف. قلت: معناه أن الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مر به، وفي (أفراد) الدارقطني من حديث جابر: أن الحائط كانت لأم مبشر الأنصارية. قوله: (أو مكة) الشك من جرير بن عبد الحميد. وأخرجه البخاري في الأدب: (من حيطان المدينة) ، بالجزم من غير شك، ويؤيده رواية الدارقطني، لأن حائط أم مبشر كان بالمدينة، وإنما عرف: المدينة، ولم يعرف: مكة، لأن: مكة، علم فلا تحتاج إلى التعريف، ومدينة اسم جنس، فعرفت بالألف واللام ليكون معهوداً عن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (يعذبان في قبورهما) ، وفي رواية الأعمش: (مر بقبرين) ، وزاد ابن ماجه في روايته: (بقبرين جديدين فقال: إنهما يعذبان) فان قلت: المعذب ما في القبرين، فكيف أسند العذاب إلى القبرين؟ قلت: هذا من باب ذكر المحل وإرادة الحال. قال بعضهم: يحتمل أن يكون الضمير عائدًا على غير مذكور، لأن سياق الكلام يدل عليه. قلت: هذا ليس بشيء، لأن الذي يرجع إليه الضمير موجود، وهو: القبران، ولو لم يكن موجودا لكان لكلامه وجه، والوجه ما ذكرناه. فافهم. قوله: (لا يستتر) هكذا في أكثر الروايات، بفتح التاء المثناة من فوق، وكسر الثانية، من: السترة، ومعناه: لا يستر جسده ولا ثوبه من مماسة البول، وفي رواية ابن عساكر: (لا يستبرىء) ، بالباء الموحدة
(3/115)
الساكنة بعد التاء المثناة من فوق المفتوحة، من: الاستبراء، وهو طلب البراءة. وفي رواية مسلم وأبي داود في حديث الأعمش: (لا يستنزه) ، بتاء مثناة من فوق مفتوحة ونون ساكنة وزاي مكسورة بعدها هاء، من: النزه. وهو الإبعاد. وروي: (لا يستنثر) ، بتاء مثناة من فوق مفتوحة ونون ساكنة وثاء مثلثة مكسورة، من: الاستنثار، وهو طلب النثر، يعني: نثر البول عن المحل. وروي: (لا ينتتر) ، بتائين مثناتين من فوق بعد النون الساكنة، من: النتر، وهو جذب فيه قوة وحفوة، وفي الحديث: (إذا بال أحدكم فينتتر) . قوله: (بالنميمة) : هي نقل كلام الناس. وقال النووي: هي نقل كلام الغير بقصد الإضرار، وهو من أقبح القبائح. وقال الكرماني: هذا لا يصح على قاعدة الفقهاء، لأنهم يقولون: الكبيرة هي الموجبة للحد، ولا حد على الماشي بالنميمة إلا أن يقال: الاستمرار المستفاد منه يجعله كبيرة، لأن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم الكبيرة أو لا يريد بالكسرة الكبيرة معناها الاصطلاحي. وقال بعضهم: وما نقله عن الفقهاء ليس هو قول جميعهم، لكن كلام الرافعي يشعر بترجيحه حيث حكى في تعريف الكبيرة وجهين: أحدهما: هذا، والثاني: ما فيه وعيد شديد. قال: وهم إلى الأول أميل، والثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر. قلت: لا وجه لتعقيبه على الكرماني لأنه لم يميز قول الجميع عن قول البعض حتى يعترض على قوله على قاعدة الفقهاء، على أن الذنب المستمر عليه صاحبه، وإن كان صغيرة، فهو كبيرة في الحكم، وفيه وعيد. لقوله: (لا صغيرة مع الإصرار) . قوله (ثم دعا بجريدة) ، وفي رواية الأعمش: (بعسيب رطب) ، وهو بفتح العين وكسر السين المهملة على وزن فعيل نحو كريم: وهي الجريدة التي لم ينبت فيها خوص، وإن نبت فهي: السعفة، وعلم من هذا أن الجريدة هي الغصن من النخل بدون الورق. قوله: (فوضع) ، وفي رواية الأعمش، وهي تأتي: (فغرز) ، فالغرز يستلزم الوضع بدون العكس. قوله: (فقيل له) ، وفي رواية: (قالوا) ، أي: الصحابة، ولم يعلم القائل من هو. قوله: (ما لم ييبسا) بفتح الباء الموحدة من: يبس ييبس، من باب: علم يعلم، وفيه لغة يبس ييبس بالكسر فيهما، وهي شاذة، وهكذا روي في كثير من الروايات، وفي رواية الكشميهني: (إلا أن ييبسا) بحرف الاستثناء، وفي رواية المستملي: (إلى أن ييبسا) ، بكلمة: إلى، التي للغاية. ويجوز فيه التأنيث والتذكير، أماالتأنيث فباعتبار رجوع الضمير فيه إلى الكسرتين، وأما التذكير فباعتبار رجوعه إلى العودين، لأن الكسرتين هما العودان، والكسرتان بكسر الكافية، تثنية كسرة، وهي القطعة من الشيء المكسور، وقد تبين من رواية الأعمش أنها كانت نصفا، وفي رواية جرير عنه باثنتين، وقال النووى: الباء، زائدة للتأكيد، وهو منصوب على الحال.
بيان الإعراب قوله: (يعذبان) جملة وقعت حالا (من إنسانين) ، وكذا قوله: (في قبورهما) أي: حال كونهما يعذبان وهما في قبريهما. وإنما قال: (في قبورهما) ، مع أن لهما قبرين، لأن في مثل هذا استعمال التثنية قليل، والجمع أجود كما في قوله تعالى {فقد صغت قلوبكما} (التحريم: 4) والاصل فيه أن المضاف إلى المثنى إذا كان جزء ما أضيف إليه يجوز فيه التثنية والجمع، ولكن الجمع أجود نحو: أكلت راسي شاتين، وإن كان غير جزئه، فالأكثر مجيئه بلفظ التثنية نحو: سل الزيدان سيفيهما، وإن أمن من اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع، كما في قوله: (في قبورهما) ، وقد تجمع التثنية والجمع كما في قوله.
ظهراهما مثل ظهور الترسين.

قوله: (لعله ان يخفف عنهما) شبه: لعل بعسى، فأتى بأن في خبره، وقال المالكي الرواية: أن يخفف عنها على التوحيد، والتأنيث وهو ضمير النفس، فيجوز إعادة الضميرين في: لعله، وعنها إلى الميت باعتبار كونه إنسانا، وكونه نفسا، ويجوز أن يكون الضمير في: لعله، ضمير الشان، وفي: عنها، للنفس، وجاز تفسير الشأن بأن وصلتها، مع أنها في تقدير مصدر، لأنها في حكم جملة لاشتمالها على مسند ومسند إليه، ولذلك سدت مسد مفعولي: حسب وعسى، في قوله تعالى {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} (البقرة: 214، وآل عمران: 142) ويجوز في قول الأخفش أن تكون: أن، زائدة مع كونها ناصبة كزيادة الباء، ومن كونهما جارتين، ومن تفسير ضمير الشأن: بأن وصلتها، قول عمر، رضي الله تعالى عنه: فما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلبني رجلاي. وقال الطيبي: لعل الظاهر أن يكون الضمير مبهما يفسره ما بعده، كما في قوله تعالى: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} (الأنعام: 29) . وقال الزمخشري، رحمه الله تعالى: هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا ما يتلوه من بيانه، وأصله: أن لا حياة إلا الحياة الدنيا، ثم وضع: هي، موضع: الحياة، لأن الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه: هي النفس تتحمل ما حملت، والرواية بتثنية الضمير في: عنهما، لا يستدعي إلا هذا التأويل. قوله: (ما لم ييبسا) كلمة: ما، هنا مصدرية زمانية، وأصله: مدة دوامها إلى زمن اليبس.
(3/116)بيان المعاني قوله: (أو بمكة) شك من الرواي. وقد ذكرناه عن قريب. قوله: (إنسانين) أي: بشرين، قال الجوهري: الإنس البشر، الواحد أنسي وأنسي بالتحريك، والجمع: أناسي، وإن شئت جعلته إنسانا، ثم جمعته إناسي، فتكون الياء عوضا عن النون، وقال قوم: أصل الإنسان: إنسيان، على إفعلان، فحذفت: الياء، استخفافًا لكثرة ما يجري على ألسنتهم، وإذا صغروها ردوها. وقال ابن عباس: إنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي. ويقال: من الأنس، خلاف: الوحشة. ويقال للمرأة أيضا إنسان، ولا يقال: إنسانة، والعامة تقوله. قوله: (يعذبان في قبورهما) وقد ورد في حديث أبي بكرة من (تاريخ البخاري) بسند جيد: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فيعذب في البول، وأما الآخر فيعذب في الغيبة) . وفي حديث ابي هريرة من (صحيح ابن حبان) : (مر، عليه الصلاة والسلام، بقبر فوقف عليه وقال: ائتوني بجريدتين، فجعل أحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه. وقال: (لعله يخفف عنه بعض عذاب القبر) . وهو عند أبي موسى بلفظ: (قبرين، رجل لا يتطهر من البول، وامرأة تمشي بالنميمة) . وعند ابن أبي شيبة من حديث يعلى بن شبابة: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبر يعذب صاحبة فقال: (إن هذا القبر يعذب صاحبه في غير كبير) ، وذكره البرقي في (تاريخه) قال: (قبرين أحدهما يأكل لحوم الناس ويغتابهم، وكان هذا لا يتقي بوله) . وفي (تاريخ بحشل) من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا لأم مبشر، فإذا بقبرين، فدعا بجريدة رطبة فشقها ثم وضع واحدة على أحد القبرين، والأخرى على الآخر، ثم قال: لا يرفعان عنهما حتى يجفا، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يتنزه من البول) . وفي حديث أنس: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين من بني النجار يعذبان في النميمة والبول، فأخذ سعفة رطبة فشقها، وجعل على ذا نصفا وعلى ذا نصفا، وقال: لا يزال يخفف عنهما العذاب ما دامتا رطبتين) . وفي (كتاب ابن الجوزي) : (مر برجل يعذب في الغيبة وبآخر يعذب في البول) .
وورد في عذاب القبر أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم: منها: حديث عبادة بن الصامت بسند لا بأس به عند البزار. ومنها: حديث أبي سعيد وزيد بن ثابت عند مسلم. ومنها: حديث شرحبيل بن حسنة. ومنها: حديث أبي موسى الأشعري عند أبي داود. ومنها: حديث أبي أمامة وأبي رافع، ذكرهما ابو موسى المديني في (كتاب الترغيب والترهيب) . ومنها: حديث ميمونة، ذكره ابن منده في كتاب الطهارة. ومنها: حديث عثمان، رضي الله تعالى عنه، عند اللالكائي.
قوله: (وما يعذبان في كبير) أي: بكبير تركه عليهما، إلا أنه كبير من حيث المعصية. وقيل: يحمل كبير على أكبر، تقديره: ليس هو أكبر الذنوب، إذ الكبائر متفاوتة. وقال القاضي عياض: إنه غير كبير عندكم لقوله تعالى {وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} (النور: 15) وذلك أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة، وتركها كبيرة. وفي (شرح السنة) معنى: (ما يعذبان في كبير) : أنهما لا يعذبان في أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز منه إذ لا مشقة في الاستتار عند البول وترك النميمة ولم يرد أنهما غير كبير في أمر الدين وقال المازري [/ قع: الذنوب تنقسم إلى ما يشق تركه طيبا كالملاذ المحرمة وإلى ما بنفرد منه طبعا كتارك السموم، وإلى ما لا يشق تركه طبعا: كالغيبة والبول. قوله: (لعله اين يخفف عنهما) أي: لعله يخفف ذلك من ناحية التبرك بأثر النبي، عليه الصلاة والسلام، ودعائه بالتخفيف عنهما، فكأن صلى الله عليه وسلم جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدا لما وقعت له المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الرطب معنى ليس في اليابس، قاله الخطابي. وقال النووي: قال العلماء: هو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم سأل الشفاعة لهما فاجيبت شفاعته بالتخفيف عنهما إلى أن ييبسا. وقيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم يدعو لهما تلك المدة، وقيل: لكونهما يسبحان ما دامتا رطبتين وليس لليابس بتسبيح، قالوا: في قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (الإسراء: 44) معناه: وإن من شيء حي، ثم حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشبة ما لم يتبس وحياة الحجر ما لم يقطع، وذهب المحققون إلى أنه على عمومه، ثم اختلفوا: هل يسبح حقيقة أم فيه دلالة على الصانع، فيكون مسبحاً منزهاً بصورة حاله، وأهل التحقيق على أنه يسبح حقيقة، وإذا كان العقل لا يحيل جعل التمييز فيها وجاء النص به، وجب المصير إليه. واستحب العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث، لأنه إذا كان يرجى التخفيف لتسبيح الجريد، فتلاوة القرآن أولى. فإن قلت: ما الحكمة في كونهما ما داما رطبين يمنعان العذاب، بعد دعوى العموم في تسبيح كل شيء؟ قلت: يمكن أن يكون معرفة هذا كمعرفة عدد الزبانية في أنه تعالى هو المختص بها. قوله:
(3/117)
(ثم قال: بلى) معناه أي: أنه لكبير وقد صرح بذلك في رواية أخرى للبخاري، من طريق عبيدة بن حميد عن منصور فقال: وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير؛ وهذا من زيادات رواية منصور على الأعمش، ومسلم لم يذكر الرواتين، وقال الكرماني: فان قلت: لفظ: بلى، مختص بإيجاب النفي، فمعناه: بلى إنهما ليعذبان في كبير، فما وجه التوفيق بينه وبين: ما يعذبان في كبير؟ قلت: قال ابن بطال: (وما يعذبان بكبير) يعني: عندكم وهو كبير، يعني: عند الله تعالى، وقد ذكرناه. وقال عبد الملك البوني في معنى قوله: (وانه لكبير) ، يحتمل أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ظن أن ذلك غير كبير، فأوحى الله تعالى إليه في الحال بأنه كبير، وفيه نظر.
بيان استنباط الاحكام الاول: فيه أن عذاب القبر حق يجب الإيمان به والتسليم له، وعلى ذلك أهل السنة والجماعة خلافًا للمعتزلة، ولكن ذكر القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة في كتاب (الطبقات) تأليفه: إن قيل مذهبكم أداكم إلى إنكار عذاب القبر، وهذا قد أطبقت عليه الأمة. قيل: إن هذا الأمر إنما أنكره أولا ضرار بن عمر ولما كان من أصحاب واصل ظنوا أن ذلك مما أنكرته المعتزلة، وليس الأمر كذلك، بل المعتزلة رجلان: أحدهما: يجوز ذلك كما وردت به الأخبار، والثاني: يقطع بذلك. وأكثر شيوخنا يقطعون بذلك، وإنما ينكرون قول جماعة من الجهلة: إنهم يعذبون وهم موتى، ودليل العقل يمنع من ذلك، وبنحوه ذكره أبو عبيد الله المرزباني في كتاب (الطبقات) تأليفه. وقال القرطبي: إن الملحدة ومن يذهب مذهب الفلاسفة انكروه أيضا، والإيمان به واجب لازم حسب ما أخبر به الصادق، صلى الله عليه وسلم، وإن الله يحيى العبد ويرد الحياة والعقل، وهذا نطقت به الأخبار، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك يكمل العقل للصغار ليعلموا منزلتهم وسعادتهم، وقد جاء أن القبر ينضم عليه كالكبير، وصار أبو الهذيل وبشر إلى أن من خرج عن سمة الإيمان فإنه يعذب بين النفختين، وإنما المساءلة إنما تقع في تلك الأوقات، وأثبت البلخي والجبائي وابنه عذاب القبر، ولكنهم نفوه عن المؤمنين وأثبتوه للكافرين والفاسقين. وقال بعضهم: عذاب القبر جائز، وإنه يجري على الموتى من غير رد روحهم إلى الجسد، وإن الميت يجوز أن يتألم ويحس، وهذا مذهب جماعة من الكرامية. وقال بعض المعتزلة: إن الله تعالى يعذب الموتى في قبورهم ويحدث الآلام وهم لا يشعرون، فإذا حشروا وجدوا تل الآلام كالسكران والمغشي عليه إن ضربوا لم يجدوا ألماً، فإذا عاد عقلهم إليهم وجدوا تلك الآلام، وأما باقي المعتزلة مثل ضرار بن عمر وبشر المريسي ويحيى بن كامل وغيرهم فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلا، وهذه الأقوال كلها فاسدة تردها الأحاديث الثابتة، وإلى الانكار أيضا ذهب الخوارج وبعض المرجئة. ثم المعذب عند أهل السنة الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إلى جسده أو إلى جزئه، وخالف في ذلك محمد بن جرير وطائفة فقالوا: لا يشترط إعادة الروح، وهذا أيضا فاسد.
الثاني: فيه نجاسة الأبوال مطلقًا، قليلها وكثيرها، وهو مذهب عامة الفقهاء، وسهل بن القاسم بن محمد، ومحمد بن علي والشعبي، وصار أبو حنيفة وصاحباه إلى العفو عن قدر الدرهم الكبير اعتبارا للمشقة وقياسًا على المخرجين. وقال الثوري: كانوا يرخصون في القليل من البول، ورخص الكوفيون في مثل رؤوس الأبر من البول، وفي الجواهر للمالكية: إن البول والعذرة من بني آدم الآكلين الطعام نجسان، وطاهران من كل حيوان مباح الأول، ومكروهان من المكروه أكله. وقيل: بل نجسان. وعامة الفقهاء لم يخففوا في شيء من الدم إلا في اليسير من دم الحيض، واختلف أصحاب مالك في مقدار اليسير، فقيل: قدر الدارهم الكبير.
الثالث: قال الخطابي: فيه دليل على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور، لأنه إذا كان يرجى عن الميت التخفيف بتسبيح الشجر، فتلاوة القرآن العظيم أعظم رجاء وبركة. قلت: اختلف الناس في هذا المسألة، فذهب أبو حنيفة وأحمد، رضي الله تعالى عنهما، إلى وصول ثواب قراءة القرآن إلى الميت، لما روى أبو بكر النجار في كتاب (السنن) عن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مر بين المقابر فقرأ: قل هو الله أحد، أحد عشر مرة، ثم وهب أجرها للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات) . وفي (سننه) أيضا عن أنس يرفعه: (من دخل المقابر فقرأ سورة: يس، خفف الله عنهم يومئذ) . وعن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من زار قبر والدية. أو أحدهما، فقرأ عنده، أو عندهما يس، غفر له) . وروى أبو حفص بن شاهين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: الحمد لله رب العالمين رب السموات، ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم، لله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين، وله
(3/118)
العظمة في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم هو الملك رب السموات ورب الأرض ورب العالمين، وله النور في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، مرة واحدة، ثم قال: اللهم اجعل ثوابها لوالدي لم يبق لوالديه حق إلا أداه إليهما) . وقال النووي: المشهور من مذهب الشافعي وجماعة: أن قراءة القرآن لا تصل إلى الميت، والأخبار المذكورة حجة عليهم، ولكن أجمع العلماء على أن الدعاء ينفعهم ويصلهم ثوابه، لقوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالايمان} (الحشر: 59) وغير ذلك من الآيات، وبالاحاديث المشهورة منها: قوله، صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) ، ومنها قوله، صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لحينا وميتنا) ، وغير ذلك. فان قلت: هل يبلغ ثواب الصوم أو الصدقة أو العتق؟ قلت: روى أبو بكر النجار في كتاب (السنن) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن العاص بن وائل كان نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وإن هشام بن العاص نحر حصته خمسين، أفيجزىء عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أباك لو كان أقر بالتوحيد فصمت عنه أو تصدقت عنه أو أعتقت عنه بلغه ذلك) . وروى الدارقطني: (قال رجل: يا رسول الله كيف أبر أبوي بعد موتهما؟ فقال: إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق عنهما مع صدقتك) . وفي كتاب القاضي الإمام أبي الحسين بن الفراء، عن أنس، رضي الله تعالى عنه: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إذا نتصدق عن موتانا ونحج عنهم وندعو لهم فهل يصل ذلك اليهم؟ قال: نعم، ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه) . وعن سعد: (أنه قال: يا رسول الله إن أبي مات، أفاعتق عنه؟ قال: نعم) . وعن ابي جعفر محمد بن علي بن حسين: (أن الحسن والحسين، رضي الله عنهما، كانا يعتقان عن علي، رضي الله تعالى عنه) . وفي (الصحيح) (قال رجل: يا رسول الله إن أمي توفيت، أينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم) .
فان قلت: قال الله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 39) وهو يدل على عدم وصول ثواب القرآن للميت؟ قلت: اختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال: أحدهما: إنها منسوخة بقوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم} (الطور: 21) أدخل الآباء الجنة بصلاح الأبناي، قاله ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما. الثاني: إنها خاصة بقوم إبراهيم وموسى، عليهما السلام، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا، وما سعى لهم غيرهم، قاله عكرمة. الثالث: المراد بالإنسان ههنا الكافر، قاله الربيع بن أنس. الرابع: ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، فأما من باب الفضل فجائز أن يزيد الله تعالى ما شاء، قاله الحسين بن فضل. الخامس: إن معنى: ما سعى: ما نوى، قاله أبو بكر الوراق. السادس: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدنيا فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة شيء، ذكره الثعلبي. السابع إن: اللام، في: الإنسان، بمعنى: على، تقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى. الثامن: إنه ليس له إلا سعيه، غير أن الأسباب مختلفة فتارة يكون سعيه في تحصيل الشيء بنفسه، وتارة يكون سعيه في تحصيل سببه، مثل سعيه في تحصيل قراءة ولد يترحم عليه، وصديق يستغفر له، وتارة يسعى في خدمة الدين والعبادة فيكتسب محبة أهل الدين، فيكون ذلك سببا حصل بسعيه، حكاه أبو الفرج عن شيخه ابن الزغواني.
الرابع: فيه وجوب الاستنجاء إذ هو المراد بعدم الاستتار من البول، فلا يجعل بينه وبينه حجابا من ماء أو حجر، ويبعد أن يكون المراد: الاستتار عن الأعين. وقال ابن بطال معناه: ولا يستتر جسده ولا ثوبه من مماسة البول، ولما عذب على استخفافه بغسله، وبالتحرز عنه دل على أن من ترك البول في مخرجه ولم يغسله أنه حقيق بالعذاب. وقال البغوي: فيه وجوب الاستتار عند قضاء الحاجة عن أعين الناس عند القضاء. قلت: هذا رد على من قال: ويبعد أن يكون المراد الاستتار عن الأعين، ولكن كلاهما واجب على ما لا يخفى، والتحقيق في هذا الكلام أن معنى رواية الاستتار إذا حمل على حقيقته يلزم منه أن يكون سبب العذاب مجرد كشف العورة، وفي الحديث ما يدل على أن للبول خصوصية في عذاب القبر يدل عليه ما رواه ابن خزيمة في (صحيحه) من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، مرفوعا: (أكثر عذاب القبر من البول) ، فإذا كان كذلك تعين أن يكون معنى الاستتار على الوجه الذي ذكرناه، لتتفق ألفاظ الحديث على معنى واحد ولا تختلف، ويؤيد ذلك رواية ابي بكرة عند أحمد، وابن ماجه: (أما أحدهما فيعذب في البول) . ومثله عند الطبراني عن أنس، وكلمة: في، للتعليل أي: يعذب أحدهما بسبب البول.
الخامس: فيه حرمة النميمة، وهذا بالإجماع، وقد مر الكلام فيه عن قريب.
(3/119)
الأسئلة والأجوبة منها: أن هذا الحديث رواه ابن عباس، فعلى تقدير كون هذا في مكة على ما دل عليها السند، كيف يتصور هذا، وكان ابن عباس عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مكة ابن ثلاث سنين؟ فكيف ضبط ما وقع بمكة؟ الجواب: من ثلاثة أوجه: الأول: أنه يحتمل وقوع هذه القضية بعد مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة سنة الفتح، أو سنة الحج. الثاني: أنه يحتمل أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. الثالث: أنه يكون ما رواه من مراسيل الصحابة، كذا قيل. قلت: له وجه رابع: وهو أن يكون ابن عباس سمع ذلك من صحابي، فاسقط ذكره من بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ونظائره كثيرة. وهو في الحقيقة داخل في الوجه الثالث.
ومنها: أن في متن هذا الحديث: (ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين) يعني: أتي بها فكسرها، وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه رواه مسلم

أنه الذي قطع الغصنين، فهل هذه قضية واحدة ام قضيتان؟ الجواب: أنهما قضيتان، والمغايرة بينهما من أوجه. الأول: أن هذه كانت في المدينة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة، وقضية جابر كانت في السفر وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده. الثاني: أن في هذه القضية أنه، عليه الصلاة والسلام، غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين، كما في رواية الأعمش الآتية في الباب الذي بعده، وفي حديث جابر: أمر، عليه الصلاة والسلام جابرا، فقطع غصنين من شجرتين كان النبي صلى الله عليه وسلم استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرا فألقى غصنين عن يمينه وعن يساره، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا، وأن جابرا سأله عن ذلك، فقال: إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفع عنهما ما دام الغصنان رطبين. الثالث: لم يذكر في قصة جابر ما كان السبب في عذابهما. الرابع: لم يذكر فيه كلمة: الترحبي، فدل ذلك كله على أنهما قضيتان مختلفتان، بل روى ابن حبان في (صحيحه) عن أبي هريرة: (أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبر فوقف عليه فقال: ائتوني بجريدتين فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه) فهذا بظاهره يدل على أن هذه قضية ثالثة، فسقط بهذا كلام من ادعى أن القضية واحدة، كما مال إليه النووي والقرطبي.
ومنها: أن ما كانت الحكمة في عدم بيان إسمي المقبورين ولا أحدهما؟ الجواب: أنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لم يبين ذلك قصدا للستر عليهما، خوفًا من الافتضاح، وهو عمل مستحسن، ولا سيما من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي شأنه الرحمة والرأفة على عباد الله تعالى، ويحتمل أن يكون قد بينه ليحترز غيره من مباشرة ما باشر صاحب القبرين، ولكن الراوي أبهمه عمدا لما ذكرنا. فان قلت: قد ذكر القرطبي عن بعضهم أن أحدهما كان سعد بن معاذ، رضي الله تعالى عنه. قلت: هذا قول فاسد لا يلتفت إليه، ومما يدل على فساده أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر جنازته كما ثبت في الصحيح، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم سيداً حيث قال لأصحابه: (قوموا إلى سيدكم) . وقال: إن حكمه وافق حكم الله تعالى، وقال: إن عرش الرحمن اهتز لموته، وغير ذلك من مناقبه العظيمة، رضي الله عنه، وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم دفن المقبورين، دل عليه حديث أبي أمامة، رضي الله عنه، رواه أحمد، ولفظه: (أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: من دفنتم اليوم ههنا) ؟ ولم ينقل عنه، عليه الصلاة والسلام، ما ذكره القرطبي عن البعض، فدل ذلك على بطلانه في هذه القضية.
ومنها: أن هذين المقبورين هل كانا مسلمين أو كافرين؟ الجواب: أن العلماء اختلفوا فيه، فقيل: كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المديني في كتابه (الترغيب والترهيب) واحتج في ذلك بما رواه من حديث ابن لهيعة عن أسامة بن زيد عن أبي الزبير عن جابر، رضي الله تعالى عنه، قال: (مر نبي الله صلى الله عليه وسلم على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهيلة، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة) ، قال: هذا حديث حسن، وإن كان إسناده ليس بالقوي لأنهما لو كانا مسلمين لما كان لشفاعته صلى الله عليه وسلم لهما إلى أن ييبسا معنى، ولكنه لما رآهما يعذبان لم يستجز من عطفه ولطفه صلى الله عليه وسلم حرمانهما من ذلك، فشفع لهما إلى المدة المذكورة، ولما رواه الطبراني في (الأوسط) : (مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبور نساء من بني النجار هلكن في الجاهلية فسمعهن يعذبن في النميمة) . قال: لم يروه عن أسامة إلا ابن لهيعة، وقيل: كانا مسلمين وجزم به بعضهم، لأنهما لو كانا كافرين لم يدع، عليه الصلاة والسلام، لهما بتخفيف العذاب ولا ترجاه لهما، ويقوي هذا ما في بعض طرق حديث ابن عباس، رضي الله عنه تعالى عنهما: (مر بقبرين من قبور الأنصار جديدين) . فإن تعددت الطرق، وهو الأقرب لاختلاف الألفاظ، فلا بأس. وإن لم تتعدد فهو بالمعنى إذ بنو النجار من الأنصار، وهو لقب إسلامي لقبوا به لنصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف بها مسمى في الجاهلية، ويقويه أيضا ما في رواية مسلم: (فاجبت بشفاعتي) ، والشفاعة لا تكون إلا لمؤمن، وما في رواية أحمد المذكورة: (فقال من دفنتم اليوم ههنا) ؟ فهذا أيضا
(3/120)
يدل على أنهما كانا مسلمين، لأن البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب لهم. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكونا كافرين، كما ذهب إليه أبو موسى، وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهما من خصائصه كما في قصة أبي طالب؟ قلت: لو كان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم لبينه، على أنا نقول: إن هذه القضية متعددة كما ذكرنا، فيجوز تعدد حال المقبورين. فإن قلت: ذكر البول والنميمة ينافي ذلك، لأن الكافر، وإن عذب على أحكام الاسلام، فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف. قلت: لم يبين في حديث جابر المذكور سبب العذاب ما هو، ولا ذكر فيه الترجي لرفع العذاب، كما في حديث غيره، وظهر من ذلك صحة ما ذكرنا من تعدد الحال، ورد بعضهم احتجاج ابي موسى بالحديث المذكور: بأنه ضعيف، كما اعترف به. وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، وليس فيه ذكر سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة. قلت: هذا من تخليط هذا القائل لأن أبا موسى لم يصرح بأنه ضعيف، بل قال: هذا حديث حسن وإن كان إسناده ليس بقوي، ولم يعلم هذا القائل الفرق بين الحسن والضعيف، لأن بعضهم عد الحسن من الصحيح لا قسيمه، ولذلك يقال للحديث الواحد: إنه حسن صحيح. وقال الترمذي: الحسن ما ليس في إسناده من يتهم بالكذب، وعبد الله بن لهيعة المصري لا يتهم بالكذب، على أن طائفة منهم قد صححوا حديثه ووثقوه، منهم: أحمد، رضي الله عنه.
ومنها: أنه قيل: هل للجريد معنى يخصه في الغرز على القبر لتخفيف العذاب؟ الجواب: أنه لا لمعنى يخصه، بل المقصود أن يكون ما فيه رطوبة من أي شجر كان، ولهذا أنكر الخطابي ومن تبعه وضع الجريد اليابس، وكذلك ما يفعله أكثر الناس من وضع ما فيه رطوبة من الرياحين والبقول ونحوهما على القبور ليس بشيء، وإنما السنة الغرز

. فإن قلت: في الحديث المذكور: فوضع على كل قبر منهما كسرة. قلت: في رواية الأعمش: (فغرز) ، فينبغي أن يغرز، لأن الوضع يوجد في الغرز بخلاف الوضع فافهم.
ومنها أنه النبي صلى الله عليه وسلم علل غرزهما على القبر بأمر معين من العذاب، ونحن لا نعلم ذلك مطلقًا؟ الجواب: أنه لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب ام لا؟ أن نترك ذلك. ألا ترى أنا ندعو للميت بالرحمة، ولا نعلم أنه يرحم أم لا؟ .
ومنها: أنه هل لأحد أن يأمر بذلك لأحد أم الشرط أن يباشره بيده؟ الجواب: أنه لا يلزم ذلك، والدليل عليه أن بريدة بن الحصيب، رضي الله عنه، أوصى أن يوضع على قبره جريدتان، كما يأتي في هذا الكتاب. وقال بعضهم: ليس في السياق ما يقطع على أنه باشر الوضع بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم، بل يحتمل أن يكون أمر به. قلت: هذا كلام واه جدا، وكيف يقول ذلك وقد صرح في الحديث: (ثم دعا بجريدتين فكسرهما فوضع على كل قبر منهما كسرة) ؟ . وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم وضعه بيديه الكريمة، ودعوى احتمال الأمر لغيره به بعيدة، وهذه كدعوى احتمال مجيء غلام زيد في قولك: جاء زيد، ومثل هذا الاحتمال لا يعتد به.

56 - (باب ما جاء في غسل البول)

أي: هذا باب في بيان ما جاء من الحديث في حكم غسل البول.
وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب السابق البول الذي كان سببا لعذاب صاحبه في قبره، وهذا الباب في بيان غسل ذلك البول: الألف واللام، فيه للعهد الخارجي. وأشار به البخاري إلى أن المراد من البول هو: بول الناس، لأجل إضافة البول إليه في الحديث السابق، لا جميع الأبوال على ما يأتي تعليقه الدال على ذلك، فلأجل هذا قال ابن بطال: لا حجة فيه لمن حمله على جميع الأبوال، ليحتج به في نجاسة بول سائر الحيوانات. وفي كلامه رد على الخطابي حيث قال: فيه دليل على نجاسة الأبوال كلها، وليس كذلك، بل الأبوال غير أبوال الناس على نوعين: أحدهما: نجسة مثل بول الناس يلتحق به لعدم الفارق، والآخر: طاهرة عند من يقول بطهارتها، ولهم أدلة أخرى في ذلك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب القبر كان لا يستتر من بوله ولم يذكر سوى بول الناس

هذا تعليق من البخاري، وإسناده في الباب السابق، وقد قلنا: إنه أراد به الإشارة إلى أن المراد من البول المذكور هو بول الناس لا سائر الأبوال، فلذلك قال: (ولم يذكر سوى بول الناس) ، وهو من كلامه، نبه به على ما ذكرناه. وقال الكرماني:
(3/121)
اللام في قوله: (لصاحب القبر) بمعنى: لأجل، وقال بعضهم: أي، عن صاحب القبر. قلت: مجىء: اللام، بمعنى: عن، ذكره ابن الحاجب، واحتج عليه بقوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه} (الأحقاف: 11) وغيره لم يقل به، بل قالوا: إن: اللام، فيه: لام التعليل، فعلى هذا الذي ذكره الكرماني هو الأصوب، ويجوز أن تكون: اللام، هنا بمعنى: عند، كما في قولهم: كتبته لخمس خلون.

217 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنى روح بن القاسم قال حدثنى عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تبرزم لحاجته أتيته بماء به..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لا تخفى.
بيان رجاله وهم خمسة. الأول: يعقوب بن إبراهيم الدورقي، تقدم في باب حب الرسول من الإيمان. الثاني: إسماعيل بن إبراهيم، هو ابن علية، وليس هو أخا يعقوب، وقد مر ذكره في الباب المذكور. الثالث: روح بن القاسم التميمي العنبري من ثقات البصريين، ويكنى بأبي القاسم وبأبي غياث، بالغين المعجمة وبالثاء المثلثة؛ وروح، بفتح الراء وسكون الواو وبالحاء المهملة، وهو المشهور. ونقل ابن التين: أنه قرىء، بضم الراء، وليس بصحيح. وقيل: هو بالفتح لا نعلم فيه خلافًا. الرابع: عطاء بن أبي ميمونة البصري مولى أنس بن معاذ، تقدم في باب الاستنجاء بالماء. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده منها: أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد. ومنها: أن فيه الإخبار. ومنها: أن فيه العنعنة. ومنها: أن رواته ما بين بغدادي وبصري.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا في الطهارة عن يعقوب كما ذكر، وفي الطهارة أيضا، وعن ابي الوليد وسليمان بن حرب، وعن بندار عن غندر، وفي الصلاة عن محمد بن حاتم عن بزيغ عن أسود بن عامر شاذان، أربعتهم عن شعبة. وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر عن وكيع وغندر، وعن أبي موسى محمد بن المثنى عن غندر، كلاهما عن شعبة به، وعن زهير بن حرب وأبي كريب، كلاهما عن إسماعيل بن علية به، وعن يحيى بن يحيى عن خالد بن عبد الله الواسطي عن خالد، هو الحذاء عنه به. وأخرجه أبو داود في الطهارة عن وهب بن بقية عن خالد الواسطي به. وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم عن النضر بن شميل عن شعبة به.
بيان لغاته وإعرابه قوله: (إذا تبرز) ، على وزن: تفعل، بتشديد العين. وتبرز الرجل: إذا خرج إلى البراز، بفتح الباء الموحدة، للحاجة. والبراز إسم للفضاء الواسع، فكنوا به عن قضاء الغائط، كما كنوا عنه بالخلاء، لأنهم كانوا يتبرزون في الأمكنة الخالية من الناس. قال الخطابي: المحدثون يروونه بالكسر وهو خطأ، لأنه بالكسر مصدر من المبارزة في الحرب. وقال الجوهري بخلافه، وهذا لفظه: البراز المبارزة في الحرب، والبراز أيضا كناية عن ثقل الغذاء وهو الغائط، ثم قال: والبراز، بالفتح: الفضاء الواسع. قوله: (لحاجته) أي: لأجلها ويجوز أن تكون: اللام، بمعنى: عند قضاء حاجته. قوله: (فيغسل به) أي: فيغسل ذكره بالماء، وحذف المفعول لظهوره، أو للاستحياء عن ذكره، كما قالت عائشة، رضي الله عنها: ما رأيت منه ولا رأى مني، تعنى: العورة؛ ويغسل، بفتح الياء آخر الحروف وسكون الغين المعجمة وكسر السين، هذه رواية العامة. وفي رواية ابي ذر: (فتغسل به) ، من باب: تفعل، بالتشديد. يقال: تغسل يتغسل تغسلاً، وهذا الباب للتكلف والتشديد في الأمر، ويروى: (فيغتسل به) ، من باب: الافتعال، وهذا الباب إنما هو للاعتمال لنفسه، يقال: سوى لنفسه ولغيره واستوى لنفسه، وكسب لأهله ولعياله واكتسب لنفسه.
بيان استنباط الأحكام الأول: أن فيه استحباب التباعد من الناس لقضاء الحاجة. الثاني: أن فيه الاستتار عن أعين الناس. الثالث: أن فيه جواز استخدام الصغار. الرابع: أن فيه جواز الاستنجاء بالماء واستحبابه ورجحانه على الاقتصار على الحجر، وقد اختلف الناس في هذه المسألة، فالذي عليه الجمهور من السلف والخلف أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر، فإن اقتصر، اقتصر على أيهما شاء، لكن الماء أفضل لأصالته في التنقية. وقد قيل: ان الحجر أفضل. وقال ابن حبيب المالكي: لا يجوز الحجر إلا لمن عدم الماء، ويستنبط منه حكم آخر وهو: استحباب خدمة الصالحين وأهل الفضل والتبرك بذلك.
(3/122)
(باب)
كذا وقع في رواية أبي ذر، وقد ذكرنا أنه على هذه الصورة غير معرب، بل حكمه حكم تعدد الأسماء، لأن الإعراب إنما يكون بعد العقد والتركيب، فإذا قلنا: هذا باب، أو: باب في حكم كذا، يكون معرباً. ومن قال: باب، بالتنوين من غير وصل بشيء فقد غلط.

218 - حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا محمد بن خازم قال حدثنا الاعمش عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم أخذ جريدةً رطبةً فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدةً قالوا يا رسول الله لم فعلت هذا قال لعله يخفف عنهما ما لم يببسا..
هذا الحديث في نفس الأمر هو الحديث الذي ترجم له البخاري بقوله: (باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله) ، لأن مخرجهما واحد، غير أن الاختلاف في السند وبعض المتن: لأن هناك عن مجاهد عن ابن عباس، وههنا عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس، وقد قلنا هناك: إن إخراج البخاري بهذين الطريقين صحيح عنده، لأنه يحتمل أن مجاهدًا سمعه تارة عن ابن عباس وتارة عن طاوس عن ابن عباس، فإذا كان الأمر كذلك فلا يحتاج إلى طلب ترجمة هذا الحديث لهذا الباب، على تقدير وجود لفظه: باب، لأن وجه الترجمة ومطابقة الحديث لها قد ذكر هناك، فان قلت: بينهما باب آخر، وهو قوله: (باب ما جاء في غسل البول) . قلت: هذا تابع للباب الأول. لأنه في بيان حكم من أحكامه، وليس للتابع استقلال في شأنه، فعلى هذا قول الكرماني: فان قلت: كيف دلالته على الترجمة؟ قلت: من جهة إثبات العذاب على ترك استتار جسده من البول وعدم غسله غير سديد مستغنى عنه، لأنه إن اعتبر فيما قاله لفظه باب مفردا فليس فيه ترجمة، وإن لم يعتبر ذلك فيكون الحديث في باب: ما جاء في غسل البول، وليس له مناسبة ظاهرا، والتحقيق ما ذكرته. فافهم.
بيان رجاله وهم ستة. الأول: محمد بن المثنى، بضم الميم وفتح الثاء المثلثة وتشديد النون: البصري المعروف بالزمن، تقدم في باب حلاوة الايمان. الثاني: محمد بن خازم، بالخاء والزاي المعجمتين: أبو معاوية الضرير، عمي وعمره أربع سنين، وقد تقدم في باب المسلم من سلم المسلمون من يده. الثالث: الأعمش وهو سليمان بن مهران الكوفي التابعي، تقدم في باب ظلم دون ظلم. الرابع: مجاهد بن جبر. الخامس: طاوس بن كيسان، تقدم في باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين. السادس: عبد الله ابن عباس.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع ثلاث مرات. وفيه: العنعنة ثلاث مرات. وفيه: أن رواته ما بين بصري وكوفي ومكي ويماني.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا عن محمد بن المثنى، وفي مواضع أخر ذكرناها في باب: من الكبائر ان لا يستتر من بوله. وأخرجه بقية الجماعة أيضا، ذكرناها هناك.
وأما ذكر لغته وإعرابه واستنباط الأحكام منه فقد مرت مستوفاة.
وقوله: (فغرز) ، وفي رواية وكيع في الأدب: (فغرس) ، وهما بمعنى واحد، وبين الزاي والسين تناوب؛ وكان غرزه، عليه الصلاة والسلام، عند رأس القبر، قاله سعد الدين الحارثي، وقال: إنه ثبت بإسناد صحيح، قال بعضهم: كأنه يشير إلى حديث أبي هريرة الذي رواه ابن حبان في صحيحه، وقد ذكرناه. قلت: فيه: (فجعل إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه) . قوله: (لم فعلت هذا) ، وليس لفظه: هذا، في رواية المستملي والسرخسي.
قال ابن المثنى وحدثنا وكيع قال حدثنا الاعمش قال سمعت مجاهداً مثله
أي: قال محمد بن المثنى وحدثنا وكيع بن الجراح، وهو معطوف على قوله: (حدثنا محمد بن خازم) ، ووقع للأصيلي هكذا: بواو العطف، ولذلك ظن بعضهم أنه معلق، وقد وصله أبو نعيم في (المستخرج) من طريق محمد بن المثنى هذا عن وكيع ومحمد بن خازم عن الأعمش، والنكتة في هذا الإسناد الذي أفرده التقوية للإسناد الأول، ولهذا صرح بلفظ: سمعت لأن
(3/123)
الأعمش مدلس، وعنعنة المدلس لا تعتبر إلا إذا علم سماعه، فأراد التصريح بالسماع، إذ الإسناد الأول معنعن. فإن قلت: قال في الأول حدثنا محمد بن المثنى، وقال ههنا: قال ابن المثنى، هل بينهما فرق؟ قلت: بلى أشار به إلى أن قال: أحط درجة من حدث كما يقول في بعض المواضع في إسناد واحد: حدثني، بالإفراد و: حدثنا، بالجمع. فان قلت: مجاهد في هذه الطريقة يروي عن طاووس أو عن ابن عباس؟ قلت: الظاهر أنه يروي عن طاووس عن ابن عباس، لأنه قال مثله ومثل الشيء غيره.

57 - (باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم والناس الاعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد)

أي: هذا باب في بيان ترك النبي صلى الله عليه وسلم والناس الأعرابي الذي قدم المدينة ودخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبال فيه، فلم يتعرض إليه أحد بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم حتى فرغ من بوله، كما يأتي كل ذلك مفسرًا إن شاء الله تعالى.
فقوله: (والناس) ، بالجر عطف على لفظ: النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه مجرور بالإضافة، والتقدير: وتكر الناس، ويجوز: الناس، بالرفع عطفا على المحل، لأن لفظ الترك مصدر مضاف إلى فاعله، والأعرابي نسبة إلى الأعراب لأنه لا واحد لهم، وهم سكان البادية، والعربي نسبة إلى العرب، وهم أهل الأمصار وليس الأعراب جمعا للعرب، وقد ذكرنا الكلام فيه مستقصىً فيما تقدم، والألف واللام في: الأعرابي، وفي: المسجد، للعهد الذهني، وعن قريب يأتي من الأعرابي مع الخلال فيه.
وجه المناسبة بين هذا الباب، والباب الذي قبله هو اشتمال كل منهما على أن حكم البول إزالته، فذكر في الباب السابق الغسل، وفي هذا الباب صب الماء عليه، وحكمه حكم الغسل.

219 - حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا همام قال أخبرنا إسحاق عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أعرابيًا يبول في المسجد فقال دعوه حى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه.
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم أربعة. الأول: موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، مر في كتاب الوحي. الثاني: همام بن يحيى بن دينار العوذي، بفتح العين المهملة وسكون الواو وبالذال المعجمة: كان ثقة ثبتاً في كل المشايخ، مات سنة ثلاث وستين ومائة. الثالث: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة بن سهل الأنصاري، تقدم في باب من قعد حيث ينتهي به المجلس. الرابع: أنس بن مالك.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاث مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومدني.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا. وأخرجه مسلم أيضا في الطهارة عن زهير بن حرب عن عمرو بن يونس عن عكرمة بن عمار اليماني عن إسحاق عن أنس. وأخرجه البخاري أيضا عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت أنسا رضي الله تعالى عنه، كما سيأتي عن قريب. وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي موسى عن يحيى بن القطان، وعن يحيى بن يحيى وقتيبة، وكلاهما عن عبد العزيز بن عمر. وأخرجه الترمذي أيضا عن سعيد ابن عبد الرحمن المخزومي عن سفيان بن عيينة، وفات المزي هذا في الأطراف. وأخرجه النسائي عن سويد بن نصر وعن قتيبة. وأخرجه البخاري أيضا عن ابي هريرة في الطهارة ههنا، كما يأتي عن قريب. وأخرجه أيضا في الأدب عن ابي اليمان عن شعيب عن الزهري عنه به. وأخرجه النسائي في الطهارة عن دحيم عن عمرو بن عبد الواحد عن الأوزاعي عن الزهري به نحوه. وأخرجه أبو داود من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة: (أن أعرابيًا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحدا. فقال النبي، عليه الصلاة والسلام، لقد تحجرت واسعًا، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلاً من ماء، أو قال؛ ذنوباً من ماء) . وأخرجه الترمذي في آخر الطهارة، والنسائي أيضا في الطهارة، ولم يذكر قصة البول. وأخرجه ابن ماجه من حديث ابي سلمة عن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ومن حديث علي ابن مسهر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة: (دخل أعرابي المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقال: اللهم
(3/124)
اغفر لي ولمحمد) الحديث. وأخرج أبو داود هذه القصة أيضا من حديث عبد الله بن معقل بن المقرن قال: (صلى أعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: وقال، يعني النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء) . ثم قال ابو داود: وهو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الخطابي: هذا الحديث ذكره أبو داود وضعفه، وقال: مرسل. قلت: لم يقل أبو داود: هذا ضعيف، وإنما قال: مرسل، وهو مرسل من طريقين: أحدهما ما رواه أبو داود، والآخر ما رواه عبد الرزاق في (مصنفه) وقد روي هذا الحديث من طريقين مسندين أيضا: أحدهما: عن سمعان بن مالك عن أبي وائل عن عبد الله، قال: (جاء أعرابي فبال في المسجد، فأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بمكانه فاحتفر وصب عليه دلو من ماء) ، أخرجه الدارقطني في (سننه) . . والثاني: أخرجه الدارقطني أيضا، عن عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن أنس: (أن أعرابيًا بال في المسجد، فقال، عليه الصلاة والسلام: احفروا مكانه ثم صبوا عليه ذنوباً من ماء) .
بيان لغته قوله: (فصبه) الصب: السكب، يقال: صببت الماء فانصب أي سكبته فانسكب والماء ينصب من الجبل أي يتخذر ويقال ماصب وهو كقولك ما سكب ويروى فصب، بدون الضمير المفعول، وفي رواية البخاري، على ما يأتي: (فلما قضى بوله أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه) . وفي رواية مسلم: (فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو فسنه عليه) ، بالسين المهملة، ويروى بالمعجمة وهو رواية الطحاوي أيضا، والفرق بينهما أن: السين، بالمهملة: الصب المتصل، وبالمعجمة: الصب المنقطع. قاله ابن الاثير: والذنوب، بفتح الذال المعجمة: الدلو العظيمة، وقيل: لا يسمى ذنوباً إلا إذا كان فيها ماء. قوله: (اهريقوا) أصله: (أريقوا) من الإراقة، فالهاء زائدة، ويروى: (هريقوا) ، فتكون الهاء بدلا من الهمزة.
بيان إعرابه قوله: (رأى) بمعنى: أبصر، و (أعرابيًا) مفعوله، وقوله: (يبول) جملة في محل النصب على أنها صفة: لأعرابياً، والتقدير: أبصر أعرابيًا بائلاً. وقال الكرماني؛ و: يبول، إما صفة وإما حال. قلت: لا يقع الحال عن النكرة إلا إذا كان مقدما على ذي الحال، كما عرف في موضعه.
بيان معناه قوله: (دعوه) اي: اتركوه، وهو أمر بصيغة الجمع من: يدع، تقول: دع دعا دعوا بضم العين، والعرب أماتت ماضيه إلا ما جاء في قراءة شاذة في قوله تعالى {ما ودعك ربك} (الضحى: 3) بالتخفيف، وفي رواية مسلم: (لا تزرموه ودعوه) ، وهو بتقديم الزاي على الراء المهملة، يعني: لا تقطعوا عليه بوله. يقال: أزرم الدمع والدم: انقطعا، وأزرمته أنا؛ والضمير المنصوب فيه يرجع إلى الأعرابي، وعن عبد الله بن نافع المدني أن هذا الأعرابي كان: الأقرع بن حابس، حكاه أبو بكر التاريخي. وأخرج أبو موسى المديني هذا الحديث في الصحابة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار، قال: اطلع ذو الخويصرة اليماني، وكان رجلا جافيا، فذكر الحديث تاما بمعناه وزيادة، ولكنه مرسل، وفي إسناده أيضا مبهم، ولكن فهم منه أن الأعرابي المذكور هو: ذو الخويصرة اليماني، ولا يبعد ذلك منه بجلافته وقلة أدبه. قوله: (حتى إذا فرغ من كلام أنس، رضي الله تعالى عنه) اي: حتى إذا فرغ من بوله، وكلمة: حتى، للغاية، والمعنى: فتركوه إلى أن فرغ من بوله. قوله: (دعاء بماء) أي: دعا النبي صلى الله عليه وسلم أي: طلب ماء. وفي رواية أخرى للبخاري، الآتية عن قريب: (فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فهريق عليه) . وفي رواية مسلم: (فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو فسنه عليه) . وفي رواية النسائي: (فلما فرغ دعا بدلو فصب عليه) . وفي رواية ابن ماجه: (دعا بدلو ماء فصب عليه) . وفي رواية له: (ثم أمر بسجل من ماء فأفرغ على بوله) . وفي رواية ابن صاعد، عن عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن أنس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحفروا مكانه ثم صبوا عليه ذنوبا من ماء) . وفي رواية لأبي داود عن عبد الله بن معقل بن مقرن: (خذوا ما بال عليه من التراب فالقوه وأهريقوا على مكانه ماء) .
بيان استنباط الاحكام من هذا الحديث، من جميع ألفاظه والروايات المختلفة فيه، وهو على وجوه. الأول: استنبط الشافعي منه على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة وصب عليها الماء تطهر. وقال النووي: ولا يشترط حفرها. وقال الرافعي: إذا أصابت الأرض نجاسة فصب عليها من الماء ما يغمرها، وتستهلك فيها النجاسة طهرت بعد نضوب الماء وقبله، فيه وجهان: إن قلنا: إن الغسالة طاهرة والعصر لا يجب فنعم، وإن قلنا: إنها نجسة والعصر واجب فلا، وعلى هذا فلا يتوقف
(3/125)
الحكم بالطهارة على الجفاف، بل يكفي أن يفاض الماء كالثوب المعصر فلا يشترط فيه الجفاف والتصوب كالعصر، وفيه وجه: أن يكون الماء المصبوب سبعة أضعاف البول، ووجه آخر: يجب أن يصب على بول الواحد ذنوب، وعلى بول الإثنين ذنوبان، وعلى هذا أبدا. انتهى. وقال أصحابنا: إذا أصابت الأرض نجاسة رطبة. فإن كانت الأرض رخوة صب عليها الماء حتى يتسفل فيها، وإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة، وتسفل الماء، يحكم بطهارتها، ولا يعتبر فيه العدد، وإنما هو على اجتهاده. وما هو في غالب ظنه أنها طهرت، ويقوم التسفل في الأرض مقام العصر فيما لا يحتمل العصر، وعلى قياس ظاهر الرواية يصب عليه الماء ثلاث مرات، ويتسفل في كل مرة، وإن كانت الأرض صلبة، فإن كانت صعودًا يحفر في أسفلها حفيرة ويصب الماء عليها ثلاث مرات، ويتسفل إلى الحفيرة، ثم تكبس الحفيرة. وإن كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا يغسل لعدم الفائدة في الغسل، بل تحفر، وعن أبي حنيفة: لا تطهر الأرض حتى تحفر إلى الموضع الذي وصلت إليه النداوة وينقل التراب، ودليلنا على الحفر الحديثان اللذآن أخرجهما الدارقطني: أحدهما: عن عبد الله، والآخر: عن أنس. وقد ذكرناهما عن قريب. وقد ذكرنا أيضا ما قاله الخطابي، وذكرنا جوابه أيضا. وروى عبد الرزاق في (مصنفه) عن ابن عيينة عن عمرو ابن دينار عن طاوس قال: (بال أعرابي في المسجد، فأرادوا أن يضربوه فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: أحفروا مكانه واطرحوا عليه دلواً من ماء، علموا ويسروا ولا تعسروا) . والقياس أيضا يقتضي هذا الحكم، لأن الغسالة نجسة فلا يطهر الأرض ما لم تحفر وينقل التراب. فإن قلت: قد تركتم الحديث الصحيح، واستدللتم بالحديث الضعيف وبالمرسل. قلت: قد عملنا بالصحيح فيما إذا كانت الأرض صلبة، وعملنا بالضعيف على زعمكم لا على زعمنا فيما إذا كانت الأرض رخوة، والعمل بالكل أولى من العمل بالبغض وإهمال البعض. وأما المرسل فهو معمول به عندنا، والذي يترك العمل بالمرسلات يترك العمل باكثر الاحاديث وفي اصطلاح المحدثين ان مرسلين صحيحين اذا عارضا حديثا صحيحا مسندًا كان العمل بالمرسلين أولى، فكيف مع عدم المعارضة؟
الثاني: استدل به بعض الشافعية على أن الماء متعين في إزالة النجاسة، ومنعوا غيره من المائعات المزيلة، وهذا استدلال فاسد، لأن ذكر الماء هنا لا يدل على نفي غيره، لأن الواجب هو الإزالة، والماء مزيل بطبعه، فيقاس عليه كل ما كان مزيلاً لوجود الجامع، على أن هذا الاستدلال يشبه مفهوم مخالفة وهو ليس بحجة.
الثالث: استدلت به جماعة من الشافعية وغيرهم أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرة، وذلك لأن الماء المصبوب لا بد أن يتدافع عند وقوعه على الأرض ويصل إلى محل لم يصبه البول مما يجاوره، فلولا أن الغسالة طاهرة لكان الصب ناشراً للنجاسة، وذلك خلاف مقصود التطهير، وسواء كانت النجاسة على الأرض أو غيرها، لكن الحنابلة فرقوا بين الأرض وغيرها، ويقال: إنه رواية واحدة عند الشافعية. إن كانت على الأرض، وإن كانت غيرها فوجهان. قلت: روي عن أبي حنيفة أنها بعد صب الماء عليها لا تطهر حتى تدلك وتنشف بصوف أو خرقة، وفعل ذلك ثلاث مرات، وإن لم يفعل ذلك لكن صب عليها ماء كثيرا حتى عرف أنه أزال النجاسة، ولم يوجد فيه لون ولا ريح، ثم ترك حتى نشفت كانت طاهرة.
الرابع: استدل به بعض الشافعية أن العصر في الثوب المغسول من النجاسة لا يجب، وهذا استدلال فاسد وقياس بالفارق، لأن الثوب ينعصر بالعصر بخلاف الأرض.
الخامس: استدل به البعض أن الأرض إذا اصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو بالهواء لا تطهر، وهي محكي عن أبي قلابة أيضا، وهذا أيضا فاسد، لأن ذكر الماء في الحديث لوجوب المبادرة إلى تطهير المسجد وتركه إلى الجفاف تأخير لهذا الواجب، وإذا تردد الحال بين الأمرين لا يكون دليلا على أحدهما بعينه.
السادس: فيه دليل على وجوب صيانة المساجد وتنزيهها عن الأقذار والنجاسات، ألا ترى إلى تمام الحديث في رواية مسلم: (ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه) أي: الأعرابي، (فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن) ؟
السابع: فيه دليل على أن المساجد لا يجوز فيها إلا ذكر الله والصلاة وقراءة القرآن بقوله: (وإنما هي لذكر الله) ، من قصر الموصوف على الصفة، ولفظ الذكر عام يتناول قراءة القرآن وقراءة العلم، ووعظ الناس والصلاة أيضا عام، فيتناول المكتوبة والنافلة، ولكن النافلة في المنزل أفضل، ثم غير هذه الأشياء: ككلام الدنيا والضحك واللبث فيه بغير نية الاعتكاف مشتغلاً بأمر من أمور الدنيا ينبغي أن لا يباح، وهو قول بعض الشافعية، والصحيح أن الجلوس فيه لعبادة أو قراءة علم أو درس أو سماع موعظة أو انتظار صلاة أو نحو ذلك مستحب، ويثاب على ذلك، وإن لم يكن
(3/126)
لشيء من ذلك كان مباحا، وتركه أولى. واما النوم فيه فقد نص الشافعي في (الأم) أنه يجوز، وقال ابن المنذر: رخص في النوم في المسجد ابن المسيت والحسن وعطاء والشافعي، وقال ابن عباس: لا تتخذوه مرقداً. وروي عنه أنه قال: إن كان ينام فيه لصلاة فلا بأس. وقال الأوزاعي: يكره النوم في المسجد. وقال مالك: لا بأس بذلك للغرباء، ولا أرى ذلك للحاضر. وقال احمد: إن كان مسافرًا أو شبهه فلا بأس، وإن اتخذه مقيلاً أو مبيتاً فلا، وهو قول إسحاق. وقال اليعمري، وحجة من أجاز نوم علي بن أبي طالب وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم، وأهل الصفة، والمرأة صاحبة الوشاح، والعرنية، وثمامة بن أثال، وصفوان بن أمية، وهي أخبار صحاح مشهورة. واما الوضوء فيه فقال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم الوضوء في المسجد إلا أن يتوضأ في مكان يبله ويتأذى الناس به، فإنه مكروه. وقال ابن بطال: هذا منقول عن ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاووس والنخعي وابن القاسم صاحب مالك، وذكر عن ابن سيرين وسحنون أنهما كرهاه تنزيها للمسجد، وقال بعض أصحابنا: إن كان فيه موضع معد للوضوء فلا بأس، وإلا فلا. وفي شرح الترمذي لليعمري: إذا اقتصد في المسجد، فان كان في غير الإناء فحرام، وإن كان في الإناء فمكروه، وإن بال في المسجد في إناء فوجهان أصحهما أنه حرام، والثاني أنه مكروه. ويجوز الاستلقاء في المسجد، ومد الرجل، وتشبيك الأصابع للأحاديث الثابتة في ذلك.
الثامن: فيه المبادرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
التاسع: فيه مبادرة الصحابة إلى الإنكار بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من غير مراجعة له. فإن قلت: أليس هذا من باب التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا، لأن ذلك مقرر عندهم في الشرع من مقتضى الإنكار، فأمر الشارع متقدم على ما وقع منهم في ذلك، وإن لم يكن في هذه الواقعة الخاصة إذن فدل على أنه لا يشترط الإذن الخاص، ويكتفي بالإذن العام.
العاشر: فيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، فإن البول فيه مفسدة، وقطعه على البائل مفسدة أعظم منها، فدفع أعظمها بأيسر المفسدتين، وتنزيه المسجد عنه مصلحة وترك البائل إلى الفراغ مصلحة أعظم منها، فحصل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.
الحادي عشر: فيه مراعاة التيسير على الجاهل والتألف للقلوب.
الثاني عشر: فيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع، لان الأعرابي حين فرغ أمر بصب الماء.
الثالث عشر: في رواية الترمذي: (أهريقوا عليه سجلاً من ماء، أو دلواً من ماء) اعتبار الأداء باللفظ، وإن كان الجمهور على عدم اشتراطه، وأن المعنى كاف، ويحمل: أو، ههنا على الشك، ولا معنى للتنويع ولا للتخيير ولا للعطف، فلو كان الراوي يرى جواز الرواية بالمعنى لاقتصر على أحدهما، فلما تردد في التفرقة بين الدلو والسجل، وهما بمعنى، علم أن ذلك التردد لموافقة اللفظ، قاله الحافظ القشيري، ولقائل أن يقول: إنما يتم هذا أن لو اتحد المعنى في السجل والدلو لغة، لكنه غير متحد، فالسجل: الدلو الضخمة المملوءة، ولا يقال لها فارغة: سجل.

58 - (باب صب الماء على البول في المسجد)

أي: هذا باب في بيان حكم صب الماء على بول البائل في مسجد من مساجد الله تعالى، وإذا جعلنا: الألف واللام، فيه للعهد يكون المعنى في: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون حكاية عن ذلك، وعلى الأول الحكم عام سواء كان في مسجد النبي او غيره.
والمناسبة بين البابين ظاهرة لا تخفى، وليس لذكر الباب زيادة فائدة، وبدونه يحصل المقصود.

220 - حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة قال قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء فانما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين.
(الحديث 220 طرفه في: 6217) .
(3/127)
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم خمسة: الأول: أبو اليمان، بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف الميم: هو الحكم بن نافع، وقد تقدم في كتاب الوحي. الثاني: شعيب بن أبي حمزة الحمصي. الثالث: محمد بن مسلم الزهري. الرابع: عبيد الله إلى آخره. الخامس: أبو هريرة، والكل تقدموا.
بيان لطائف اسناده فيه التحديث بصيغة الجمع. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع وبصيغة المفرد. وفيه: العنعنة. وفيه: أن رواته ما بين حمصي ومدني وبصري. وفيه: أخبرني عبيد الله عند أكثر الرواة عن الزهري، وروى سفيان بن عيينة عن سعيد بن المسيب، بدل: عبيد الله، وتابعه سفيان بن حسين، قال طاهر: إن الروايتين صحيحتان.
وأما بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره فقد ذكرناه في الباب السابق، وكذلك بيان لغاته وإعرابه.
بيان معانية قوله: (قام أعرابي) ، زاد ابن عيينة عند الترمذي، وغيره في أوله: (أنه، صلى ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحدا، فقال له النبي، عله الصلاة والسلام، لقد تحجرت واسعًا، فلم يلبث أن بقال في المسجد) . وستأتي هذه الزيادة عند المصنف في الأدب من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وأخرج هذا الحديث الجماعة ما خلا مسلما، وفي لفظ ابن ماجه: (احتصرت واسعًا) . وأخرج ابن ماجه حديث واثلة بن الأسقع أيضا، ولفظه: (لقد حصرت واسعًا ويلك أوويحك) . قوله: (لقد تحجرت) أي: ضيقت ما وسعه الله، وخصصت به نفسك دون غيرك، ويروى: احتجرت بمعناه، ومادته حاء مهملة ثم جيم ثم راء. وقوله: (احتصرت) ، بالمهملتين من الحصر، وهو الحبس والمنع. قوله: (فبال في المسجد) أي: مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم. قوله: (فتناوله الناس) أي: تناولوه بألسنتهم، وفي رواية للبخاري، تأتي: (فثار إليه الناس) وله في رواية عن، أنس: (فقاموا إليه) ، وفي رواية أنس أيضا في هذا الباب: (فزجره الناس) . وأخرجه البيهقي من طريق عبد ان شيخ البخاري، وفيه: (فصاح الناس به) . وكذا للنسائي من طريق ابن المبارك، ولمسلم من طريق إسحاق عن أنس: (فقال الصحابة: مه مه) ، قوله: (مه) ، كلمة بنيت على السكون، وهو اسم يسمى به الفعل، ومعناه: أكفف، لأنه زجر. فإن وصلت نونته، فقلت: مه مه. ومه الثاني تأكيد، كما تقول: صه صه، وفي رواية الدارقطني: (فمر عليه الناس فأقاموه، فقال صلى الله عليه وسلم دعوه، عسى أن يكون من أهل الجنة، فصبوا على بوله الماء) . قوله: (وهريقوا) ، وفي رواية للبخاري في الأدب: (واهريقوا) ، وقد ذكرنا أن أصل: أهريقوا، أريقوا. قوله: (أو ذنوبا من ماء) قال الكرماني: لفظ: من، زائدة، وزيدت تأكيدًا، وكلمة: أو، يحتمل أن تكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون للتخيير، وأن تكون من الرواي فتكون للترديد. قلت: ليس الأمر كذلك، وقد قلنا الصواب فيه عن قريب. قوله: (ميسرين) حال، فإن قلت: المبعوث هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف هذا؟ قلت: لما كان المخاطبون مقتدين به ومهتدين بهذاه صلى الله عليه وسلم كانوا مبعوثين أيضا، فجمع اللفظ باعتبار ذلك، والحاصل أنه على طريقة المجاز، لأنهم لما كانوا في مقام التبليغ عنه في حضوره وغيبته أطلق عليهم ذلك، أو لأنهم لما كانوا مأمورين من قبله بالتبليغ فكأنهم مبعوثون من جهته. قوله: (ولم تبعثوا معسرين) ، ما فائدته وقد حصل المراد من قوله: (بعثتم) إلى آخره؟ قلت: هذا تأكيد بعد تأكيد، دلالة على أن الأمر مبني على اليسر قطعا.

221 - حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يحيى بن سعيد قال سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا.
(انظر الحديث: 219 وطرفه) .
عبدان، بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة: وهو لقب عبد الله العتكي، وعبد الله هو ابن المبارك الإمام، تقدما في كتاب الوحي. ويحيى بن سعيد الأنصاري تقدم أيضا. وأخرج البيهقي هذا الحديث من طريق عبدان هذا، ولفظه: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى حاجته قام إلى ناحية المسجد فبال، فصاح به الناس، فكفهم عنه ثم قال: صبوا عليه دلواً من ماء) .

وحدثنا خالد وحدثنا سليمان عن يحيى بن سعيد قال سمعت أنس بن مالك قال جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى
(3/128)
بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه.
قد تقدم أن لفظه: الحاء، علامة التحويل من إسناد الى إسناد. وقوله: (وحدثنا) بواو العطف على قوله: (حدثنا عبدان) ورواية كريمة بلا: واو. و: مخلد، بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح اللام، وسليمان بن بلال وكلاهما تقدما في باب طرح الامام المسألة. قوله: (من طائفة المسجد) أي: قطعة من أرض المسجد. قوله: (فهريق) ، بضم الهاء وكسر الراء: على صيغة المجهول، ومعناه: أريق، وهذه رواية أبي ذر. وفي رواية الباقين: (فأهريق عليه) ، بزيادة الهمزة في أوله. وقال ابن التين: هذا إنما يصح على ما قاله سيبويه لأنه فعل ماض وهاؤه ساكنة، وأما على الأصل فلا تجتمع الهمزة والهاء في الماضي. قال: ورويناه بفتح الهاء، ولا أعلم لذلك وجها.
وفوائد هذا الحديث قد مرت. وقال بعضهم: وفيه: تعيين الماء لإزالة النجاسة لأن الجفاف بالريح أو الشمس لو كان يكفي لما حصل التكليف بطلب الدلو. قلت: هذا الاستدلال فاسد لأن ذكر الماء لا ينفي غيره، وقد استوفينا الكلام فيه في الباب السابق. وكذا قوله: وفيه أن الأرض تطهر بصب الماء عليها ولا يشترط حفرها، خلافًا للحنفية، فاسد، لأنا ذكرنا فيما مضى عن قريب أنه ورد الأمر بالحفر في حديثين مسندين وحديثين مرسلين، والمراسيل حجة عندهم.

59 - (باب بول الصبيان)

أي: هذا باب في بيان حكم بول الصبيان، وهو، بكسر الصاد: جمع صبي. قال الجوهري: الصبي: الغلام، والجمع: صبية وصبيان، وهو من الواوي. وفي (المخصص) : ذكر بن سيده عن ثابت: يكون صبيان ما دام رضيعاً، وفي (المنتخب) للكراع: أول ما يولد الولد يقال له: وليد، وطفل، وصبي. وقال ابن دريد: صبي وصبيان وصبوان، وهذه أضعفها. وقال ابن السكيت: صبية وصبوة، وفي (المحكم) صبية وصبية وصبوان وصبوان. وقال بعضهم: الصبيان، بكسر الصاد، ويجوز ضمها، جمع: صبي. قلت: في الضم لا يقال إلا صبوان بالواو، وقد وهم هذا القائل حيث لم يعلم الفرق بين المادة الواوية والمادة اليائية، وأصل: صبيان، بالكسر: صبوان، لأن المادة واوية، فقلبت الواو ياء، لانكسار ما قبلها.
ووجه المناسبة بين البابين ظاهر لا يخفى.

222 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت اتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم خمسة، والكل قد تقدموا، وعبد الله هو التنيسي، وعروة هو ابن الزبير بن العوام، رضي الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع والإخبار بصيغة الجمع. وفيه: العنعنة في ثلاث مواضع.
بيان من أخرجه غيره أخرجه النسائي في الطهارة عن قتيبة عن مالك.
بيان لغته ومعناه قوله: (بصبي) ، قد مر تفسير الصبي الآن وذكر الدارقطني من حديث الحجاج بن أرطاة: أن هذا الصبي هو عبد الله بن الزبير، رضي الله تعالى عنهما: (وأنها قالت: فأخذته أخذا عنيفاً، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه لم يأكل الطعام فلا يضر بوله) . وفي لفظ: (فإنه لم يطعم الطعام فلم يقذر بوله) . وقد قيل: إنه الحسن، وقيل: إنه الحسين. وقال بعضهم: يظهر لي أن المراد به ابن ام قيس المذكور بعده. قلت: هذا ليس بظاهر أصلا، والظاهر أحد الأقوال الثلاثة، وأظهرها ما ذكره الدارقطني. قوله: (فاتبعه إياه) أي: فاتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم البول الذي على الثوب الماء، وذلك بصبه عليه. وفي رواية مسلم زاد: (ولم يغسله) ، ولابن المنذر من طريق الثوري عن هشام: (فصب عليه الماء) ، وفي رواية الطحاوي من طريق زائدة الثقفي عن هشام: (فنضحه عليه) .
بيان استنباط الأحكام منها: أن الشافعية احتجوا بهذا على أن بول الصبي يكتفى فيه باتباع الماء إياه، ولا
(3/129)
يحتاج إلى الغسل لظاهر رواية مسلم. ولم يغسله، وعن هذا قال بعضهم بطهارة بوله. وقال النووي: الخلاف في كيفية تطهير الشيء الذي بال عليه الصبي، ولا خلاف في نجاسته، وقد نقل بعض أصحابنا إجماع العلماء على نجاسة بول الصبي، وأنه لم يخالف فيه إلا داود. وأما ما حكاه أبو الحسن بن بطال، ثم القاضي عياض عن الشافعي وغيره أنهم قالوا: بول الصبي طاهر وينضح، فحكايته باطلة قطعا. قلت: هذا إنكار من غير برهان، ولم ينقل هذا عن الشافعي وحده، بل نقل عن مالك أيضا أن بول الصغير الذي لا يطعم طاهر، وكذا نقل عن الأوزاعي وداود الظاهري، ثم قال النووي وكيفية طهارة بول الصبي والجارية على ثلاثة مذاهب: وفيها ثلاثة أوجه لأصحابنا: الصحيح المشهور المختار أنه يكفي النضح في بول الصبي ولا يكفي في بول الجارية، بل لا بد من غسله كغيره من النجاسات. والثاني: أنه يكفي النضح فيهما. والثالث: لا يكفي النضح فيهما، وهما شاذان ضعيفان. وممن قال بالفرق: علي بن أبي طالب وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن وهب من أصحاب مالك، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وروي عن أبي حنيفة، رحمه الله تعالى، قلت: علم من ذلك أن الصحيح من مذهب الشافعي هو التفريق بين حكم بول الصبي وبول الصبية قبل أن يأكل الطعام، وأنه يدل على أن بول الصبي طاهر، وبول الصبية نجس، وبه قال أحمد وإسحق وأبو ثور.
واحتجوا على ذلك باحاديث منها: حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، المذكور. لأن إتباع الماء البول هو النضح دون الغسل، ولهذا صرح في رواية مسلم: (ولم يغسله) ، وعدم الغسل دل على طهارة بول الصبي. ومنها: حديث علي، رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرضيع: (يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام) ، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه. ومنها: حديث لبابة بنت الحارث، أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان الحسين بن علي، رضي الله تعالى عنهما، في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال عليه، فقلت: إلبس ثوبا وأعطني إزارك حتى أغسله. قال: إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر) ، أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة في (صحيحه) والكبحي في (سننه) والبيهقي أيضا في (سننه) من وجوه كثيرة، والطحاوي أيضا من وجهين. ومنها: حديث أم قيس على ما يأتي عن قريب إن شاء الله. ومنها: حديث زينب بنت جحش، رضي الله تعالى عنها، أخرجه الطبراني في (الكبير) مطولا، وفيه: (أنه يصب من الغلام ويغسل من الجارية) ، وفي إسناده: ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. ومنها: حديث أبي السمح، أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه قال: (كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم ... .) الحديث، وفيه: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام) ، وأبو السمح، بفتح السين المهملة وسكون الميم وفي آخره حاء مهملة، ولا يعرف له اسم ولا يعرف له غير هذا الحديث، كذا قاله ابو زرعة الرازي، وقيل: اسمه إياد. ومنها: حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه الطبراني في (الأوسط) عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي فبال عليه، فنضحه وأتي بجارية فبالت عليه فغسله) . ومنها: حديث ابن عباس، أخرجه الدارقطني عنه، قال: (أصاب النبي صلى الله عليه وسلم أو، جلده، بول صبي وهو صغير، فصب عليه من الماء بقدر البول) . ومنها: حديث أنس بن مالك أخرجه الطبراني في (الكبير) مطولا، وفيه: (يصب على بول الغلام ويغسل بول الجارية) . وفي إسناده نافع بن هرمز، وأجمعوا على ضعفه. ومنها: حديث أبي أمامة، أخرجه أيضا في (الكبير) : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بالحسين فجعل يقبله، فبال عليه، فذهبوا ليتناولوه فقال: ذروة، فتركه حتى فرغ من بوله) . وفي إسناده عمرو بن معدان، وأجمعوا على ضعفه. ومنها: حديث أم سلمة، رضي الله عنها، عنده أيضا في (الأوسط) أن الحسن، أو الحسين، بال على بطن النبي صلى الله عليه وسلم فقال، عليه الصلاة والسلام: (لا تزرموا ابني أو، لا تستعجلوه، فتركوه حتى قضى بوله، فدعا بماء فصبه عليه) . ومنها: حديث أم كرز، أخرجه ابن ماجه عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بول الغلام ينضح وبول الجارية يغسل) ، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه ومالك أنه لا يفرق بين بول الصغير والصغيرة في نجاسته، وجعلوهما سواء في وجوب غسله منهما، وهو مذهب إبراهيم النخعي وسعيد ابن المسيب والحسن بن حي والثوري.
وأجابوا عن ذلك بأن النضح هو صب الماء لأن العرب تسمي ذلك نضحاً، وقد يذكر ويراد به الغسل، وكذلك الرش يذكر ويراد به الغسل.
أما الأول: فيدل عليه ما رواه أبو داود وغيره: (عن المقداد بن الأسود أن علي بن ابي طالب، رضي الله تعالى عنه، أمره أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه؟ قال: علي: فأن
(3/130)
عندي ابنته وانا استحي أن اسأله. قال المقداد: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة) ، ثم الذي يدل على أنه أريد بالنضح ههنا الغسل، ما رواه مسلم وغيره عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: (كنت رجلا مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، فامرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ) . والقصة واحدة، والراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد، ومما يدل على أن النضح يذكر ويراد به الغسل ما رواه الترمذي وغيره عن سهل بن حنيف قال: (كنت ألقى من المذي شدة، وكنت أكثر منه الغسل، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما يجزيك من ذلك الوضوء. قلت: يا رسول الله فكيف بما يصيب ثوبي منه؟ فقال: يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به من ثوبك حيث يرى أنه أصابه) . وأنه أراد بالنضح ههنا الغسل.
واما الثاني: وهو أن الرش يذكر ويراد به الغسل، فقد صح عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، أنه لما حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها، وأراد بالرش ههنا صب الماء قليلا قليلا، وهو الغسل بعينه.
ومما يدل على أن النضح والرش يذكران ويراد بهما الغسل قوله، عليه الصلاة والسلام، وفي حديث أسماء، رضي الله تعالى عنها: (تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه) . معناه: تغسله، هذا في رواية الصحيحين، وفي رواية الترمذي: (حتيه ثم اقرضيه ثم رشيه وصلي فيه) . أراد: اغسليه، قاله البغوي، فلما ثبت أن النضح والرش يذكران ويراد بهما الغسل، وجب حمل ما جاء في هذا الباب من النضح والرش على الغسل بمعنى إسالة الماء عليه من غير عرك، لأنه متى صب الماء عليه قليلا قليلا حتى تقاطر وسال حصل الغسل، لأن الغسل هو الإسالة. فافهم.
فإن قلت: قد صرح في رواية مسلم وغيره: (فاتبعه بوله ولم يغسله) ، فكيف يحمل النضح والرش على الغسل؟ قلت: معناه ولم يغسله بالعرك كما يغسل الثياب إذا أصابتها النجاسة، ونحن نقول به. قال النووي: وأما حقيقة النضح ههنا فقد اختلف اصحابنا فيها، فذهب الشيخ أبو محمد الجويني والقاضي حسين والبغوي إلى أن معناه أن الشيء الذي أصابه البول يغمر بالماء كسائر النجاسات، بحيث لو عصر لانعصر، وذهب إمام الحرمين والمحققون إلى أن النضح أن يغمر ويكاثر بالماء مكاثرة لا يبلغ جريان الماء وتقاطره، بخلاف المكاثرة في غيره، فإنه يشترط فيها أن يكون بحيث يجري بعض الماء ويتقاطر من المحل، وإن لم يشترط عصره، وهذا هو الصحيح المختار، ثم إن النضح إنما يجزىء ما دام الصبي يقتصر به على الرضاع، أما إذا أكل الطعام على جهة التغذية فإنه يجب الغسل بلا خلاف، وسنقول معنى النضح مما قاله أهل اللغة في الحديث الآتي، ولا فرق بين النضح والغسل فيما قاله البغوي والجويني. وقال ابن دقيق العيد: اتبعوا في ذلك القياس، أراد أن الحنفية اتبعوا في هذه المسألة القياس، يعني: تركوا الأحاديث الصحيحة وذهبوا إلى القياس، وقالوا: المراد من قولهما، أي: من قول أم قيس، ولم يغسله، أي: غسلا مبالغاً فيه، وهو خلاف الظاهر.
ويبعده ما ورد في الأحاديث الأخر التي فيها التفرقة بينهما أوجه: منها: ما هو ركيك، وأقوى ذلك ما قيل إن النفوس أعلق بالذكور منها بالإناث، يعني: فحصت الرخصة في الذكور لكثرة المشقة. قلت: نقل عن بعضهم للغمز على الحنفية، ولكن هذا لا يشفي غلتهم، فقوله: اتبعوا في ذلك القياس، غير صحيح، لأنهم ما اتبعوا في ذلك إلا الأحاديث التي احتج خصمهم بها، ولكن على غير الوجه الذي ذكروا، وقد ذكرناه الآن محرراً، على أنه قد روي عن بعض المتقدمين من التابعين ما يدل على أن الأبوال كلها سواء في النجاسة، وأنه لا فرق بين بول الذكر والانثى، فمنها ما رواه الطحاوي، وقال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: الرش بالرش والصب بالصب من الأبوال كلها. حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد عن حميد عن الحسن أنه قال: بول الجارية يغسل غسلا وبول الغلام يتبع بالماء، أفلا يرى أن سعيداً قد سوى بين حكم الأبوال كلها، من الصبيان وغيرهم، فجعل ما كان منه رشاً يطهر بالرش، وما كان منه صبا يطهر بالصب، ليس لأن بعضها عنده طاهر وبعضها غير طاهر، ولكنها كلها عنده نجسة، وفرق بين التطهير من نجاستها عنده بضيق مخرجها وسعته إنتهى كلام الطحاوي ومعنى قوله: وفرق ... إلى آخره، أن مخرج البول من الصبي ضيق فيرش البول، ومن الجارية واسع فيصب البول صبا، فيقابل الرش بالرش والصب بالصب.
ومنها: أن فيه الندب إلى حسن المعاشرة واللين والتواضع والرفق بالصغار وغيرهم.
ومنها استحباب حمل الاطفال إلى أهل الفضل للتبرك بهم، وسواء في هذا الاستحباب المولود حال ولادته أو بعدها.
(3/131)
223 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله.
(الحديث 223 طرفه في: 5693) .
مطابقة للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم خمسة تقدموا كلهم، وابن شهاب محمد بن مسلم الزهري، وأم قيس، بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف. ومحصن، بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة وفي آخره نون، وهي أخت عكاشة ابن محصن، أسلمت بمكة قديما، وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وهاجرت إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم روي لها أربعة وعشرون حديثا، في الصحيحين. منها إثنان، وهي من المعمرات. وقال ابن عبد البر: اسمها جذامفة، بالجيم والذال المعجمة، وقال السهيلي: اسمها آمنة، وذكرها الحافظ الذهبي في (تجريد الصحابة) في الكنى، ولم يذكرها لها اسما.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار بصيغة الجمع في موضع، والعنعنة في ثلاث مواضع، ورواته ما بين تنيسي ومدني.
بيان من أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا فقط. وأخرجه بقية الجماعة: فمسلم في الطب عن ابن أبي عمر، وفيه وفي الطهارة عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن ابي شيبة وعمرو الناقد وأبي خيثمة زهير بن حرب، خمستهم عن سفيان بن عيينة، وفي الطهارة أيضا عن محمد ابن رمح عن الليث بن سعد وعن حرملة بن يحيى عن ابن وهب عن يونس، ثلاثتهم عن الزهري به. وخرجه أبو داود في الطهارة عن القعنبي عن مالك به، والترمذي فيه عن قتيبة، وأحمد بن منيع، كلاهما عن سفيان بن عيينة به، والنسائي فيه عن قتيبة عن مالك، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، كلاهما عن سفيان به.
بيان لغته وإعرابه قوله: (بابن لها) الإبن: لا يطلق إلا على الذكر بخلاف: الولد. قوله: (صغير) هو ضد: الكبير، ولكن المراد منه: الرضيع، لأنه فسره بقوله: (لم يأكل الطعام) ، فإذا أكل يسمى: فطيماً، وغلامًا أيضا إلى سبع سنين. وقال الزمخشري: الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء. وقال بعضهم من أهل اللغة: ما دام الولد في بطن أمه فهو: جنين، فاذا ولدته يسمى: صبيا ما دام رضيعاً، فإذا فطم يسمى غلاما إلى سبع سنين، فمن هذا عرفت أن الصغير يطلق إلى حد الالتحاء من حين يولد، فلذلك قيد في الحدث بقوله: (لم يأكل الطعام) ، والطعام في اللغة ما يؤكل، وربما خص الطعام بالبر، وفي حديث أبي سعيد: (كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير) . والطعم، بالفتح: ما يؤديه الذوق، ويقال: طعمه مر، والطعم، بالضم: الطعام: وقد طعم يطعم طعماً فهو طاعم إذا أكل وذاق، مثل: غنم يغنم غنما فهو غانم، الذوق، يقال: طعمه مر، والطعم، بالضم: الطعام. وقد طعم يطعم طعماً فهو طاعم إذا أكل وذاق، مثل: غنم يغنم غنما فهو غانم، قال تعالى: {فاذا طعمتم فانتشروا} (الأحزاب: 53) وقال تعالى: {ومن لم يطعمه فانه منى} (البقرة: 249) اي: من لم يذقه، قاله الجوهري. وقال الزمخشري أيضا: ومن لم يطعمه ومن لم يذقه، من طعم الشيء إذا ذاقه. ومنه: طعم الشيء لمذاقه، قال:
(وان شئت لم اطعم نقاخا ولا بردا)

ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم؟ قلت: أو البيت.
(وان شئت حرمت النساء سواكم.)

والنقاخ، بضم النون وبالقاف والخاء المعجمة: الماء العذب، وقال بعضهم: وقد أخذه من كلام النووي: المراد من الطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه، والتمر الذي يحنك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة وغيرها. قلت: لا يحتاج إلى هذه التقديرات، لأن المراد من قوله: (لم يأكل الطعام) لم يقدر على مضغ الطعام ولا على دفعه إلى باطنه، لأنه رضيع لا يقدر على ذلك، أما اللبن فإنه مشروب غير مأكول فلا يحتاج إلى استثنائه لأنه لم يدخل في. قوله: (لم يأكل الطعام) حتى يستثنى منه، وأما التمر الذي يحنك به، أو العسل الذي يلعقه، فليس باختياره، بل بعنف من فاعله قصدا للتبرك أو المداواة، فلا حاجة أيضا لاستثنائهما، فعلم مما ذكرنا أن المراد من قوله: (لم يأكل الطعام) أي: قصدا أو استقلالا أو تقوياً فهذا شأن الصغير الرضيع، وقد علمت من هذا أن الذي نقله القائل المذكور من النووي، ومن نكت التنبيه صادر من غير روية ولا تحقيق، وكذلك لا يحتاج إلى سؤال الكرماني وجوابه ههنا، بقوله: فان قلت: اللبن طعام، فهل يخص الطعام بغير اللبن أم لا؟ قلت: الطعام هو ما يؤكل، واللبن مشروب لا مأكول فلا يخصص، قوله: (فأجلسه رسول الله، صلى الله عليه وسلم) ، الضمير المنصوب فيه يرجع إلى الابن.
(3/132)
قال بعضهم: أي وضعه. إن قلنا: إنه كان كما ولد، ويحتمل أن يكون الجلوس حصل منه على العادة. إن قلنا: إنه كان في سن من يحبو. قلت: ليس المعنى كذلك لأن الجلوس يكون عن نوم أو اضطجاع، وإذا كان قائما كانت الحال التي يخالفها القعود، والمعنى ههنا: أقامه عن مضجعه، لأن الظاهر أن أم قيس أتت به وهو في قماطة مضطجع، فأجلسه النبي، صلى الله عليه وسلم، أي: أقام في حجره، وإن كانت اتت به وهو في يدها، بأن كان عمره مقدار سنة أو جاوزها قليلا، والحال أنه رضيع، يكون المعنى: تناوله منها وأجلسه في حجره وهو يمسكه لعدم مسكته، لأن أصل تركيب هذه المادة يدل على ارتفاع في الشيء، و: الحجر، بكسر الحاء وفتحها وسكون الجيم، لغتان مشهورتان. قوله: (فبال على ثوبه) الظاهر أن الضمير في ثوبه يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل: إنه يرجع إلى الابن اي: بال الابن على الثوب نفسه، وهو في حجره صلى الله عليه وسلم، فنضح عليه الماء خوفًا أن يكون طار على ثوبه منه شيء. قلت: هذا مما يؤيد قول الحنفية، وقد نسب هذا القول إلى ابن شعبان. قوله: (فنضحه) ، قد ذكرنا أن النضح هو الرش، وقال ابن سيده: نضح الماء عليه ينضحه نضحاً إذا ضربه بشيء فأصابه منه رشاش، ونضح عليه الماء: رش. وقال ابن الأعرابي: النضح ما كان على اعتماد، والنضح ما كان على غير اعتماد. وقيل: هما لغتان بمعنى، وكله: رش. قلت: الأول: بالحاء المهملة، والثاني: بالخاء المعجمة، وفي (الواعي) لأبي محمد، و (الصحاح) لأبي نصر، و (المجمل) لابن فارس، و (الجمهرة) لابن دريد، وابن القطوية وابن القطاع وابن طريف في (الافعال) والفارابي في (ديوان الادب) وكراع في (المنتخب) وغيرهم: النضح الرش، وقد استقصينا الكلام به في الحديث السابق مستقصىً. قوله: (ولم يغسله) ، ولمسلم من طريق الليث عن ابن شهاب: (فلم يزد على أن نضح بالماء) ، وله من طريق ابن عيينة عن ابن شهاب: فرشه. وقال بعضهم: ولا تخالف بين الروايتين بين نضح ورش، لأن المراد به أن الابتداء كان بالرش وهو بتنقيط الماء. فانتهى إلى النضح، وهو صب الماء، ويؤيده رواية مسلم في حديث عائشة من طريق جرير عن هشام: (فدعا بماء فصبه عليه) ، ولأبي عوانة: (فصبه على البول يتبعه إياه) . قلت: عدم التخالف بين الروايتين ليس من الوجه الذي ذكره، بل باعتبار أن النضح والرش بمعنى، كما ذكرنا عن الكتب المذكورة، والوجه الذي ذكره ليس بوجه على ما لا يخفى، وأما رواية مسلم فإنها تثبت أن النضح بمعنى: الصب، لأن الأحاديث المذكورة في هذا الباب، باختلاف ألفاظها، تنتهي إلى معنى واحد، دفعا للتضاد. ألا ترى أن أم الفضل، لبابة بنت الحارث، قد روي عنها حديثان: أحدهما فيه النضح، والثاني: فيه الصب، فحمل النضح على الصب دفعا للتضاد، وعملا بالحديثين على أن الأحاديث الواردة في حكم واحد باختلاف ألفاظها يفسر بعضها بعضًا، ومن الدليل على أن النضح هو صب الماء والغسل من غير عرك قول العرب: غسلني السماء، وإنما يقولون ذلك عند انصباب المطر عليهم، وكذلك يقال غسلني التراب: إذا انصب عليه. فإن قلت: يعكر على هذا قوله: (فنضحه ولم يغسله) قلت: قد مر جوابه في تفسير الحديث السابق، على أن الأصيلي ادعى أن قوله: (ولم يغسله) من كلام ابن شهاب راوي الحديث، وأن المرفوع انتهى عند قوله: (فنضحه) . قال: وكذلك رواه معمر عن ابن شهاب، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، قال: فرشه، ولم يزد على ذلك.
وأما الإعراب فقوله: (لها) : جملة في محل الجر لأنها صفة لابن، وكذلك، قوله: (صغير) بالجر صفة ابن، وكذلك قوله: (لم يأكل الطعام) ، وقوله: (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) كلمة: إلى، تتعلق بقوله: (اتت) ، و: الفا آت، الأربعة للعطف بين الكلام، بمعنى التعقيب.
بيان استنباط الأحكام منها: حكم بول الغلام الرضيع وقد مر الكلام فيه مستقصى. ومنها: الرفق بالصغار والشفقة عليهم، ألا ترى أن سيد الأولين والآخرين كيف كان يأخذهم في حجره ويتلطف بهم؟ حتى إن منهم من يبول على ثوبه فلا يؤثر فيه ذلك، ولا يتغير، ولهذا كان يخفف الصلاة عند سماعه بكاء الصبي وأمه وراءه، وروي عنه أنه قال: من لم يرحم صغيرنا فليس منا. ومنها: حمل الأطفال إلى أهل الفضل والصلاح ليدعوا لهم، سواء كان عقيب الولادة أو بعدها، وقال بعضهم: حمل الاطفال حال الولادة. قلت: حملهم حال الولادة غير متصور، فهذا كلام صادر عن غير ترو، وأيضًا قال هذا القائل: في هذا الحديث من الفوائد كذا وكذا، وعد منها: تحنيك المولود، وليس في الحديث ما يدل على ذلك صريحًا، وإن كان جاء هذا في أحاديث أخر لأن ظاهر الحديث يدل على أن أم قيس إنما أتت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التبرك، ولدعائه له، لأن من
(3/133)
دعا له هذا النبي الكريم يسعد في الدنيا والآخرة، وإن كان فيه احتمال التحنيك.

60 - (باب البول قائماً وقاعداً)

أي: هذا باب في بيان حكم البول حال كونه قائما وحال كونه قاعدا. قيل: دلالة الحديث على القعود بطريق الأولى لأنه إذا جاز قائما فقاعداً أجوز. وأجاب بعضهم بقوله: ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى حديث عبد الرحمن بن حسنة الذي أخرجه النسائي، وابن ماجه وغيرهما، فإن فيه: (بال رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، فقلنا: انظروا، اليه يبول كما تبول المرأة) . قلت: قوله: دلالة الحديث ... إلى آخره، غير مسلم، لأن أحاديث الباب كلها في البول قائما، وجواز البول قائما حكم من الأحكام الشرعية، فكيف يقاس عليه جواز البول قاعدا بطريق العقل؟ والأحسن أن يقال: لما ورد في هذا الباب جوز البول قائما وجوازه قاعدا بأحاديث كثيرة، أورد البخاري أحاديث الفصل الأول فقط؛ وفي الترجمة أشار إلى الفصلين إما اكتفاء لشهرة الفصل الثاني، وعمل أكثر الناس عليه، وإما إشارة إلى أنه وقف عل أحاديث الفصلين، ولكنه اقتصر على أحاديث الفصل الأول لكونها على شرطه.
وجه المناسبة بين البابين ظاهرة لأن كلا منهما في أحكام البول، وكذلك بينه وبين الباب الذي يأتي، والذي يأتي بعده أيضا، والحاصل أن هنا تسعة أبواب كلها في أحكام البول، والمناسبة بينها ظاهرة لا تخفى.

224 - حدثنا آدم قال حدثنا شعبة عن الاعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائماً ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، لا يقال: الترجمة أعم، لأنا ذكرنا فيما مضى ما يكفي في رده.
بيان رجاله وهم خمسة تقدموا كلهم، وآدم: هو ابن أبي إياس، والأعمش: هو سليمان بن مهران، وأبو وائل: هو شقيق الكوفي، وحذيفة: هو ابن اليمان.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين خراساني وكوفي. وفيه: عن أبي وائل، ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن الأعمش أنه: سمع أبا وائل، ولأحمد عن يحيى القطان عن الأعمش: حدثني أبو وائل.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا عن آدم عن شعبة، وأخرجه أيضا في الطهارة عن سليمان ابن حرب مختصرا كما ههنا، وفي الطهارة أيضا عن محمد بن عرعرة، كلاهما عن شعبة وعن عثمان بن أبي شيبة عن جرير، وأول حديث محمد بن عرعرة: كان أبو موسى يشدد على البول، وعلى ما سيأتي عن قريب. وأخرجه مسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى عن أبي خيثمة زهير بن معاوية عن الأعمش به وفيه ذكر المسح، وعن يحيى بن يحيى عن جرير نحو حديث محمد بن عرعرة. وأخرجه أبو داود فيه عن حفص بن عمر ومسلم ابن إبراهيم، كلاهما عن شعبة، وعن مسدد عن أبي عوانة. وأخرجه الترمذي فيه عن هناد عن وكيع عن الأعمش به. وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم عن يحيى بن يونس، وعن المؤمل بن هشام عن ابن علية عن شعبة، كلاهما عن الأعمش به، وعن ابن بشار عن غندر عن شعبة عن منصور به، وعن سليمان بن عبد الله الغيلاني عن بهز عن شعبة عن الأعمش ومنصور به، وليس فيه ذكر المسح إلا في حديث عيسى بن يونس، وفي حديث بهز. وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن شريك وهشيم ووكيع، ثلاثتهم عن الأعمش به من غير ذكر المسح.
بيان لغته وإعرابه قوله: (سباطة قوم) السباطة: على وزن فعالة بالضم، وهو: الموضع الذي يرمى فيه التراب بالأفينة مرفعاً. وقيل: السباطة: الكناسة نفسها، وكانت بالمدينة، ذكره محمد بن طلحة بن مصرف عن الأعمش. قوله: (قائما) نصب على الحال من الضمير الذي في: (فبال) .
بيان المعنى إضافة السباطة إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك، لأنها كانت بفناء دورهم للناس كلهم، فاضيف إليهم لقربها منهم، ولهذا بال، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، عليها، وبهذا يندفع إشكال من قال: إن البول يوهن الجدار وفيه ضرر، فكيف هذا من النبي، عليه الصلاة والسلام؟ وقد يقال: إنما بال فوق
(3/134)
السباطة لا في أصل الجدار، وقد صرح به في رواية أبي عوانة في (صحيحه) ، وقيل: يحتمل أن يكون علم أذنهم في الجدار بالتصريح أو غيره، أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه صلى الله عليه وسلم بإيثارهم إياه بذلك، يجوز له التصرف في مالك أمته دون غيره، ولأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم. قلت: هذا كله على تقدير أن تكون السباطة ملكا لأحد أو لجماعة معينين، وقال الكرماني: وأظهر الوجوه أنهم كانوا يؤثرون ذلك ولا يكرهونه بل يفرحون به، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه والأكل من طعامه. قلت: هذا أيضا على تقدير أن تكون السباطة ملكا لقوم. فإن قلت: كان من عادته صلى الله عليه وسلم التباعد في المذهب، وقد روى أبو داود عن المغيرة بن شعبة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد) . والمذهب، بالفتح: الموضع الذي يتغوط فيه. وأخرجه بقية الأربعة أيضا. قلت: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولًا في ذلك الوقت بأمور المسلمين والنظر في مصالحهم، فلعله طال عليه الأمر، فأتى السباطة حين لم يمكنه التباعد، وأنه لو أبعد لكان تضرر. فان قلت: روى ابو داود من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (كنت مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأراد ان يبول فأتى دمثا في أصل جدار فبال) الحديث، فهذا يخالف ما ذكرت فيما مضى عن قريب. قلت: يجوز أن يكون الجدار ههنا عادياً غير مملوك لأحد، أو يكون قعوده متراخيا عن جرمه فلا يصيبه البول. قوله: (ثم دعا بماء) زاد مسلم وغيره من طرق الأعمش: (فتنحيت فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبه) . وفي رواية أحمد عن يحيى القطان: (أتى سباطة قوم فتباعدت منه، فأدناني حتى صرت قريبا من عقبه، فبال قائما، ودعا بماء فتوضأ به ومسح على خفيه) .
بيان استنباط الأحكام الاول: فيه جواز البول قائما فقاعداً أجوز لأنه أمكن، وقد اختلف العلماء في هذا فأباحه قوم، وقال ابن المنذر: ثبت أن عمر وابنه وزيد بن ثابت وسهل بن سعد أنهم بالوا قياما، وأباحه سعيد بن المسيب وعروة ومحمدابن سيرين وزيد بن الأصم وعبيدة السلماني والنخعي والحكم والشعبي وأحمد وآخرون، وقال مالك: إن كان في مكان لا يتطاير عليه منه شيء فلا بأس به، وإلا فمكروه. وقالت عامة العلماء: البول قائما مكروه إلا لعذر، وهي كراهة تنزيه لا تحريم، وكذلك روي والبول قائما عن أنس وعلي بن أبي طالب وابي هريرة، رضي الله عنهم وكرهه ابن مسعود وإبراهيم بن سعد، وكان إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائما، وقال ابن المنذر: البول جالسا أحب إلي، وقائمًا مباح، وكل ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: رويت أحاديث ظاهرها يعارض حديث الباب. منها: حديث المقداد عن أبيه عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: (من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائما فلا تصدقه، أنا رأيته يبول قاعدا) ، أخرجه البستي في (صحيحه) ورواه الترمذي، وقال: حديث عائشة أحسن شيء في هذا الباب وأصح. وأخرج أبو عوانة الإسفرائيني في (صحيحه) بلفظ: (ما بال قائما منذ أنزل عليه القرآن) . ومنها: حديث بريدة، رواه البزار بسند صحيح: حدثنا نصر بن علي حدثنا عبد الله بن داود حدثنا سعيد بن عبيد الله حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائما) الحديث، وقال: لا أعلم رواه عن ابن بريدة إلا سعيد بن عبد الله، وقال الترمذي: وحديث بريدة في هذا غير محفوظ، وقول الترمذي يرد به. ومنها: حديث عمر، رضي الله تعالى عنه، وأخرجه البيهقي من حديث ابن جريج: أخبرنا عبد الكريم بن أبي المخارق عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر، رضي الله تعالى عنه: (رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبول قائما، فقال: يا عمر! لا تبل قائما. قال: فما بلت قائما بعد) . ومنها: حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، أخرجه البيهقي أيضا من حديث عدي بن الفضل عن علي بن الحكم عن أبي نضرة عن جابر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما) .
قلت: أما الجواب عن حديث عائشة إنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلا تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة، رضي الله عنه، وهو من كبار الصحابة، وأيضًا يمكن أن يكون قول عائشة: (ما بال قائما) ، يعني في منزله، ولا اطلاع لها ما في الخارج. فان قلت: قال أبو عوانة في (صحيحه) وابن شاهين: إن حديث حذيفة منسوخ بحديث عائشة، رضي الله عنها، قلت: الصواب أنه لا يقال إنه منسوخ، لأن كلاً من عائشة وحذيفة أخبر بما شاهدة، فدل على أن البول قائما وقاعدا يجوز، ولكن كرهه العلماء قائما لوجود أحاديث النهي، وإن كان أكثرها غير ثابت. وأما حديث بريدة في هذا غير محفوظ، ولكن فيه نظر، لأن البزار أخرجه بسند صحيح كما ذكرنا. وأما
(3/135)
حديث عمر فقال الترمذي: فحديث ضعيف، لأن ابن جريج رواه عن عبد الكريم بن المخارق أبو امية وهو ضعيف، وقال الترمذي: إنما رفعه عبد الكريم، وقد ضعفه أيوب، وتكلم فيه، وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: قال: عمر: ما بلت قائما منذ أسلمت، هذا أصح من حديث عبد الكريم. وأما حديث جابر، ففي رواته: عدي بن الفضل وهو ضعيف. فان قلت: قال أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي في كتابه المسمى (بقبول الأخبار ومعرفة الرجال) : حديث حذيفة يعني هذا حديث فاحش منكر لا نراهه إلا من قبل بعض الزنادقة. قلت: هذا كلام سوء لا يساوي سماعه، وهو في غاية الصحة. فإن قلت: روي عن ابن ماجه من طريق شعبة أن عاصمًا روى له عن أبي وائل عن المغيرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتى سباطة قوم فبال قائما) . قال عاصم: وهذا الاعمش يرويه عن أبي وائل عن حذيفة. قلت: قال الترمذي: حديث أبي وائل عن حديفة أصح، يعني من حديثه عن المغيرة، وأيضًا لا يبعد أن يكون أبو وائل رواه عن رجلين، والرجلان شاهدا ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم، وأن أبا وائل أدى الحديثين عنهما، فسمعه منه جماعة فأدى كل ما سمع، ودليله أن غيرهما حكى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم أيضا، منهم: سهل بن سعد، رضي الله عنه. وفي حديثه في (صحيح ابن خزيمه) وأبو هريرة، رضي الله تعالى عنه، وأخرج حديثه الحاكم ثم البيهقي عن حماد بن غسان الجعفي: حدثنا معن عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن ابي هريرة، رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائما من جرح كان بمآبضه) ، وقال الذهبي: هذا منكر، وضعفه الدارقطني والبيهقي وابن عساكر في كتابه (مجموع الرغائب في ذكر أحاديث مالك الغرائب) .
ثم إن العلماء تكلموا في سبب بوله، صلى الله تعالى عليه وسلم قائما فقال الشافعي، لما سأله حفص الفرد عن الفائدة في بوله قائما: العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائما، فنرى أنه كان به ذاك. قلت: يوضح ذلك حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه المذكور آنفا.
والمآبض جمع: مأبض، بسكون الهمزة بعدها باء موحدة ثم ضاد معجمة، وهو: باطن الركبة، وقال القاضي عياض: إنما فعله لشغله بأمور المسلمين، فلعله طال عليه المجلس حتى حصرة البول ولم يمكن التباعد كعادته، وأراد السباطة لدمثها، وأقام حذيفة يستره عن الناس. وقال المازري في (العلم) : فعل ذلك لأنها حالة يؤمن فيها خروج الحدث من السبيل الآخر، بخلاف القعود، ومنه قول عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: البول قائما أحصن للدبر. وقال بعضهم: لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجد مكانا للقعود فاضطر إلى القيام لكون الطرف الذي يليه السباطة عليها مرتفعاً. وقال المنذري: لعله كانت في السباطة نجاسات رطبة، وهي رخوة، فخشي أن يتطاير عليه. قيل: فيه نظر، لأن القائم أجدر بهذه الخشية من القاعد. وقال الطحاوي: لكون ذلك سهلاً ينحدر فيه البول فلا يرتد على البائل، وقال بعضهم: إنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بيان للجواز في هذه المرة، وكانت عادته المستمرة البول قاعدا.
الحكم الثاني: فيه جواز البول بالقرب من الديار.
الثالث: فيه دليل على أن مدافعة البول ومصابرته مكروهة لما فيه من الضرر.
الرابع: فيه جواز طلب البائل من صاحبه الماء للوضوء.
الخامس: فيه خدمة المفضول للفاضل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

61 - (باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط)

أي: هذا باب في بيان حكم بول الرجل عند صاحبه، وبيان حكم تستره بالحائط، فالألف واللام في: البول، بدل من المضاف إليه، وهو كما قدرنا، فالضمير في صاحبه يرجع إلى المضاف إليه المقدر، وهو: الرجل البائل.
والمناسبة بين البابين ظاهرة.

225 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن حذيفة قال رأيتني أنا والنبي صلى الله عليه وسلم نتماشى فاتى سباطة قوم خلف حائط فقام كما يقوم أحدكم فبال فانتبذت منه فاشار إلي فجئته فقمت عند عقبه حتى فرغ.
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وهي في الموضعين.
بيان رجاله وهم خمسة، وقد تقدموا بهذا الترتيب في باب: من جعل لأهل العلم أيامًا، وجرير: هو ابن عبد الحميد، ومنصور: هو ابن المعتمر، وأبو وائل: شقيق، وحذيفة: ابن اليمان، رضي الله تعالى عنه.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في الموضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، ورواته ما بين كوفي ورازي.
(3/136)
وتعدد موضعه ومن أخرجه غيره قد مر بيانها في الباب السابق.
بيان لغته قوله: (حائط) أي: جدار، ويجيىء بمعنى: البستان في غير هذا الموضع، وأصله واوي، من: الحوط. قوله: (فانتبذت) ، أي: تنحيت، ومادته: نون وباء موحدة وذال معجمة. وقال الجوهري: جلس فلان نبذة، بفتح النون وضمها، أي: ناحية، وانتبذ فلان أي: ذهب ناحيته، وقال الخاطبي: فانتبذت منه، اي تنحيت عنه حتى كنت منه على نبذه. قوله: (عقبه) ، بفتح العين وكسر القاف: وهو مؤخر القدم، وهي مؤنثة، وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده، وفيها لغتان: كسر القاف وسكونها، وهي أيضا مؤنثة.
بيان إعرابه قوله: (رأيتني) ، بضم التاء المثناة من فوق، ومعناه: رأيت نفسي، وبهذا التقدير يندفع سؤال من يقول: كيف جاز أن يكون الفاعل والمفعول عبارة عن شيء واحد، وهذا التركيب جائز في أفعال القلوب، لأنه من خصائصها، ولا يجوز في غيرها. قوله: (أنا) للتأكيد لصحة عطف لفظ النبي على الضمير المنصوب على المفعولية، والتقدير: رأيت نفسي ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الكرماني بنصب: النبي، لأنه عطف على المفعول لا على الفاعل، وعليه الرواية. قلت: ويجوز رفع: النبي، أيضا لصحة المعنى عليه، ولكن إن صحت رواية النصب يقتصر عليها. قوله: (نتماشى) جملة في محل لنصب على الحال، تقديره: ورأيت نفسي والنبي حال كوننا متماشين. قوله: (فأشار) أي: أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلي بعد أن بعدت منه، ولكن لم أبعد منه بحيث لا يراه. وفي رواية مسلم: ادنه، وقال بعضهم: رواية البخاري هذه بينت أن رواية مسلم: أدنه، كان بالإشارة لا باللفظ. قلت: يرد عليه رواية الطبراني من حديث عصمة بن مالك، قال: (خرج علينا رسول صلى الله عليه وسلمفي بعض سكك المدينة، فانتهى إلى سباطة قوم فقال: يا حذيفة استرني) الحديث، فهذا صريح بأن إعلامه كان باللفظ، ويمكن أن يجمع بين الروايتني بأن يكون، عليه الصلاة والسلام، أشار أولا بيده أو برأسه، ثم قال: استرني. وقال هذا القائل أيضا: وليست فيه دلالة على جواز الكلام في حال البول. قلت: هذا الكلام من غير رواية إذ إشارته، عليه الصلاة والسلام، إلى حذيفة أو قوله: (استرني) ، لم يكن إلا قبل شروعه في البول، فكيف يظن من ذلك ما قاله حتى ينفي ذلك؟ .
ويستنبط منه من الأحكام ما استنبط من الحديث السابق. وفيه أيضا: جواز طلب البائل من صاحبه القرب منه ليستره. وفيه: أنه، عليه الصلاة والسلام، كان إذا أراد قضاء حاجة الإنسان توارى عن أعين الناس بما يستره من حائط أو نحوه، وقال ابن بطال: من السنة أن يقرب من البائل إذا كان قائما، هذا إذا أمن أن يرى منه عورة، وأما إذا كان قاعدا فالسنة البعد منه، وإنما انتبذ حذيفة منه لئلا يسمع شيئا مما جرى في الحديث، فلما بال، عليه الصلاة والسلام، قائما، وأمن، عليه الصلاة والسلام، ما خشيه حذيفة أمره بالقرب منه. وقال الكرماني: وإنما بعد منه وعينه تراه لأنه كان يحرسه، اي: يحرس النبي، عليه الصلاة والسلام. قلت: هذا إنما يتأتى قبل نزول قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة: 67) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحرسه جماعة من الصحابة قبل نزول هذه الآية، فلما نزلت ترك صلى الله عليه وسلم الحرس.

62 - (باب البول عند سباطة قوم)

أي: هذا باب في بيان حكم البول عند جماعة من الناس، وهذا الباب، والبابان اللذان قبله، حديث حذيفة رضي الله عنه، غير أن كلاً منها عن شيخ، وترجم لكل واحد منها ترجمة تناسب معنى من معاني الحديث المذكور.
والمناسبة بينها ظاهرة لا تطلب.

226 - حدثنا محمد بن عرعرة قال حدثنا شعبة عن منصور عن أبي وائل قال كان أبو موسى الاشعري يشدد في البول ويقول إن بني إسرائيل كان إذا أصاب ثوب أحدهم فرضه فقال حذيفة ليته امسك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائماً.
مطابقته للترجمة ظاهرة. قيل: إتيان حديث واحد من شخص واحد في ثلاثة أبواب ليس له زيادة فائدة. قلت: فائدته تنادي بأعلى صوته، ولكن قاصر الفهم بمعزل من هذه الفائدة.
بيان رجاله وهم ستة، كلهم قد تقدموا، وتقدم ذكر أبي
(3/137)
موسى الأشعري في باب: أي: الإسلام أفضل، واسمه عبد الله بن قيس، وأبو وائل شقيق.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعي، وفيه: العنعنة في موضعين، ورواته ما بين شامي ومصري وكوفي.
وتعدد موضعه ومن أخرجه غيره: تقدم في باب البول قائما.
بيان لغته وإعرابه قوله: (يشدد) ، جملة في محل النصب على أنه خبر: كان، ومعناه: كان يحتاط عظيما في الاحتراز عن رشاشاته، حتى كان يبول في القارورة خوفًا أن يصيبه من رشاشاته شيء. وأخرج ابن المنذر من طريق عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أنه سمع أبا موسى، ورأى رجلا يبول قائما، قال: ويحك أفلا قاعدا، ثم ذكر قصة بني اسرائيل، وبنو اسرائيل بنو يعقوب، عليه الصلاة والسلام، واسرائيل لقبه. قوله: (كان إذا أصاب ثوب احدهم) الضمير في: كان، ضمير الشأن، والجملة الشرطية خبره، وبهذا لا يرد سؤال الكرماني بقوله: فان قلت: بنو، جمع فلم أفرد ضمير: كان، الراجع إليه؟ وبنو إسرائيل أصله بنون لإسرائيل، فلما أضيف إلى إسرائيل سقطت نون الجمع.
فان قلت: ما وجه تلقيب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، عليهم السلام، بإسرائيل؟ قلت: كان يعقوب وعيصو أخوين، كانا في بطن أمهما معًا. فلما جاء وقت وضعهما اقتتلا في بطنها لأجل الخروج أولا، فقال عيصو: والله لئن خرجت قبلي الاعترض في بطن أمي لأقتلها، فتأخر يعقوب وخرج عيصو قبله، فسمى: عيصو، لأنه عصى، وسمى: يعقوب، لأنه خرج آخذا بعقب عيصو. وكان يعقوب أكبرهما في البطن، وكان أحبهما إلى أمه، وكان: عيصو، أحبهما إلى أبيه، وكان صاحب صيد، فلما كبر أبوهما إسحاق وعمي قال لعيصو: يا بني أطعمني لحم صيد أدع لك بدعاء كان ابي دعا لي به، وكان أشعر، وكان يعقوب أجرد، فخرج عيصو إلى الصيد، وقالت أمه ليعقوب: خذ شاة واشوها والبس جلدها، وقدمها إلى أبيك، وقل له: أنا ابنك عيصو، ففعل، فمسه إسحاق فقال: المس مس عيصو، والريح ريح يعقوب، فقالت أمه: ابنك عيصو فادع له، فأكل منها ودعا له بأن الله يجعل في ذريته الأنبياء والملوك، ثم جاء عيصو بالصيد فقال إسحاق: يا بني قد سبقك أخوك، فغضب وقال: والله لاقتلنه. فقال اسحاق: يا بني قد بقيت دعوة، فدعا له: بأن تكون ذريته عدد التراب ولا يملكهم أحد. وقالت أم يعقوب: إلحق بخالك فكن عنده، خشية أن يقتله عيصو، فانطلق يعقوب إلى خاله لابان، وكان ببابل، وقيل: بحران، فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار، فلذلك سمي إسرائيل، فأخذ من: السرى والليل، قاله السدي. وقال غيره: معناه عبد الله، لأن: ايل، اسم من أسماء الله تعالى بالسريانية، كما يقال: جبرائيل وميكائيل.
قوله: (اذا اصاب) اي: البول (و: ثوب أحدهم) ، بالنصب مفعوله، ووقع في رواية مسلم: (إذا أصاب جلد أحدهم) . وقال القرطبي: مراده بالجلد: واحد الجلود التي كانوا يلبسونها، وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الإصر الذي حملوه، ويؤيده رواية ابي داود، حيث قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن حسنة، قال: انطلقت أنا وعمرو بن العاصي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج ومعه دورقة ثم استتر بها ثم بال، فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة، فسمع ذلك، فقال: ألم تعلموا ما لقي صاحب بني اسرائيل؟ كانوا إذا أصابهم البول قطعوا ما أصابه البول منهم، فنهاهم، فعذب في قبره. قال منصور عن ابي وائل عن ابي موسى: جلد أحدهم، وقال عاصم عن ابي وائل عن ابي موسى: جسد أحدهم. قوله: (انظروا اليه يبول كما تبول المرأة) ، وهذا القول منهما من غير قصد، أو وقع بطريق التعجب، أو بطريق الاستفسار عن هذا الفعل، فلذلك قال، عليه الصلاة والسلام بقوله: (الم تعلموا) الخ، ولم يقولون هذا القول بطريق الاستهزاء والاستخفاف، لأن الصحابة براء من هذا الكلام: وأراد بصاحب بني اسرائيل: موسى، عليه الصلاة والسلام. فان قلت: كيف يترتب قوله: (فعذب) على قوله: (فنهاهم) ؟ قلت: فيه حذف تقديره: فنهاهم عن إصابة البول ولم ينتهوا، فعذب الله تعالى. و: الفاء، في: فعذب، فاء السببية نحو قوله تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه} (القصص: 15) قوله: (قرضه) بالقاف أي: قطعه، وفي رواية الأصيلي: (قرضه بالمقراض) ، وهذه الرواية ترد قول من يقول: المراد بالقرض: الغسل بالماء. قوله: (ليته أمسك) ، قول حذيفة أي: ليت أبا موسى أمسك نفسه عن هذا التشديد، أو لسانه عن هذا القول، أو كليهما عن كليهما، ومقصوده: أن هذا التشديد خلاف السنة، فإن النبي، عليه الصلاة والسلام، بال قائما، ولا شك في كون القائم معرضًا للرشاش، ولم يلتفت، عليه الصلاة والسلام، إلى هذا الاحتمال، ولم يتكلف البول في القارورة؛ وقال ابن بطال: وهو حجة لمن رخص في يسير البول، لأن المعهود ممن بال قائما أن
(3/138)
يتطاير إليه مثل رؤوس الأبر، وفيه يسر وسماحة على هذه الأمة حيث لم يوجب القرض كما أوجب على بني إسرائيل، واختلفوا في مقدار رؤوس الأبر من البول فقال مالك: يغسلها استحبابا وتنزهاً، والشافعي: يغسلها وجوبا وأبو حنيفة سهل فيهما كما في يسير كل النجاسات، وقال الثوري: كانوا يرخصون في القليل من البول.

63 - (باب غسل الدم)

أي: هذا باب في بيان حكم غسل الدم، بفتح الغين، وأراد به دم الحيض.
والمناسبة بين البابين ظاهرة لأن كلاً منهما في بيان إزالة النجاسة، ففي الأول عن البول، وفي الثاني عن الدم، وكلاهما في النجاسة سواء.

227 - حدثنا محمد بن المثني قال حدثنا يحيى عن هشام قال حدثتني فاطمة عن أسماء قالت جاءت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع قال تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه.
(الحديث 227 طرفه في: 307) .
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
بيان رجاله وهم خمسة: محمد بن المثنى، بفتح النون: وهو المعروف بالزمن، ويحيى هو: ابن سعيد القطان، وهشام هو: ابن عروة بن الزبير، وقد تقدموا في باب: أحب الدين إلى الله أدومه، وفاطمة هي: بنت المنذر بن الزبير زوجة هشام المذكور، تروي عن جدتها أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، المعروفة: بذات النطاقين، تقدمتا في باب: من أجاب الفتيا بإشارة.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: رواية الأنثى؛ ورواته ما بين شامي ومصري.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا، وفي البيوع أيضا عن عبد الله بن يوسف عن مالك، وفي الصلاة عن أبي موسى عن يحيى. وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع، وعن محمد ابن حاتم عن يحيى، وعن أبي كريب عن عبد الله بن نمير، وعن أبي الطاهر بن السرح، وعن ابن وهب عن يحيى بن عبد الله ابن سالم ومالك وعمرو بن الحارث. وأخرجه أبو داود في الطهارة عن القعنبي عن مالك، وعن مسدد عن حماد بن زيد وعيسى بن يونس، وعن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة. وأخرجه الترمذي فيه عن محمد بن يحيى عن سفيان، عشرتهم عن هشام بن عروة به. وأخرجه النسائي فيه عن يحيى بن حبيب عن حماد بن زيد به. وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن هشام بن عروة به.
بيان لغته وإعرابه قوله: (تحته) من: حت الشي عن الثوب وغيره يحته حتاً: فركه وقشره فانحت، وتحات. وفي (المنتهى) : الحت: حتك الورق من الشجر، والمني والدم ونحوهما من الثوب وغيره، وهو دون النحت. وعند ابن طريف: حت الشيء: نفضه. وقيل: معناه تحكه، وكذا وقع في رواية ابن خزيمة. قوله: (تقرصه) قال في (المغرب) : الحت: القرص باليد، والقرص بأطراف الأصابع. وفي (المحكم) القرص التخميش والغمز بالأصبع، والمقرص: المقطع المأخوذ من شيئين، وقد قرضه وقرصه. وفي (الجامع) كل مقطع مقرض. وفي (الصحاح) : أقرصيه بماء أي: اغسليه بأطراف أصابعك، ويروى: قرضيه، بالتشديد. وقال ابو عبيد: أي: قطعيه. وقال في (مجمع الغرائب) : هو أبلغ في إذهاب الأثر عن الثوب. وقال عياض: رويناه بفتح التاء المثناة من فوق وسكون القاف وضم الراء وبضم التاء وفتح القاف وكسر الراء المشددة. قال: وهو الدلك بأطراف الأصابع مع صب الماء عليه حتى يذهب أثره. قوله: (وتنضحه) أي: تغسله، قاله الخطابي: وقال القرطبي: المراد به الرش، وهو من باب: فتح يفتح، بفتح عين الفعل فيهما، وقال الكرماني: تنضحه، بكسر الضاد: وكذا قال مغلطاي في شرحه، وهو غلط. قوله: (إحدانا) مبتدأ وقوله: (تحيض) خبره، قوله: (كيف تصنع) ؟ يتعلق بقوله: (أرأيت) .
(3/139)
بيان معانية قوله: (جاءت امرأة) وقع رواية الشافعي، رحمه الله تعالى، عنه عن سفيان بن عيينة عن هشام في هذا الحديث: أن أسماء هي السائلة، وأنكر النووي هذا، وضعف هذه الرواية، ولا وجه لإنكاره، لأنه لا يبعد أن يبهم الراوي اسم نفسه، وقد وقع مثل هذا في حديث أبي سعيد، رضي الله عنه، في قصة الرقية بفاتحة الكتاب. قوله: (أرأيت) أي: أخبرني، قاله الزمخشري، وفيه تجوز لإطلاق الرؤية، وإرادة الإخبار، لأن الرؤية سبب الإخبار، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب. قوله: (تحيض في الثوب) أي: يصل دم الحيض إلى الثوب، هكذا فسره الكرماني. قلت: المعنى: تحيض حال كونها في الثوب، ومن ضرورة ذلك وصول الدم إلى الثوب. وللبخاري، من طريق مالك عن هشام: إذا أصاب ثوبها الدم من الحيض، وفي رواية أبي داود عن أسماء: (سمعت امرأة تسأل النبي، عليه الصلاة والسلام: كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر أتصلى فيه؟ قال: تنظر، فإن رأت فيه دمًا فلتقرصه بشيء من ماء، ولتنضح ما لم تر ولتصل

فيه) . وعند مسلم: (المرأة تصيب ثوبها من دم الحيضة) ، وعند الترمذي: (إقرصيه بماء ثم رشيه) . وعند ابن خزيمة: (كيف تصنع بثيابها التي كانت تلبس؟ فقال إن رأت فيها شيئا فلتحكه ثم لتقرصه بشيء من ماء، وتنضح في سائر الثوب بماء، ولتصل فيه) . وفي لفظ: (إن رأيت فيه دمًا فحكيه) . وفي لفظ: (رشيه وصلي فيه) . وفي لفظ: (ثم تنضحه وتصلي فيه) . وعند أبي نعيم: (لتحته ثم لتقرصه ثم لتنضحه ثم لتصل فيه) . وفي حديث مجاهد عن عائشة البخاري: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها، فمعنعته بظفرها) . أي: عركته. واختلف في سماع مجاهد عن عائشة، فأنكره ابن حبان ويحيى بن معين ويحيى بن سعيد وشعبة وآخرون، وأثبته البخاري وعلي بن المديني ومسلم وآخرون، وعند البخاري من حديث القاسم عنها: (ثم تقرص الدم من ثوبها عند طهرها فتغسله وتنضح على سائره ثم تصلي فيه) . وفي حديث أم قيس بنت محصن، عند ابن خزيمة، وابن حبان: (إغسليه بالماء والسدر وحكيه ولو بضلع) ، زاد ابن حبان قوله صلى الله عليه وسلم: (اغسليه بالماء) ، أمر فرض، وذكر السدر والحك بالضلع أمر ندب وإرشاد. وقال ابن القطان: هو حديث في غاية الصحة، وعاب على أبي أحمد قوله: الأحاديث الصحاح ليس فيها ذكر الضلع والسدر، وعند أبي أحمد العسكري: (حكيه بضلع واتبعيه بماء وسدر) . وعند أحمد من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: (إن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، قال: فإذا طهرت فاغسلي موضع حيضك ثم صلي فيه، قالت: يا رسول الله أرى لم يخرج اثره، قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره) . ولما ذكره ابن أبي خيثمة في (تاريخه الكبير) جعله من مسند خولة، وكذلك الطبراني، وفي (سنن أبي داود) عن امرأة من غفار: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ثيابها من الدم، قال: أصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء واطرحي فيه ملحاً، ثم اغسلي ما أصاب حقيبة الرجل من الدم، ثم عودي لمركبك) . وعند الدارمي، بسند فيه ضعف عن أم سلمة، رضي الله عنها: (إن إحداهن تسبقها القطرة من الدم. فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب إحداكن بذلك فلتقصعه بريقها. وعند ابن خزيمة: وقيل لها: كيف كنتن تصنعن بثيابكن إذا طمثن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: إن كنا لنطمث في ثيابنا أو في دروعنا، فما نغسل منه إلا أثر ما أصابه الدم. قوله: (تحته) الضمير المنصوب فيه، وفي قوله: (ثم تقرصه) يرجع إلى الثوب. وفي قوله: و (تنضحه) يرجع إلى الماء، وقد ذكرنا عن قريب أن الخاطبي قال: تنضحه أي: تغسله. وقال القرطبي: المراد به الرش، لأن غسل الدم استفيد من قوله: (تقرصه بالماء) ، وأما النضح فهو لما شك فيه من الثوب. وقال بعضهم: فعلى هذا الضمير في قوله: (تنضحه) يعود على الثوب، بخلاف: تحته، فإنه يعود على الدم، فيلزم منه إختلاف الضمائر، وهو على خلاف الأصل. قلت: لا نسلم ذلك، لأن لفظ: الدم، غير مذكور صريحًا، والأصل في عود الضمير أن يكون إلى شيء صريح، والمذكور هنا صريحًا: الثوب والماء، فالضميران الأولان يرجعان إلى الثوب لأنه المذكور قبلهما، والضمير الثالث يرجع إلى: الماء، لأنه المذكور قبله، وهذا هو الأصل. ثم قال هذا القائل أيضا: ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئا، لأنه إن كان طاهرا فلا حاجة إليه، وإن كان متنجساً لم يتطهر بذلك، فالأحسن ما قاله الخاطبي. قلت: الذي قاله القرطبي هو الأحسن لأنه يلزم التكرار من قول الخاطبي بلا فائدة، لأنا ذكرنا أن الحت هو الفرك، والقرص هو الدلك بأطراف الاصابع مع صب الماء عليه حتى يذهب أثره، لما نقلناه عن القاضي عياض،

(3/140)
ففهم الغسل من لفظة القرص، فإذا قلنا: الرش بمعنى الغسل يلزم التكرار، ثم قوله: ثم إن الرش ... إلى آخره، كلام من غير روي، لأن الرش ههنا لإزالة الشك المتردد في الخاطر، كما جاء في رش المتوضىء الماء على سراويله بعد فراغه من الوضوء، وليس معناه على الوجه الذي ذكرناه، فافهم.
بيان استنباط الأحكام منها: ما قاله الخاطبي: إن فيه دليلا على أن النجاسات إنما تزول بالماء دون غيره من المائعات، لان جميع النجاسات بمثابة الدم، لا فرق بينه وبينها إجماعًا، وكذلك استدل به البيهقي في (سننه) على أصحابنا في وجوب الطهارة بالماء دون غيره من المائعات الطاهرة. قلت: هذا خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط، كقوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} (النساء: 23) والمعنى في ذلك أن الماء أكثر وجودا من غيره، أو نقول: تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، أو نقول: إنه مفهوم لقب، ولا يقول به إمامنا.
ومنها: أنه يدل على وجوب غسل النجاسات من الثياب، وقال ابن بطال: حديث أسماء أصل عند العلماء في غسل النجاسات من الثياب، ثم قال: وهذا الحديث محمول عندهم على الدم الكثير، لأن الله تعالى شرط في نجاسته أن يكون مسفوحاً، وهو كناية عن الكثير الجاري إلا أن الفقهاء اختلفوا في مقدار ما يتجاوز عنه من الدم، فاعتبر الكوفيون فيه، وفي النجاسات دون الدرهم في الفرق بين قليله وكثيره. وقال مالك: قليل الدم معفو، ويغسل قليل سائر النجاسات. وروي عن ابن وهب: إن قليل دم الحيض ككثيره وكسائر الأنجاس، بخلاف سائر الدماء، والحجة في أن اليسير من دم الحيض كالكثير قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء: (حتيه ثم اقرصيه) ، حيث لم يفرق بين قليله وكثيره، ولا سألها عن مقداره ولم يحد فيه مقدار الدرهم ولا دونه. قلت: حديث عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثواب واحد فيه تحيض فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها، ثم قصعته بريقها) رواه أبو داود، وأخرجه البخاري أيضا، ولفظه: (قالت بريقها فمصعته) ، يدل على الفرق بين القليل والكثير، وقال البيهقي: هذا في الدم اليسير الذي يكون معفواً عنه، وأما الكثير منه فصح عنها. أي: عن عائشة. أنها كانت تغسله، فهذا حجة عليهم في عدم الفرق بين القليل والكثير من النجاسة، وعلى الشافعي أيضا في قوله: (إن يسير الدم يغسل كسائر الأنجاس إلا دم الراغيث، فإنه لا يمكن التحرز عنه) . وقد روي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه لا يرى بالقطرة والقطرتين بأسا في الصلاة، وعصر ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، بثرة فخرج منها دم فمسحه بيده وصلى، فالشافعية ليسوا بإكثر إحتياطاً من أبي هريرة وابن عمر، ولا أكثر رواية عنهما حتى خالفوهما، حيث لم يفرقوا بين القليل والكثير، على أن قليل الدم موضع ضرورة، لأن الإنسان لا يخلو في غالب حاله من بثرة أو دمل أو برغوث، فعفى عنه، ولهذا حرم الله المسفوح منه، فدل أن غيره ليس بمحرم، وأما تقدير أصحابنا القليل بقدر الدرهم، فلما ذكره صاحب (الاسرار) عن علي وابن مسعود أنهما قدرا النجاسة بالدرهم، وكفي بهما حجة في الاقتداء. وروي عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أيضا أنه قدره بظفره، وفي (المحيط) : وكان ظفره قريبا من كفنا، فدل على أن ما دون الدرهم لا يمنع. وقال في (المحيط) أيضا: الدرهم الكبير ما يكون مثل عرض الكف، وفي صلاة الأصل: الدرهم الكبير المثقال يعني: يبلغ مثقالا. وعند السرخسي: يعتبر بدرهم زمانه، وأما الحديث الذي روايه الدارقطني في (سننه) عن روح بن غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعاد الصلاة من قدر درهم من الدم) ، وفي لفظ: (إذا كان في الثوب قدر الدرهم من الدم غسل الثوب وأعيدت الصلاة) . وإن اصحابنا لم يحتجوا به، لأنه حديث منكر، بل قال البخاري: إنه باطل. فإن قلت: النص وهو قوله: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) لم يفصل بين القليل والكثير، فلا يعفى القليل. قلت: القليل غير مراد منه بالإجماع بدليل عفو موضع الاستنجاء فتعين الكثير، وقد قدر الكثير بالآثار.
ومنها: أن فيه الدلالة على أن الدم نجس بالإجماع.
ومنها: أن فيه الدلالة على أن العدد ليس بشرط في إزالة النجاسة بل المراد الإنقاء.
ومنها: أنها إذا لم تر في ثوبها شيئا من الدم ترش عليه ماء وتصلي فيه.

228 - حدثنا محمد قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني امرأة
(3/141)
استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فاذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي قال وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجىء ذلك الوقت..
هذا الحديث أيضا مطابق للترجمة.
بيان رجاله وهم ستة. الأول: محمد بن سلام، بتخفيف: اللام، البيكندي، تقدم في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله) ، وقد وقع في أكثر النسخ عند الأكثرين: حدثنا محمد، غير منسوب، وللأصيلي: حدثنا محمد بن سلام ولأبي ذر: حدثنا محمد، وهو ابن سلام.
الثاني: أبو معاوية الضرير: محمد بن خازم، بالمعجمتين، وقد تقدم عن قريب. الثالث: هشام بن عروة بن الزبير، وقد مر أيضا غير مرة. الرابع: أبو عروة، كذلك. الخامس: عائشة الصديقة بنت الصديق. السادس: فاطمة بنت أبي حبيش، بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره شين معجمة: القرشية الأسدية، واسم أبي حبيش: قيس بن المطلب، وقال بعضهم: قيس بن عبد المطلب. قال بعض الشارحين: وقع في أكثر نسخ مسلم: عبد المطلب، وهو غلط. قلت: هذا هو الصواب، وكذا قال الذهبي في (تجريد الصحابة) : قيس بن المطلب بن أسد، وهو المطلب بن أسد، وهي غير: فاطمة بنت قيس، التي طلقت ثلاثًا.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: ذكر أبي معاوية هنا بالكنية، وفي باب غسل البول بالاسم، رعاية للفظ الشيوخ. وفيه: حكاية الصحابية عن سؤال الصحابية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه: أن البخاري روى ههنا عن محمد غير منسوب عند الأكثرين كما ذكرنا، وصرح به في النكاح بقوله: حدثنا محمد بن سلام حدثنا أبو معاوية ... وذكر الكلاباذي أن البخاري روى عن محمد بن المثنى عن أبي معاوية، وعن محمد بن سلام عن أبي معاوية، ورواه أبو نعيم الأصبهاني من طريق إسحاق بن إبراهيم عن أبي معاوية، وذكر أن البخاري رواه عن محمد بن المثنى عن أبي معاوية.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه مسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى، والترمذي عن هناد بن السري، والنسائي عن إسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن أبي معاوية به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه أبو داود عن أحمد بن يونس، وعبد الله بن محمد النفيلي، قالا: حدثنا زهير، قال: حدثنا هشام بن عروة عن عروة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها. وأخرجه أيضا من مسند فاطمة المذكور.
بيان لغته قوله: (استحاض) ، بضم الهمزة وسكون السين وفتح التاء. قال الجوهري: استحيضت المرأة أي: استمر بها الدم بعد أيامها، فهي مستحاضة. وفي الشرع: الحيض عبارة عن الدم الخارج من الرحم، وهو موضع الجماع والولادة لا تعقب ولادة مقدرا في وقت معلوم، وقال الكرخي: الحيض دم تصير المرأة بالغة بابتداء خروجه، والاستحاضة اسم لما نقص من أقل الحيض أو زاد على أكثره. فان قلت: ما وجه بناء الفعل للفاعل في الحيض، وللمفعول في الاستحاضة؟ فقيل: استحيضت؟ قلت: لما كان الأول: معتادا معروفا نسب إليها، والثاني: لما كان نادرا غير معروف الوقت، وكان منسوبا إلى الشيطان، كما ورد أنها ركضة من الشيطان، بني لما لم يسم فاعله. فإن قلت: يجوز أن تكون للتحول، كما في: استحجر الطين، وهنا أيضا تحول دم الحيض إلى غير دمه، وهو دم الأستحاضة. فافهم. قوله: (عرق) ، بكسر العين وسكون الراء: وهو المسمى بالعادل، بالعين المهملة والذال المعجمة، وحكي إهمالها. قوله: (وليس بحيض) لأن الحيض يخرج من قعر الرحم كما ذكرنا. قوله: (حيضتك) ، بفتح الحاء وكسرها، وهو بالفتح: المرة، وبالكسر: اسم للدم، والخرقة التي تستثفر بها المرأة والحالة. وقال الخطابي: المحدثون يقولون بالفتح، وهو خطأ، والصواب الكسر، لأن المراد بها الحالة، ورده القاضي وغيره، وقالوا: الأظهر الفتح، لأن المراد إذا أقبل الحيض. قوله: (وإذا أدبرت) من: الإدبار وهو انقطاع الحيض.
بيان إعرابه ومعناه قوله: (إني امرأة) ، قد علم أن كلمة: لا تستعمل إلا عند إنكار المخاطب للقول أو التردد فيه، وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنكار لاستحاضتها ولا تردد فيها، فوجه إستعمالها ههنا يكون لتحقيق نفس القضية، إذ كانت بعيدة الوقوع نادرة الوجود، فلذلك أكدت قولها بكلمة: إن قوله: (أفأدع) أي: أفأترك. وقال الكرماني: فان قلت: الهمزة
(3/142)
تقتضي عدم المسبوقية بالغير، والفاء تقتضي المسبوقية به، فيكف يجتمعان؟ قلت: هو عطف على مقدر أي: ايكون لي حكم الحائض فادع الصلاة، أو الهمزة مقحمة، أو توسطها جائز بين المعطوفين إذا كان عطف الجملة على الجملة لعدم انسحاب ذكر الأول على الثاني، أو الهمزة باقية على صرافة الاستفهامية، لأنها للتقرير هنا، فلا يقتضي الصدارة. انتهى كلامه. قلت: هذا سؤال عن استمرار حكم الحائض في حالة دوام الدم وإزالته، وهو كلام من تقرر عنده أن الحائض ممنوعة من الصلاة. قوله: (لا أي: لا تدعي الصلاة. قوله: (ذلك) بكسر الكاف. قوله: (عرق) أي: دم عرق، لأن الخارج ليس بعرق. قوله: (فإذا أقبلت) أي: الحيضة، (فدعي الصلاة) اي: اتركيها، (وإذا أدبرت) أي: إذا انقطعت. فإن قلت: ما علامة إدبار الحيض وإنقطاعه، والحصول في الطهر. قلت: أما عند أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، وأصحابه: الزمان والعادة هو الفيصل بينهما، فإذا أضلت عادتها تحرت، وإن لم يكن لها ظن أخذت بالأقل، وأما عند الشافعي وأصحابه اختلاف الألوان هو الفيصل، فالأسود أقوى من الأحمر، والأحمر أقوى من الأشقر، والأشقر أقوى من الأصفر، والأصفر أقوى من الأكدر إذا جعلا حيضا، فتكون حائضًا في أيام القوى، مستحاضة في أيام الضعف، والتمييز عنده بثلاثة شروط: أحدها: أن لا يزيد القوي على خمسة عشر يومًا. والثاني: أن لا ينقص عن يوم وليلة ليمكن جعله حيضا. والثالث: أن لا ينقص الضعيف عن خمسة عشر يومًا، ليمكن جعله طهرا بين الحيضتين، وبه قال مالك وأحمد، وقال الثوري: علامة إنقطاع الحيض والحصول في الطهر أن ينقطع خروج الدم والصفرة والكدرة، سواء خرجت رطوبة بيضاء أو لم يخرج شيء أصلا. وقال البيهقي، وابن الصباغ: الترية رطوبة خفيفة لا صفرة فيها ولا كدرة، تكون على القطنة أثر لا لون، وهذا يكون بعد انقطاع الحيض. قلت: الترية، بفتح المثناة من فوق وكسر الراء وتشديد الياء آخر الحروف، قال ابن الأثير: الترية، بالتشديد: ما تراه المرأة بعد الحيض والاغتسال منه من كدرة أو صفرة. وقيل: هو البياض تراه عند الطهر. وقيل: هي الخرقة التي تعرف بها المرأة حيضها من طهرها. و: التاء، فيها زائدة، لأنه من الرؤية، والأصل فيها الهمز لكنهم تركوه وشددوا الياء، فصارت اللفظة كأنها فعلية، وبعضهم يشدد الراء. قوله: (فاغسلي عنك الدم ثم صلي) ظاهره مشكل لأنه لم يذكر الغسل ولا بد بعد انقضاء الحيض من الغسل، وأجيب، عنه: بأن الغسل، وإن لم يذكر في هذه الرواية، فقد ذكر في رواية أخرى صحيحة، قال فيها: فاغتسلي ... ، والحديث يفسر بعضه بعضًا، وجواب آخر هو: بأن يحمل الإدبار على انقضاء أيام الحيض والاغتسال. وقوله: (واغسلي عنك الدم) محمول على: دم، يأتي بعد الغسل، والأول أوجه وأصح، وأما قول بعضهم: فاغسلي عنك الدم وصلي، أي: فاغتسلي، فغير موجه أصلا. قوله: (قال: وقال أبي) أي: قال هشام بن عروة: قال أبي، وهو عروة ابن الزبير. قوله: (ثم توضيء لكل صلاة) جملة مقول القول، وادعى قوم أن قوله: (ثم توضيء) من كلام عروة موقوفا عليه. وقال الكرماني: فان قلت: لفظ: (توضئي) الخ مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو هو موقوف على الصحابي؟ قلت: السياق يقتضي الرفع، وقال بعضهم: لو كان هذا كلام عروة لقال: ثم تتوضأ، بصيغة الإخبار، فلما أتى به بصيغة الأمر شاكل الأمر الذي في المرفوع، وهو قوله: (فاغسلي) . قلت: كلام كل من الكرماني وهذا القائل احتمال، فلا يقع به القطع ولا يلزم من مشاكلة الصيغتين الرفع.
بيان استنباط الاحكام الأول: فيه جواز استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها الرجال فيما يتعلق بأمر من أمور الدين.
الثاني: فيه جواز استماع صوت المرأة عند الحاجة الشرعية.
الثالث: فيه نهي للمستحاضة عن الصلاة في زمن الحيض، وهو نهي تحريم، ويقتضي فساد الصلاة هنا بإجماع المسلمين، ويستوي فيها الفرض والنفل لظاهر الحديث، ويتبعها الطواف وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة وسجدة الشكر.
الرابع: فيه دليل على نجاسة الدم.
الخامس: فيه أن الصلاة تجب بمجرد انقطاع دم الحيض. وأعلم أنها إذا مضى زمن حيضها وجب عليها أن تغتسل في الحال لأول صلاة تدركها، ولا يجوز لها بعد ذلك أن تترك صلاة أو صوما، ويكون حكمها حكم الطاهرات، فلا تستظهر بشيء أصلا، وبه قال الشافعي. وعن مالك ثلاث روايات: الأولى: تستظهر ثلاثة أيام وما بعد ذلك استحاضة. والثانية: تترك الصلاة إلى انتهاء خمسة عشر يومًا، وهي أكثر مدة الحيض عنده. والثالثة: كمذهبنا.
السادس: استدل بعض أصحابنا في إيجاب الوضوء من خروج الدم من غير السبيلين، لأنه
(3/143)
صلى الله عليه وسلم علل نقض الطهارة بخروج الدم من العرق، وكل دم يبرز من البدن فإنما يبرز من عرق، لأن العروق هي مجاري الدم من الجسد. وقال الخطابي: وليس معنى الحديث ما ذهب إليه هؤلاء، ولا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك ما توهموه، وإنما أراد أن هذه العلة إنما حدثت بها من تصدع العرق، وتصدع العرق علة معروفة عند الأطباء يحدث ذلك عند غلبة الدم فتتصدع العروق إذا امتلأت تلك الأوعية. قلت: ليس معنى الحديث ما ذهب إليه الخطابي، لأنه قيد إطلاق الحديث وخصص عمومه من غير مخصص، وهو ترجيح بلا مرجح وهو باطل.
السابع: قوله: (لكل صلاة) فيه خلاف بين الشافعية والحنفية، وهو أن المستحاضة ومن بمعناها من أصحاب الأعذار هل يتوضؤون لكل صلاة، أو لكل وقت صلاة، وهو مذكور في كتب الفقه.

64 - (باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة)

أي: هذا باب في بيان حكم غسل المني عند كونه رطبا، وبيان حكم فركه عند كونه يابسا، والفرك هو الدلك حتى يذهب أثره. والمني، بتشديد الياء؛ ماء خاثر أبيض يتولد منه الولد، وينكسر به الذكر، ورائحته رائحة الطلع. قوله: (وغسل ما يصيب) أي: وفي بيان غسل ما يصيب الثوب أو الجسد من المرأة عند مخالطته إياها. وهذه الترجمة مشتملة على ثلاثة أحكام، ولم يذكر في هذا الباب إلا حكم غسل المني، وذكر الحكم الثالث في أواخر كتاب الغسل من حديث عثمان، رضي الله تعالى عنه، وقال بعضهم: لم يخرج البخاري حديث الفرك، بل اكتفى بالإشارة إليه في الترجمة على عادته، لأنه ورد من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، أيضا. قلت: هذا اعتذار بارد، لأن الطريقة أنه إذا ترجم الباب بشيء ينبغي أن يذكره، وقوله: بل أكتفي بالإشارة إليه كلام واه، لأن المقصود من الترجمة معرفة حديثها، وإلا فمجرد ذكر الترجمة لا يفيد شيئا، والحديث الذي في هذا الباب لا يدل على الفرك، ولا على غسل ما يصيب من المرأة، واعتذر الكرماني عنه بقوله: واكتفى بإيراد بعض الحديث، وكثيرًا يقول مثل ذلك، أو كان في قصده أن يضيف إليه ما يتعلق به ولم يتفق له، أو لم يجد رواته بشرطه. قلت: كل هذا لا يجدي، ولكن حبك للشيء يعمي ويصم، ثم إن بعضهم ذكر في أول هذا الباب كلاما لا يذكره من له بصيرة وروية، وفيه رد لما ذهب إليه الحنفية، ومع هذا أخذ كلامه هذا من كلام الخطابي مع تغيير، وهو أنه قال: وليس بين حديث الغسل وحديث الفرك تعارض، لأن الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني، بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب، وهذه طريقة الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث، وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطبا، والفرك على ما كان يابسا، وهذه طريقة، والطريقة الأولى أرجح، لأن فيها العمل بالخبر والقياس معًا، لأنه لو كان نجسا لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره، وهم لا يكتفون فيما لا يعفى عنه من الدم بالفرك. قلت: من هو الذي ادعى تعارضا بين الحديثين المذكورين حتى يحتاج إلى التوفيق، ولا نسلم التعارض بينهما أصلا، بل حديث الغسل يدل على نجاسة المني بدلالة غسله، وكان هذا هو القياس أيضا في يابسه، ولكن خص بحديث الفرك، وقوله بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب كلام واه، وهو كلام من لا يدري مراتب الأمر الوارد من الشرع، فأعلى مراتب الأمر الوجوب وأدناها الإباحة، وهنا لا وجه للثاني، لأنه، عليهم الصلاة والسلام، لم يتركه على ثوبه أبدا، وكذلك الصحابة من بعده، ومواظبته صلى الله عليه وسلم على فعل شيء من غير ترك في الجملة يدل على الوجوب بلا نزاع فيه، وأيضًا الأصل في الكلام الكمال، فإذا أطلق اللفظ ينصرف إلى الكامل، اللهم إلا أن ينصرف ذلك بقرينة تقوم فتدل عليه حينئذ، وهو فحوى كلام أهل الأصول إن الأمر المطلق أي: المجرد عن القرائن، يدل على الوجوب. ثم قوله: والطريقة الأولى أرجح ... الخ غير راجح، فضلا أن يكون أرجح بل هو غير صحيح، لأنه قال فيها: العمل بالخبر، وليس كذلك، لأن من يقول بطهرة المني يكون غير عامل بالخبر، لأن الخبر يدل على نجاسته، كما قلنا، وكذلك قوله فيها: العمل بالقياس غير صحيح، لأن القياس وجوب غسله مطلقًا، ولكن خص بحديث الفرك لما ذكرنا. فان قلت: ما لا يجب غسل يابسه لا يجب غسل رطبه كالمخاط. قلت: لا نسلم أن القياس صحيح، لأن المخاط لا يتعلق بخروجه حدث ما أصلا، والمنى موجب لأكبر الحدثين، وهو الجنابة. فان قلت: سقوط الغسل في يابسه يدل
(3/144)
على الطهارة. قلت: لا نسلم ذلك كما في موضع الاستنجاء.
قوله: كالدم وغيره ... إلى آخره، قياس فاسد، لأنه لم يأت نص بجواز الفرك في الدم ونحوه، وإنما جاء في يابس المني على خلاف القياس، فيقتصر على مورد النص. فإن قلت: قال الله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشرا} (الفرقان: 54) سماه: ماء، وهو في الحقيقة ليس بماء، فدل على أنه أراد به التشبيه في الحكم، ومن حكم الماء أن يكون طاهرا. قلت: أن تسميته: ماء، لا تدل على طهارته، فإن الله تعالى سمى مني الدواب: ماء، بقوله: {والله خلق كل دابة من ماء} (النور: 45) فلا يدل ذلك على طهارة ماء الحيوان. فان قلت: إنه أصل الأنبياء والأولياء، فيجب أن يكون طاهرا. قلت: هو أصل الأعداء أيضا: كنمرود وفرعون وهامان وغيرهم، على أنا نقول: العلقة أقرب إلى الإنسان المني، وهو أيضا أصل الأنبياء، عليه الصلاة والسلام، ومع هذا لا يقال: إنها طاهرة. وقال هذا القائل أيضا: وترد الطريقة الثانية أيضا ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، كان يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه وتحته من ثوبه يابسا، ثم يصلي فيه، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالتين. قلت: رد الطريقة الثانية بهذا غير صحيح، وليس فيه دليل على طهارته، وقد يجوز أن يكون كان، عليه الصلاة والسلام، يفعل بذلك فيطهر الثوب، والحال أن المني في نفسه نجس، كما قد روي فيما أصاب النعل من الأذى، وهو ما رواه أبو داود من حديث ابي هريرة، رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وطىء الأذى بخفيه فطهورهما التراب) . ورواه الطحاوي أيضا، ولفظه: (إذا وطىء أحدكم الأذى بخفيه أو نعله فطهورهما التراب) . وقال الطحاوي: فكان ذلك التراب يجزىء من غسلهما، وليس في ذلك دليل على طهارة الأذى في نفسه، فكذلك ما روي في المني. فان قلت: في سنده محمد بن كثير الصنعاني، وقد تكلموا فيه. قلت: وثقه ابن حبان وروى حديثه في (صحيحه) . وأخرجه الحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وقال النووي: في (الخلاصة) : ورواه ابو داود بإسناد صحيح، ولا يلتفت إلى قول ابن القطان: وهذا حديث رواه أبو داود من طريق لا يظن بها الصحة. ورواه أبو داود أيضا من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، بمعناه، وروي أيضا نحوه من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه. وأخرجه ابن حبان أيضا. والمراد من الأذى: النجاسة. وقال هذا القائل أيضا: وأما مالك فلم يعرف الفرك، والعمل عندهم على وجوب الغسل كسائر النجاسات. قلت: لا يلزم من عدم معرفة الفرك أن يكون المني طاهرا عنده، فإن عنده المني نجس كما هو عندنا، وذكر في (الجواهر) للمالكية: المني نجس وأصله دم، وهو يمر في ممر البول، فاختلف في سبب التنجيس: هل هو رده إلى أصله، أو مروره في مجرى البول؟ وقال هذا القائل أيضا: وقال بعضهم: الثوب الذي اكتفت فيه بالفرك ثوب النوم، والثوب الذي غسلته ثوب الصلاة، وهو مردود أيضا بما في إحدى روايات مسلم من حديثها أيضا: (لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً، فيصلي فيه) . وهذا التعقيب: بالفاء، ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة؛ وأصرح منه. رواية ابن خزيمة أنها كانت تحكه من ثوبه وهو يصلي.
قلت: أراد بقوله: وقال بعضهم، الحافظ أبا جعفر الطحاوي، فإنه قال في (معاني الآثار) : حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا بشر بن عمر، قال: حدثنا شعبة عن الحكم عن همام بن الحارث أنه كان نازلاً على عائشة، رضي الله تعالى عنها، فاحتلم، فرأته جارية لعائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه، أو يغسل ثوبه، فاخبرت بذلك عائشة، فقالت عائشة: لقد رأيتني، وما أزيد على أن أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج الطحاوي هذا من أربعة عشر طريقا. وأخرجه مسلم أيضا، ثم قال: فذهب ذاهبون إلى أن المني طاهر، وأنه لا يفسد الماء، وإن وقع فيه وإن حكمه في ذلك حكم النخامة، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. وأراد بهؤلاء الذاهبين: الشافعي وأحمد وإسحاق وداود، ثم قال: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل هو نجس. وأراد بالآخرين: الأوزاعي والثوري وأبا حنيفة وأصحابه ومالكاً والليث بن سعد والحسن بن حي، وهو رواية عن أحمد، ثم قال الطحاوي: وقالوا لاحجة لكم في هذه الآثار لأنها إنما جاءت في ذكر ثياب ينام فيها، ولم يأت في ثياب يصلي فيها، وقد رأينا أن الثياب النجسة بالغائط والبول والدم لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوز الصلاة فيها، فقد يجوز أن يكون المني كذلك، وإنما يكون هذا الحديث حجة علينا ولو كنا نقول: لا يصلح النوم في الثوب النجس، فأما إذا كنا نبيح ذلك ونوافق ما رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ونقول من بعد: لا يصلح الصلاة في ذلك، فلم نخالف شيئا مما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت عن عائشة فيما كانت تفعل بثوب رسول الله
(3/145)
صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه إذا اصابه المني: حدثنا يونس، قال: حدثنا يحيى بن حسان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك وبشر بن المفضل عن عمرو بن ميمون عن سليمان بن يسار عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: (كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء لفي ثوبه) . وإسناده صحيح على شرط مسلم. وأخرجه الجماعة أيضا على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى. قال الطحاوي: فهكذا كانت تفعل عائشة بثوب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه، تغسل المني منه وتفركه من وثبه الذي كان لا يصلي فيه، ثم إن هذا القائل استدل في رده على الطحاوي فيما ذكرناه بأن قال: وهذا التعقيب بالفاء ينفي ... الخ، وهذا استدلال فاسد، لأن كون الفاء للتعقيب لا ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة، لأن أهل العربية قالوا: إن التعقيب في كل شيء بحسبه، ألا ترى أنه يقال: تزوج فلان فولد له إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل، وهو مدة متطاولة، فيجوز على هذا أن يكون معنى قول عائشة: لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرادت به ثوب النوم، ثم تغسله فيصلي فيه، ويجوز أن تكون: الفاء، بمعنى: ثم، كما في قوله تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا الغظام لحمًا} (المؤمنون: 14) . فالفاآت، فيها بمعنى: ثم، لتراخى معطوفاتها، فإذا ثبت جواز التراخي في المعطوف يجوز أن يتخلل بين المعطوف والمعطوف عليه مدة يجوز وقوع الغسل في تلك المدة، ويؤيد ما ذكرنا ما رواه البزار في (مسنده) والطحاوي في (معاني الآثار) عن عائشة، قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فيه. قوله: وأصرح منه رواية ابن خزيمة ... الخ لا يساعده أيضا فيما ادعاه، لأن قوله: وهو يصلي، جملة إسمية وقعت حالا منتظرة، لان عائشة، رضي الله تعالى عنها، ما كانت تحك المني من ثوب النبي، صلى الله عليه وسلم، حال كونه في الصلاة، فإذا كان كذلك يحتمل تخلل الغسل بين الفرك والصلاة.

229 - حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله بن المبارك قال أخبرنا عمرو بن ميمون الجزري عن سليمان بن يسار عن عائشة قالت كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه..
لم يطابق الحديث الترجمة إلا في غسل المني فقط، وقد ذكرناه.
بيان رجاله وهم خمسة: عبدان، بفتح العين وسكون الباء الموحدة، تقدم في باب الوحي، وعبد الله بن المبارك كذلك، وقال الكرماني: وعبد الله، أي: ابن المبارك فكأنه وقع في نسخته التي ينقل عنها: عبد الله، منسوبا إلى الأب بالتفسير من البخاري، فلذلك قال: اي ابن المبارك، ثم قال: وقاله على سبيل التعريف إشعاراً بأنه لفظه لالفظة نسخته، وعمرو بن ميمون الجزري منسوب إلى الجزيرة، وكان ميمون بن مهران والد عمرو نزلها فنسب إليها ولده، وقال بعضهم: ووقع في رواية الكشميهني وحده: الجوزي، بواو، ساكنة بعدها: زاي، وهو غلط منه. قلت: الظاهر أن الغلط من الناقل أو الكاتب، فدور رأس: الزاي، ونقط: الراء، فصار: الجوزي. وقد يقع من الناقلين والكتاب الجهلة أكثر من هذا وأفحش. والرابع: سليمان بن يسار، ضد اليمين، مولى ميمونة أم المؤمنين، فقيه المدينة العابد الحجة، توفي عام سبعة ومائة. والخامس: عائشة الصديقة.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين مروزي ورقي ومدني، فعبدان وابن المبارك مروزيان، وعبدان لقب واسمه عبد الله بن عثمان، وقد ذكرناه غير مرة.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا عن عبدان وعن قتيبة وعن مسدد وعن موسى ابن إسماعيل وعن عمرو بن خالد، كما يأتي ذكر الجميع ههنا. وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعن أبي كامل وعن أبي كريب ويحيى بن أبي زائدة، أربعتهم عن عمرو بن ميمون به. وأخرجه أبو داود فيه عن النفيلي عن زهير به، وعن محمد بن عبيد البصري عن سليم بن أحصد عن عمرو بن ميمون به. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن منيع عن أبي معاوية عن عمرو بن ميمون نحوه، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي فيه عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به.
(3/146)
وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبدة بن سليمان عن عمرو بن ميمون. قال: سألت سليمان بن يسار ... فذكره.
بيان لغته وما يستنبط منه قوله: (أغسل الجنابة) ، قال الكرماني: الجنابة معنى لا عين، فكيف يغسل؟ قلت: المضاف محذوف أي: أثر الجنابة، أو موجوبه أو هي مجاز عنه، ويقال: المراد من الجنابة: المني، من باب تسمية الشيء باسم سببه، وان وجوده سبب لبعده عن الصلاة ونحوها. قلت: يجوز أن تكون عائشة، رضي الله عنها، أطلقت على: المني، اسم الجنابة، فحينئذ لا حاجة إلى التقدير بالحذف أو بالمجاز. قوله: (وإن بقع الماء) ، بضم الباء الموحدة وفتح القاف وبالعين المهملة: جمع بقعة، كالنطف والنطفة، والبقعة في الأصل قطعة من الأرض يخالف لونها لون ما يليها، وفي بعض النسخ، بفتح الباء الموحدة وسكون القاف، جمع بقعة: كتمرة وتمر، مما يفرق بين الجنس الواحد منه بالتاء. وقال التيمي: بريد بالبقعة الأثر. قال أهل اللغة: البقع اختلاف اللونين، يقال: غراب أبقع. وقال ابن بطال: البقع بقع المني وطبعه. قلت: هذا ليس بشيء، لأن في الحديث صرح: وإن بقع الماء، ووقع عند ابن ماجه: وأنا أرى أثر الغسل فيه، يعني لم يجف.
ومن أحكام هذا الحديث: أنه حجة للحنفية في قولهم: إن المني نجس، لقول عائشة: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي، صلى الله عليه وسلم، وقولها: كنت، يدل على تكرار هذا الفعل منها، فهذا أدل دليل على نجاسة المني. وقال الكرماني: فالحديث حجة لمن قال بنجاسة المني. قلت: لا حجة له لاحتمال أن يكون غسله بسبب أن ممره كان نجسا، أو بسبب اختلاطه برطوبة فرجها، على مذهب من قال بنجاسة رطوبة فرجها. انتهى. قلت بلى: له حجة، وتعليله بهذا لدعواه لا يفيد شيئا، لأن المشرحين من الأطباء الأقدمين قالوا: إن مستقر المني في غير مستقر البول، وكذلك مخرجاهما، وأما نجاسة رطوبة فرج المرأة ففيها خلاف عندهم.
ومن أحكامه: خدمة المرأة لزوجها في غسل ثيابه ونحو ذلك، خصوصا إذا كان من أمر يتعلق بها، وهو من حسن العشرة وجميل الصحبة.
ومنها: نقل أحوال المقتدى به، وإن كان يستحي من ذكرها عادة.
ومنها: خروج المصلي إلى المسجد بثوبه الذي غسل منه المني قبل جفافه.

230 - حدثنا قتيبة قال حدثنا يزيد قال حدثنا عمر وعن سليمان بن يسار قال سمعت عائشة ح وحدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا عمرو بن ميمون عن سليمان بن يسار قال سألت عائشة عن المني يصيب الثوب فقالت كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلي الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء.
اخرج البخاري هذا الحديث عن خمسة أنفس، ثلاثة منهم في هذا الباب، وهم: عبدان وقتيبة ومسدد، وإثنان منهم في الباب الذي يليه، وهما: موسى بن إسماعيل وعمرو بن خالد، وقد ذكروا عن قريب، وذكرنا أيضا من أخرجه غيره.
ورجاله ههنا سبعة: قتيبة بن سعيد، وقد تقدم في باب السلام من الاسلام. والثاني: يزيد، من الزيادة، وذكره البخاري غير منسوب مجردا، واختلف فيه، فقيل: هو يزيد بن زريع، وقيل: يزيد بن هارون، وكلاهما رويا عن عمرو بن ميمون، ووقع في رواية الفربري: ابن حماد بن شاكر: هكذا حدثنا يزيد، غير منسوب، ووقع في رواية ابن السكن، أحد الرواة عن الفربري: حدثنا يزيد، يعني ابن زريع. وكذا أشار إليه الكلاباذي، ورجح الشيخ قطب الدين الحلبي في شرحه أنه ابن هارون، قال: لأنه لم يوجد من رواية ابن زريع، ووجد من رواية ابن هارون، وقال بعضهم: لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود، وقد جزم أبو مسعود بأنه رواه، فدل على وجدانه. قلت: ليس كذلك، فإن أبا مسعود ما جزم به، وإنما قال: يقال: هو ابن هارون: لا إبن زريع؛ ورواه الإسماعيلي من طريق الدورقي، وأحمد بن منيع ويوسف بن موسى قالوا: حدثنا يزيد بن هارون ورواه أبو نعيم من حديث الحارث بن أبي أسامة أخبرنا يزيد بن هارون ورواه أبو نصر السجزي في (فوائده) من طريق إبراهيم بن محمد التيمي، حدثنا يزيد بن هارون قال أبو نصر: أخرجه البخاري عن قتيبة عن يزيد بن هارون. وقال الجياني: حدثنا أبو عمر النمري حدثنا محمد بن عبد الملك حدثنا ابن الأعرابي أخبرنا محمد بن عبد الملك حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا عمرو. انتهى. ورجح هذا القائل كلامه في كون يزيد هذا ابن زريع لا ابن هارون بشيئين لا ينهض كلامه بهما. أولهما: بقوله: وقد خرجه الإسماعيلي
(3/147)
وغيره من حديث يزيد بن هارون بلفظ مخالف للسياق الذي أورده البخاري، وهذا من مرجحات كونه ابن زريع. قلت: هذا الذي قاله حجة عليه ورد لكلامه، لأن مخالفة لفظ من روى هذا الحديث لسياق البخاري ليست مرجحة لكون يزيد هذا هو ابن زريع مع، صراحة ذكر ابن هارون في الروايات المذكورة. والثاني: قال: وقتيبة معروف بالرواية عن يزيد بن زريع دون ابن هارون. قلت: هذا أيضا حجة عليه ومردود عليه، لأن كون قتيبة معروفا بالرواية عن يزيد بن زريع لا ينافي روايته عن يزيد بن هارون، بعد أن ثبت أن قتيبة روى عنهما جميعًا. ولقد غره في هذا ما قاله المزي: الصحيح أنه يزيد بن زريع، فإن قتيبة مشهور بالرواية عن ابن زريع دون ابن هارون. انتهى. قالوا: فيه نظر، ووجهه ما ذكرنا، وكان قصد هذا القائل توهية كلام الشيخ قطب الدين، والدليل عليه ذكره إياه بما ذكره، ولا يخفى ذلك على من له فطانة. قوله: (حدثنا عمرو عن سليمان) ، كذا وقع: عمرو، غير منسوب عند الأكثرين، ووقع عند ابي ذر يعني: ابن ميمون، وهو: عمرو بن ميمون بن مهران، وقد تقدم. قوله: (حدثنا عبد الواحد) ، هو: عبد الواحد بن زياد البصري، وفي طبقته عبد الواحد بن زيد البصري، ولم يخرج له البخاري شيئا.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ستة مواضع، وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: في الإسناد الأول: سمعت، وفي الثاني: سألت، إشارة إلى الرد على من زعم أن سليمان بن يسار لم يسمع عائشة، رضي الله تعالى عنها، منهم: أحمد بن حنبل والبزار، وقد صرح البخاري بسماعه منها، وكذا هو في (صيحح مسلم) قلت: في سمعت وسألت، لطيفة أخرى لم تأت صوبها الشراح، وهي: أن كل واحدة من هاتين اللفظتين لا تستلزم الاخرى لان السماع لا يستلزم السؤال ولا السؤال يستلزم السماع فلذلك ذكرهما في الإسناد ليدل على صحة السؤال وصحة السماع فافهم. وفيه: أن رواته ما بين بصري وواسطي ومدني. وفيه: وقعت صورة (ح) إشارة إلى التحويل من إسناد قبل ذكر متن الحديث إلى اسناد آخر له، وفيه: في الإسناد الثاني وقع: قال: حدثنا عمرو، يعنى ابن ميمون، وأشار به إلى أن شيخه لم ينسبه، وهذا تفسير له من تلقاء نفسه. فان قلت: الاختلاف المذكور في: يزيد، هل هو: يزيد ابن زريع، أو: يزيد ابن هارون التباس، وهو يقدح في الحديث. قلت: لا، لأن أياً كان فهو عدل ضابط بشرط البخاري، وإنما كان يقدح لو كان أحدهما على غير شرطه.
بيان إعرابه ومعناه قوله: (عن المني) أي: عن حكم المني، هل يشرع غسله أم لا؟ قال بعضهم: فحصل الجواب بأنها كانت تغسله وليس في ذلك ما يقتضي إيجابه. قلت: قد ذكرت فيما مضى أن قوله: كنت، يدل على تكرار الغسل منها، وهو علامة الوجوب مع ورود الامر فيه بالغسل، والأمر المجرد عن القرائن يدل على الوجوب، وهذا القائل يريد تمشية مذهبه من غير دليل نقلي ولا عقلي. قوله: (فيخرج إلى الصلاة) أي: يخرج من الحجرة إلى المسجد للصلاة. قوله: (بقع الماء) ، قد مر تفسير البقع، وهو مرفوع على جواب سؤال مقدر، تقديره، أن يقال: ما ذلك الأثر؟ فأجاب: بقع الماء. اي: هو بقع الماء، وفي الحقيقة يكون خبرا لمبتدأ محذوف؛ وقال بعضهم: هو بدل وليس بشيء، ويجوز النصب فيه على الاختصاص أي: أعني بقع الماء.

65 - (باب إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره)

أي: هذا باب في بيان حكم غسل المني أو غيره، ولم يذهب أثره، ومراده أن الأثر إذا كان باقيا لا يضره، وقال بعضهم: الأثر أثر الشيء المغسول، وفيه نظر، لأن على قوله يكون الباقي أثر المني ونحوه، وهذا يضره، بل المراد الأثر المرئي للماء لا للمني، ولفظ حديث الباب يدل على هذا، وهو قوله: واثر الغسل في ثوبه بقع الماء. قوله: (او غيرها) أي غير الجنابة، نحو: دم الحيض، ولم يذكر في الباب حديثا يدل على هذه الترجمة. وقال بعضهم: وذكر في الباب حديث الجنابة وألحق غيرها قياسا، وأشار بذلك إلى ما رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله! ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض، فكيف أصنع؟ قال: إذا طهرت فاغسليه. قالت: فان لم يخرج الدم؟ قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره) انتهى. قلت: البخاري يذكر مسألة ثم يقيس عليها غيرها، أو يسرد حديثا في باب مترجم دالا على الترجمة، ولا فائدة في ذكر ترجمة بدون ذكر حديث موافق لها مشتمل عليها، ولم نعرف ما مراده من هذا القياس، هل هو لغوي أو اصطلاحي شرعي أو منطقي؟ وما هذا إلا قياس
(3/148)

فاسد. وأيضًا من أين عرفنا أنه أشار بهذا إلى ما رواه أبو داود؟ ومن أين عرفنا أنه وقف على هذا أو لم يقف؟ ولكن كل ذلك تخمين بتخبيط. قوله: (فلم يذهب اثره) : الفاء، فيه للعطف لا للجزاء. لقوله: (إذا غسل) ، لأن جزاءه محذوف تقديره: صح صلاته، أو نحو ذلك، والضمير في: أثره، يرجع إلى كل واحد من غسل الجنابة وغيرها. وقال الكرماني: فلم يذهب أثره: أي أثر الغسل. وقال بعضهم، وأعاد الضمير مذكراً على المعني أي: فلم يذهب أثر الشيء المغسول. قلت: كلام الكرماني أوجه، لأن المعنى على أن بقاء أثر الغسل لا يضر لإبقاء المغسول، اللهم إلا إذا عسر إزالة أثر المغسول، فلا يضر حينئذ للحرج، وهو مدفوع شرعا. وقال الكرماني؛ في بعض النسخ: أثرها، اي: أثر الجنابة. قلت: إن صحت هذه النسخة فلا حاجة إلى التأويل المذكور، ولكن تفسيره بقوله: أي، أثر الجنابة يرجع إلى تفسير القائل المذكور، وفساده ظاهر.

231 - حدثنا موسى بن إسماعيل المنقري قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا عمرو بن ميمون قال سألت سليمان بن يسار في الثوب تصيبه الجنابة قال قالت عائشة كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلي الصلاة وأثر الغسل فيه بقع الماء.
مطابقة الحديث لإحدى الترجمتين، وهي أولاهما ظاهرة، والمنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف: نسبة إلى بني منقر، بطن من تميم، وهو أبو سلمة التبوذكي. عبد الواحد هو: ابن زياد المذكور عن قريب. قوله: (سمعت سليمان بن يسار) ، هكذا هو عند الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (سألت سليمان بن يسار) . قوله: (في الثوب) معناه على رواية: سمعت، أي: سمعت سليمان يقول في حكم الثوب الذي تصيبة الجنابة، وعلى رواية: سألت، المعنى: قلت لسليمان: ما تقول في الثوب الذي تصيبة الجنابة؟ وعلى هذه الرواية يجوز أن تكون كلمة: في بمعنى: من، كما في قوله.
(وهل يعمن من كان في العصر الخالي)

قوله: (كنت أغسله) ، أي: كنت أغسل أثر الجنابة، قاله الكرماني. قلت: ليس معناه كذا، لأن معناه: كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس المعنى: أغسل أثر المني، فعلى هذا تذكير الضمير يكون باعتبار معنى الجنابة، لأن معناها: المني ههنا، وباقي الكلام فيه قد مر فيما قبله.

232 - حدثنا عمرو بن خالد قال حدثنا زهير قال حدثنا عمرو بن ميمون بن مهران عن سليمان بن يسار عن عائشة أنها كانت تغسل المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراه فيه بقعةً او بقعاً.
عمرو بن خالد، بفتح العين، وليس في شيوخ البخاري عمر بن خالد بضم العين. قوله: (زهير) هو ابن معاوية. قوله: (عمرو بن ميمون بن مهران) ، بكسر الميم غير منصرف، ولم يذكر جد عمرو في هذا الحديث الذي رواه عن عائشة من خمسة أوجه إلا في هذا الوجه، وفي هذا الوجه نكتة أخرى وهي أن فيه الإخبار عن سليمان عن عائشة، رضي الله عنها، أنها كانت تغسل على سبيل الغيبة، وفي الأوجه الأربعة المتقدمة الإخبار عنها على سبيل التكلم عنها. قوله: (من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وفي بعض النسخ: (من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم) . قوله: (ثم أراه) من رؤية العين أي: أبصره، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى الثوب، وفي بعض النسخ: (ثم أرى) ، بدون الضمير، فعلى هذا مفعول: أرى، محذوف على ما يجيء الآن. فان قلت: كيف التئام هذا بما قبله، لأن ما قبله إخبار عن سليمان وقوله: ثم أراه، نقل عن عائشة، رضي الله عنها قلت فيه محذوف تقديره قالت ثم أراه وهذا الوجه من كلام الكرماني أن أول الكلام نقل بالمعنى عن لفظ عائشة وآخره نقل للفظها بعينه. قوله: (فيه) أي: في الثوب، هذا على تقدير أن يكون: أرى، بدون الضمير المنصوب، والتقدير: ثم أرى في الثوب بقعة، فيكون انتصاب بقعة على المفعولية. وأما على تقدير: أراه، بالضمير المنصوب، فمرجعه يكون الأثر الذي يدل عليه وقوله: (تغسل المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم) أي: أرى أثر الغسل في الثوب بقعة. قوله: (أو بقعاً) ، الظاهر أنه من كلام عائشة، ويحتمل أن يكون شكا من سليمان أو من أحد الرواة. والله تعالى أعلم.

(3/149)
66 - (باب أبوال الابل والدواب والغنم ومرابضها)

أي: هذا باب في بيان حكم أبوال الإبل ... إلى آخره، إنما جمع الأبوال لأنه ليس المراد ذكر حكم بول الإبل فقط، بل المراد بيان حكم بول الإبل وبول الدواب وبول الغنم، ولكن ليس في البا إلا ذكر بول الإبل فقط، ولا واحد للإبل من لفظها، وهي مؤنثة لأن أسماء الجموع التي واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لها لازم. وقد تسكن الباء فيه للتخفيف، والجمع آبال. والدواب: جمع دبة، وهي في اللغة: اسم لما يدب على وجه الأرض، فيتناول سائر الحيوانات. وفي العرف: اسم لذي الأربع خاصة. وقال الكرماني: المراد ههنا معناه العرفي، وهو ذوات الحوافر، يعني: الخيل والبغال والحمير. قلت: ليس معناه العرفي منحصراً في هذه، بل يطلق على كل ذي أربع، والبخاري لم يذكر في هذا الباب إلا حديثين: أحدهما يفهم منه حكم بول الإبل. والآخر: يفهم منه جواز الصلاة في مرابض الغنم، فعلى هذا ذكر لفظه الدواب لا فائدة فيه. وقال بعضهم: ويحتمل أن يكون من عطف العام على الخاص. قلت: هو كذلك، فأي شيء ذكر الاحتمال فيه، وفيه عطف الخاص على العام أيضا، وهو عطف الغنم على الدواب. قوله: (ومرابضها) بالجر عطف على قوله: (والغنم) وهو جمع: مربض، بفتح الميم وكسر الباء الموحدة: من ربض بالمكان يربض، من باب: ضرب يضرب، إذا ألصق به، وأقام ملازماً له، والمربض: المكان الذي يربض فيه، والمرابض للغنم كالمعاطن للإبل، وربوض الغنم كبروك الجمل. وقال بعضهم: المربض، بكسر الميم وفتح الموحدة؛ قلت: هو غلط صريح ليس لقائله مس بالعلوم الادبية، والضمير في: مرابضها، يرجع إلى الغنم. وقال بعضم: الضمير يعود على أقرب مذكور. قلت: هذا قريب مما قلنا.
فان قلت: ما وجه مناسبة هذا الباب بما قبله؟ قلت: يجوز أن يكون من حيث إن كلاً منهما يشتمل على شيء، وهو نجس في نفسه، على قول من يقول بنجاسة المني ونجاسة بول الإبل، وعلى قول من يقول بطهارتهما يكون وجه المناسبة بينهما في كونهما على السواء في الطهارة.
وصلى أبو موسي رضي الله عنه في دار البرهيده والسرقين والبرية إلى جنبه فقال ههنا وثم سواء

هذا الاثر وصله أبو نعيم، شيخ البخاري في كتاب (الصلاة) له، قال: حدثنا الأعمش عن مالك بن الحارث هو السلمي الكوفي، عن أبيه، قال: صلى بنا أبو موسى في دار البريد، وهناك سرقين الدواب والبرية على الباب، فقالوا: لو صليت على الباب ... فذكره. وهذا تفسير لما ذكره البخاري معلقا. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا في (مصنفه) فقال: ثنا وكيع الأعمش عن مالك بن الحارث عن أبيه قال، كنا مع أبي موسى في دار البريد، فحضرت الصلاة فصلى بنا على روث وتبن. فقلنا: لا نصلي ههنا والبرية إلى جنبك. فقال: البرية وههنا سواء. وقال ابن حزم: روينا من طريق شعبة وسفيان، كلاهما عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن أبيه قال: صلى بنا أبو موسى على مكان فيه سرقين، وهذا لفظ سفيان، وقال شعبة: روث الدواب. قال: ورويناه من طريق غيرهما: والصحراء أمامه. وقال: ههنا وهناك سواء، وأبو موسى الاشعري اسمه: عبد الله بن قيس، تقدم في باب: أي: الإسلام أفضل. قوله: (في دار البريد) وهي دار ينزلها من يأتي برسالة السلطان، والمراد من: دار البريد، ههنا موضع بالكوفة كانت الرسل تنزل فيه إذا حضروا من الخلفاء إلى الأمراء، وكان أبو موسى، رضي الله تعالى عنه، أميرا على الكوفة في زمن عمر، وفي زمن عثمان، رضي الله عنهما، وكان الدار في طرف البلد، ولهذا كانت البرية إلى جنبها، و: البريد، بفتح الباء الموحدة: المرتب، والرسول، وإثنا عشر ميلًا، قاله الجوهري. قوله: (والسرقين) ، بكسر السين المهملة وسكون الراء هو: الزبل، وحكى فيه ابن سيده فتح أوله، وهو فارسي معرب، ويقال له، السرجين، بالجيم، وهو في الأصل حرف بين القاف والجيم يقرب من الكاف. قوله: (والبرية) بتشديد الياء آخر الحروف: الصحراء. قال صاحب (المحكم) : هي منسوبة إلى البر، والجمع: البراري. قوله: (جنبه) الجنب والجانب والجنبة: الناحية. ويقال: قعدت إلى جنب فلان، وإلى جانب فلان بمعنى. قوله: (وثم) بفتح الثاء المثلثة وتشديد الميم، وهو اسم يشار به إلى المكان البعيد، نحو: {وأزلفنا ثم الآخرين} (الشعراء: 64) وهو ظرف لا يتصرف، فلذلك غلط من أعربه مفعولا: لرأيت في قوله: تعالى {واذا رأيت ثم رأيت} (الإنسان: 20) قوله: (سواء) ، يعني في صحة الصلاة، ثم اعلم أن قوله: (والسرقين) يجوز أن يكون معطوفًا على: الدار، وعلى: البريد، قال الكرماني: ويروى بالرفع، ولم يذكر وجهه. قلت: وجه أن يكون مبتدأ. وقوله: والبرية، بالرفع عطف عليه،
(3/150)
وقوله: الى جنبه، خبره ويكون محل الجملة النصب على الحال، وعلى تقدير جر: السرقين، يكون ارتفاع: البرية، على الابتداء. وما بعده خبره، والجملة حال أيضا وفاعل: قال، أبو موسى، رضي الله تعالى عنه. قوله: (ههنا) اسم موضع، ومحله رفع على الابتداء، و: ثم، عطف عليه، وخبره قوله: سواء، يعني: أنهما متساويان في صحة الصلاة. قال ابن بطال: قوله: أبوال الإبل والدواب، وافق البخاري فيه أهل الظاهر، وقاس بول ما يكون مأكولا لحمه على بول الإبل، ولذلك قال: وصلى أبو موسى في دار البريد والسرقين، ليدل على طهارة أرواث الدواب وأبوالها، ولا حجة له فيها، لأنه يمكن أن يكون صلى على ثوب بسطه فيه أو في مكان يابس لا تعلق به نجاسة. وقد قال عامة الفقهاء: إن من بسط على موضع نجس بساطاً وصلى فيه إن صلاته جائزة، ولو صلى على السرقين بغير بساط لكان مذهبا له، ولم تجز مخالفة الجماعة به. وقال بعضهم نصرة للبخاري وردا على ابن بطال: وأجيب بأن الأصل عدمه، وقد رواه سفيان الثوري في (جامعه) عن الأعمش بسنده، ولفظه: صلى بنا أبو موسى على مكان فيه سرقين، وهذا ظاهر في أنه بغير حائل. قلت: الظاهر أنه كان بحائل، لأن شأنه يقتضي أن يحترز عن الصلاة على عين السرقين، ثم قال هذا القائل: وقد روى سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب وغيره: أن الصلاة على الطنفسة محدث، إسناده صحيح. قلت: أراد بهذا تأييد ما قاله، ولكنه لا يجديه، لأن كون الصلاة على الطنفسة محدثة لا يستلزم أن يكون على الحصير ونحوه كذلك، فيحتمل أن يكون أبو موسى قد صلى في دار البريد والسرقين على حصيرا ونحوه، وهو الظاهر، على أن الطنفسة، بكسر الطاء وفتحها: بساط له خمل رقيق، ولم يكونوا يستعملونها في حالة الصلاة كاستعمال المترفين إياها، فكرهوا ذلك في الصدر الأول، واكتفوا بالدون من السجاجيد تواضعاً، بل كان أكثرهم يصلي على الحصير، بل كان الأفضل عندهم الصلاة على التراب تواضعاً ومسكنة.

233 - حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال قدم اناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جىء بهم فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر ت أعينهم والقوافي الحرة يستسقون فلا يسقون..
مطابقة الحديث للترجمة في بول الإبل فقط، والمذكور فيها أربعة أشياء.
بيان رجاله وهم خمسة كلهم قد ذكروا، فسليمان بن حرب في باب من كره أن يعود في الكفر، وحماد في باب المعاصي من أمر الجاهلية، وأيوب السختياني التابعي في باب حلاوة الإيمان، وأبو قلابة، بكسر القاف: عبد الله، كذلك. وكلهم أعلام ائمة بصريون. (بيان لطائف اسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد والباقي عنعنة في أبعة مواضع. وفيه: رواية التابعي عن التابعي. وفيه: أن الرواة بصريون.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في ثمانية مواضع: هنا عن سلمان بن حرب، وفي المحاربين عن قتيبة، وفي الجهاد عن معلى بن اسد، وفي المحاربين عن موسى بن اسماعيل، وعن علي بن عبد الله، ومحمد بن الصلت، وفي التفسير عن علي بن عبد الله، وفي المغازي عن محمد بن عبد الرحيم، وفي الديات عن قتيبة. وأخرجه مسلم في الحدود عن هارون بن عبد الله بن سليمان بن حرب، وعن الحسن بن أحمد، وعن عبد الله بن عبد الرحمن، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، وعن محمد بن المثنى، وعن أحمد بن عثمان النوفلي. وأخرجه أبو داود في الطهارة عن سليمان بن حرب، وعن موسى بن إسماعيل، وعن محمد بن الصباح، وعن عمرو بن عثمان، وعن محمد بن قدامة. وأخرجه النسائي في المحاربة عن احمد بن سليمان، وعن عمرو بن عثمان، وعن إسحاق بن منصور، وعن إسماعيل بن مسعود، وأعاد حديث عمرو بن عثمان في التفسير، وفي رواية مسلم أدخل بين أيوب وأبي قلابة أبا رجاء، مولى أبي قلابة، وذكر الدارقطني أن رواية حماد بن زيد إنما هي عن أيوب عن أبي رجاء عن أبي قلابة. وقال: سقوط أبي رجاء وثبوته صواب، ويشبه أن يكون أيوب سمع من
(3/151)
ابي قلابة عن أنس قصة العرنيين مجردة، وسمع من ابي رجاء عن ابي قلابة حديثه مع عمر بن عبد العزيز في القسامة، وفي آخرها قصة العرنيين، فحفظ عنه حماد بن زيد القصتين عن أبي رجاء عن ابي قلابة، وحفظ الآخرون عن ابي قلابة عن أنس قصة العرنيين حسب.
بيان لغاته قوله: (من عكل) بضم العين المهملة وسكون الكاف، وفي آخره لام: وعكل خمس قبائل، وذلك أن عوف بن عبد مناف ولد قيسا، فولد قيس وائلاً وعوانة، فولد وائل عوفاً وثعلبة، فولد عوف بن وائل الحارث وجشماً وسعداً وعلياً وقيساً، وأمهم بنت ذي اللحية، لأنه كان مطائلاً لحيته، فحضنتهم أمة سوداء يقال لها: عكل، كذا قاله الكلبي وغيره، ويقال: عكل امرأة حضنت ولد عوف بن إياس بن قيس بن عوف بن عبد مناة ابن اد بن طابخة. وزعم السمعاني: أنهم بطن من غنم، ورد ذلك عليه أبو الحسن الجزري بأن عكل امرأة من حمير يقال لها: بنت ذي اللحية، تزوجها عوف بن قيس بن وائل بن عوف بن عبد مناة بن اد، فولدت له سعدا وجشماً وعلياً، ثم هلكت الحميرية، فحضنت عكل ولدها وهم من جملة الرباب، تحالفوا على بني تميم. قوله: (او عرينة) ، بضم العين وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون، وعرينة بن نذير بن قيس بن عبقر بن أنمار بن الغوث بن طي بن أدد، وزعم اليشكري أن عرينة بن عزيز بن نذير. قوله: (فاجتووا المدينة) أي: أصابهم الجوى، بالجيم: وهو داء الجوف إذا تطاول، ويقال الاجتواء كراهية المقام. يقال: اجتويت البلد: إذا كرهتها وإن كانت موافقة لك في بدنك، واستوبلتها إذا لم توافقك في بدنك وإن أحببتها. قوله: (بلقاح) بكسر اللام، وهي: الإبل، الواحدة: لقوح، وهي الحلوب مثل: قلوص وقلاص، قال ابو عمرو: إذا انتجت فهي لقوح شهرين أو ثلاثة، ثم هي لبون بعد ذلك. قوله: (فاستاقوا النعم) : استاقوا، من الاستياق، وهو السوق. و: النعم، بفتحتين: واحد الأنعام، وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. قوله: (في آثارهم) الآثار جمع: اثر، بكسر الهمزة وسكون الثاء المثلثة، يقال: خرجت في أثره إذا خرجت وراءه. قوله: (وسمرت) ، بضم السين وتخفيف الميم وتشديدها، ومعنى سمرت أعينهم: كحلت بمسامير محماة. وفي رواية: سملت، باللام موضع الراء، يقال: سلمت عينه، بصيغة المجهول ثلاثياً، إذا فقئت بحديدة محماة. وقيل: هما بمعنى واحد. قوله: (في الحرة) ، بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء: وهي الأرض ذات الحجارة السود، ويجمع على: حر وحرار وحرات وحرين وأحرين، وهو من الجموع النادرة: كثبين وقلين، في جمع: ثبة وقلة. والمراد من الحرة هذه: حرة بظاهر مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، بها حجارة سود كثيرة، وكانت بها الوقعة المشهورة أيام يزيد بن معاوية. قوله: (يستسقون) من الاستسقاء، وهي طلب السقي وطلب السقياء أيضا، وهو المطر.
بيان إعرابه قوله: (فاجتووا المدينة) : الفاء، فيه للعطف. قوله: (وان يشربوا) عطف على: لقاح، وكلمة: ان، مصدرية، والتقدير: فأمرهم بالشرب من ألبانها. قوله: (قتلوا) جواب: لما، قوله: (فبعث) أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومفعوله محذوف أي: الطلب، كما جاء في رواية الأوزاعي. قوله: (فقطع أيديهم إسناد الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجاز، والدليل عليه ما جاء في رواية أخرى: (فأمر بقطع أيديهم) . والأيدي جمع: يد، فإما أن يراد بها أقل الجمع الذي هو إثنان عند بعض العلماء، لأن لكل منهم يدين، وإما أن يراد التوزيع. قوله: (وألقوا) ، بصيغة المجهول من: الإلقاء. قوله: (يستسقون) جملة وقعت حالا.
بيان المعاني قوله: (قدم أناس) أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بلقاح أي: فأمرهم أن يلحقوا بها. قوله: (فلما صحوا) فيه حذف تقديره: فشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا، قوله: (فلما ارتفع النهار) فيه حذف أيضا تقديره: فأدركوا في ذلك اليوم فأخذوا، فلما ارتفع جيء بهم، أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم أسارى. قوله: (ولا يسقون) ، بضم الياء وفتح القاف.
بيان اختلاف ألفاظه قوله: (عن أنس) زاد الأصيلي: ابن مالك قوله: (قدم أناس) بالهمزة المضمومة عند الأكثرين، وعند الأصيلي والكشميهني والسرخسي: (ناس) ، بلا همزة، وفي رواية البخاري في الديات من طريق أبي رجاء عن أبي قلابة: (قدم أناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وقوله: (من عكل أو عرينة) الشك فيه من حماد، قاله بعضهم. وقال الكرماني: ولفظ: أو، ترديد من أنس، رضي الله تعالى عنه. وقال الداودي: هو شك من الراوي، والذي قال: إنه حماد لا يدري أي شيء وجه تعيينة بذلك، وللبخاري في المحاربين: عن قتيبة عن حماد: (أن رهطا من عكل، أو قال: من عرينة) . وله في الجهاد: عن وهيب
(3/152)
عن أيوب: (أن رهطا من عكل) ، ولم يشك، وكذا في المحاربين: عن يحيى بن أبي كثير، وفي الديات: عن أبي رجاء، كلاهما عن أبي قلابة، وله في الزكاة عن شعبة عن قتادة عن أنس: أن ناسا من عرينة، ولم يشك أيضا، وكذا لمسلم من رواية أبي عوانة معاوية بن قرة عن أنس، وفي المغازي: عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: (أن ناسا من عكل وعرينة) ، بالواو العاطفية. قيل: هو الصواب، والدليل عليه ما وقع في رواية أبي عوانة، والطبراني من حديث قتادة عن أنس قال: (كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل) . قلت: هذا يخالف ما عند البخاري في الجهاد من طريق وهيب عن أيوب، وفي الديات من طريق حجاج الصواف عن أبي رجاء، كلاهما عن أبي قلابة عن أنس: (أن رهطا من عكل ثمانية) ، وجه ذلك أنه صرح بأن الثمانية من عكل، ولم يذكر عرينة قلت: يمكن التوفيق بأن احداً من الرواة طوى ذكر عرينة لأنه روى عن أنس تارة من عكل أو عرينة، وتارة من عرينة بدون ذكر عكل، وتارة من عكل وعرينة، كما بينا. فإن قلت: في رواية أبي عوانة والطبري: (كانوا سبعة) ، وفي رواية البخاري: ثمانية، فهذا مخالف. قلت: لا مخالفة أصلا لاحتمال أن يكون الثامن من غير القبيلتين، وكان من أتباعهم. قوله: (فاجتووا المدينة) وفي رواية: (استوخموها) ، وللبخاري من رواية سعيد عن قتادة في هذه القصة: (فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف) ، وله في الطب من رواية ثابت عن أنس: (أن ناسا كان بهم سقم قالوا: يا رسول الله أرونا وأطعمنا، فلما صحوا قالوا: إن المدينة وخمة) . وفي رواية أبي عوانة من رواية غيلان عن أنس: (كان بهم هزال شديد) . وعنده من رواية ابن سعد عنه: (مصفر ألوانهم) بعد أن صحت أجسادهم، فهو من حمى المدينة كما عند أحمد من رواية حميد عن أنس. قوله: (فامرهم بلقاح) وللبخاري في رواية همام عن قتادة: (فأمرهم أن يلحقوا براعية) ، وله عن قتيبة عن حماد: (فأمر لهم بلقاح) بزيادة اللام، ووجهه أن تكون اللام زائدة أو للاختصاص، وليست للتمليك. وعند أبي عوانة من رواية معاوية بن قرة التي أخرج مسلم إسنادها: أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، (فقالوا: يا رسول الله، قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل) ، وللبخاري من رواية وهيب عن أيوب: (أنهم قالوا: يا رسول الله إبغنار سلاً، أي: أطلب لبنًا. قال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود) ، وفي رواية ابي رجاء: (هذه نعم لنا نخرج فاخرجوا فيها) . وله في المحاربين: عن موسى عن وهيب بسنده فقال: (إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وله فيه من رواية الأوزاعي: عن يحيى بن أبي كثير بسنده: (فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة) ، وكذا في الزكاة من طريق شعبة عن قتادة. فان قلت: كيف التوفيق بين هذه الأحاديث؟ قلت: طريقة أنه صلى الله عليه وسلم كانت له إبل من نصيبه من المغنم، وكان يشرب لبنها، وكانت ترعى مع إبل الصدقة. فأخبره مرة عن إبله، ومرة عن إبل الصدقة لاجتماعهم في موضع واحد. وقال بعضهم: والجمع بينها أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يخرجوا معه فخرجوا معه إلى الإبل، ففعلوا ما فعلوا. قوله: (وأن يشربوا) وفي رواية للبخاري عن أبي رجاء: (فأخرجوا فاشربوا من ألبانها وأبوالها) ، بصيغة الأمر. وفي رواية شعبة عن قتادة: (فرخص لهم أن يأتوا الصدقة فيشربوا) . قوله: (فلما صحوا) ، وفي رواية أبي رجاء: (فانطلقوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فلما صحوا) ، وفي رواية وهيب: (وسمنوا) ، وفي رواية الإسماعيلي من رواية ثابت: (ورجعت إليهم ألوانهم) . قوله: (فجاء الخبر) ، وفي رواية وهيب عن أيوب: الصريخ، بالخاء المعجمة، وهو على وزن: فعيل، بمعنى: فاعل، أي صرخ بالإعلام بما وقع منهم، وهذا الصارخ هو أحد الراعيين، كما ثبت في (صحيح أبي عوانة) من رواية معاوية بن قرة عن أنس. وقد أخرج مسلم إسناده ولفظه: (فقتلوا أحد الراعيين وجاء الآخر وقد حزع، فقال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل) . قوله: (فذهب في آثارهم) زاد في رواية الأوزاعي: الطلب، وفي حديث سلمة بن الأكوع: (خيلاً من المسلمين أميرهم كرز بن جابر الفهري) . وكذا ذكره ابن إسحاق والأكثرون، وكرز، بضم الكاف وسكون الراء وفي آخره زاي معجمة، وللنسائي من رواية الأوزاعي: (فبعث في طلبهم قافة) ، وهو جمع: قائف، ولمسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس: (أنهم شباب من الأنصار قريب من عشرين رجلا، وبعث معهم قائفاً يقتفي آثارهم) . قوله: (قطع أيديهم) ، كذا هو للأكثرين، وفي رواية الأصيلي والمستملي والسرخسي: (فأمر بقطع أيديهم) ، وقال: الداودي: يعني قطع يدي كل واحد ورجليه، وهذ يرده رواية الترمذي من خلاف، وكذا ذكر الإسماعيلي عن الفريابي عن الأوزاعي بسنده، وللبخاري من رواية الأوزاعي أيضا. قوله:
(3/153)
(وسمرت) ، لم تختلف روايات البخاري كلها بالراء، ووقع لمسلم من رواية عبد العزيز: (وسلمت) ، بالتخفيف واللام، وللبخاري من رواية وهيب عن أيوب، ومن رواية الأوزاعي عن يحيى، كلاهما عن أبي قلابة: (ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها) . ولا يخالف ذلك رواية المستملي، لأنه فقأ العين بأي شيء كان. قوله: (يستسقون فلا يسقون) زاد وهيب والأوزاعي: حتى ماتوا، وفي رواية سعيد: (يعضون الحجارة) ، وفي رواية أبي رجاء: (ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا) وفي الطب في رواية ثابت، قال أنس: (فرأيت رجلا منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت) ، ولأبي عوانة من هذا الوجه: (يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة) ، وزعم الواقدي أنهم صلبوا، ولم يثبت ذلك في الروايات الصحيحة.
بيان ما فيه من تفسير المبهم وغير ذلك قوله: (قدم أناس من كل أو عرينة) وفي رواية ابي عوانة والطبري بإسنادهما إلى انس، قال: (كانوا أربعة عن عرينة وثمانية عن عكل) . وفي (طبقات) ابن سعد: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثرهم كرز بن جابر الفهري ومعه عشرون فارسًا، وكان العرنيون ثمانية، وكانت اللقاح ترعى بذي الحدر، ناحية بقيا قريبا من نمير، على ستة أميال من المدينة، فلما غدوا على اللقاح أدركهم يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر فقاتلهم فقطعوا يده ورجله وغرز والشوك في لسانه وعينيه حتى مات ففعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، وأنزل عليه {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادًا ... } (المائدة: 33) الآية. فلم يسمل بعد ذلك عينا. انتهى. وكان يسار نوبياً أصابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة محارب، فلما رآه يحسن الصلاة أعتقه، وقال ابن عقبة كان أمير السرية سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وخمل يسار ميتا فدفن بقباء وزعم الرشاطي أنهم من غير عرينة التي في قضاعة، وفي (مصنف عبد الرزاق) : كانوا من بني فزارة، وفي كتاب ابن الطلاع: أنهم كانوا من بني سليم، وفيه نظر، لأن هاتين القبيلتين لا يجتمعان مع العرنيين. وفي (مسند الشاميين) للطبراني عن أنس: كانوا سبعة: أربة من عرينة وثلاثة من عكل، فقيل العرنيين لأن أكثرهم كان من عرينة، وذكرنا عن الطبري نحوه، ثم إن قدومه كان فيما ذكره ابن إسحاق من المغازي في جمادي الآخرة سنة ست، وذكره البخاري بعد الحديبية، وكانت في ذي القعدة منها، وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حبان وغيرهما، وذكر الواقدي أن السرية كانت عشرين، ولم يقل من الأنصار، وسمى منهم جماعة من المهاجرين، منهم: بريد بن الحصيب وسلمة بن الأكوع الأسلميان وجندب ورافع ابنا مكيث الجهنيان وأبو زر وأبو رهم الغفاريان وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان، وقال بعضهم: الواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف؟ قلت: ما للواقدي وهو إمام وثقه جماعة منهم أحمد؟ والعجب من هذا القائل، إنه يقع فيه وهو أحد مشايخ إمامه. وقال الطبري بإسناده إلى جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله تعالى عنه، قال: قدم قوم من عرينة حفاة، فلما صحوا واشتدوا قتلوا رعاة اللقاح، ثم خرجوا القاح، فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلادهم ... فذكره إلى أن قال: فجعلوا يقولون: الماء الماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: النار النار. انتهى. قلت: هذا مشكل، لأن قصة العرنيين كانت في شوال سنة ست كما ذكرنا، وإسلام جرير كان في السنة العاشرة، وهذا قول الأكثرين إلا أن الطبراني وابن قانع قالا: أسلم قديما. فان صح ما قالاه فلا إشكال، وذكر ابن سعد أن عدد اللقاح كان خمس عشرة، وأنهم نحروا منهم واحدة يقال لها: الحنا.
بييان استنباط الأحكام منها: أن مالكًا استدل بهذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وبه قال أحمد ومحمد بن الحسن والإصطخري والروياني الشافعيان، وهو قول الشعبي وعطاء والنخعي والزهري وابن سيرين والحكم الثوري، وقال ابو داود بن علية: بول كل حيوان ونحوه، وإن كان لا يؤكل لحمه، طاهر غير بول الآدمي. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وآخرون كثيرون: الأبوال كلها نجسة إلا ما عفي عنه، وأجابوا عنه بأن ما في حديث العرنيين قد كان للضرورة، فليس فيه دليل على أنه يباح في غير حال الضرورة، لأن ثمة أشياء أبيحت في الضرورات ولم تبح في غيرها، كما في لبس الحرير فإنه حرام على الرجال وقد ابيح لبسه في الحرب أو للحكة أو لشدة البرد إذا لم يجد غيره، وله أمثال كثيرة في الشرع، والجواب المقنع في ذلك أنه، عليه الصلاة والسلام، عرف بطريق الوحي شفاهم، والاستشفاء بالحرام جائز عند التيقن
(3/154)
بحصول الشفاء، كتناول الميتة في المخصمة، والخمر عند العطش، وإساغة اللقمة، وإنما لا يباح ما لا يستيقن حصول الشفاء به. وقال ابن حزم: صح يقينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بذلك على سبيل التداوي من السقم الذي كان أصابه، وأنهم صحت أجسامهم بذلك، والتداوي منزلة ضرورة. وقد قال عز وجل: {إلا ما اضطررتم إليه} (الأنعام: 119) فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المآكل والمشارب. وقال شمس الائمة: حديث أنس، رضي الله تعالى عنه، قد رواه قتادة عنه أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل. ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكره في رواية حميد الطويل عنه، والحديث حكاية حال، فإذا دار بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة سقط الاحتجاج به، ثم نقول: خصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه ولا يوجد مثله في زماننا، وهو كما خص الزبير، رضي الله تعالى عنه، بلبس الحرير لحكة كانت به، أو للقمل، فإنه كان كثير القمل، أو لأنهم كانوا كفارًا في علم الله تعالى ورسوله، عليه السلام، علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة، ولايبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس. انتهى. فإن قلت: هل لأبوال الإبل تأثير في الاستشفاء حتى أمرهم صلى الله عليه وسلم بذلك؟ قلت: قد كانت إبله صلى الله عليه وسلم ترعى الشيح والقيصوم، وأبوال الإبل التي ترعى ذلك وألبانها تدخل في علاج نوع من أنواع الاستشفاء، فإذا كان كذلك كان الأمر في هذا أنه، عليه الصلاة والسلام، عرف من طريق الوحي كون هذه للشفاء، وعرف أيضا مرضهم الذي تزيله هذه الأبوال، فأمرهم لذلك، ولا يوجد هذا في زماننا، حتى إذا فرضنا أن أحدا عرف مرض شخص بقوة العلم، وعرف أنه لا يزيله إلا بتناول المحرم، يباح له حينئذ أن يتناوله، كما يباح شرب الخمر عند العطش الشديد، وتناول الميتة عند المخمصة، وأيضًا التمسك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه) . أولى لأنه ظاهر في تناول جميع الأبوال، فيجب اجتنابها لهذا الوعيد، والحديث رواه أبو هريرة وصححه ابن خزيمة وغيره مرفوعا.
ومن الاحكام نظر الإمام في مصالح قدوم القبائل والغرباء إليه، وأمره لهم بما يناسب حالهم وإصلاح أبدانهم.
ومنها: جواز التطبب وطب كل جسد بما اعتاده، ولهذا أفرد البخاري بابا لهذا الحديث وترجم عليه: الدواء بأبوال الإبل وألبانها.
ومنها: ثبوت أحكام المحاربة في الصحراء، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث في طلبهم لما بلغه فعلهم بالرعاء، واختلف العلماء في ثبوت أحكامها في الأمصار، فنفاه أبو حنيفة، وأثبته مالك والشافعي. ومنها: شرعية المماثلة في القصاص. ومنها: جواز عقوبة المحاربين، وهو موافق لقوله تعالى: {انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ... } (المائدة: 33) الآية، وهل كلمة: أو، فيها للتخيير أو للتنويع قولان. ومنها: قتل المرتد من غير استتابة، وفي كونها واجبة أو مستحبة خلاف مشهور، وقيل: هؤلاء حاربوا، والمرتد إذا حارب لا يستناب لأنه يجب قتله، فلا معنى للاستتابة.
الاسئلة والاجوبة الأول: لو كانت أبوال الإبل محرمة الشرب لما جاز التداوي بها لما روى أبو داود من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (إن الله تعالى لم يجعل شفاء امتي فيما حرم عليها) . وأجيب: بأنه محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار فلا يكون حرامًا: كالميتة للمضطر، كما ذكرنا. وقال ابن حزم: هذا حديث باطل، لأن في مسنده سليمان الشيباني وهو مجهول. قلت: أخرجه ابن حبان في (صحيحه) وصححه، قال: حدثنا أحمد بن المثنى، قال: أخبرنا أبو خيثمة، قال: حدثنا جرير عن الشيباني عن حسان بن المخارق قال: (قالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: اشتكت ابنة لي، فنبذت لها في كوز، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغلي فقال: ما هذا؟ فقلت: اشتكت ابنتي فنبذنا لها هذا: فقال، عليه الصلاة والسلام: إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام) . وقول ابن حزم: أن في سنده سلمان وهم، وإنما هو: سليمان، بزيادة الياء آخر الحروف، وهو أحد الثقات، أخرج عنه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) فإن قلت: يرد عليه قوله، عليه الصلاة والسلام في الخمر: إنها ليست بدواء وإنها داء، في جواب من سأل عن التداوي بها. قلت: هذا روي عن سويد بن طارق: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه، ثم سأله فنهاه، فقال يا نبي الله: إنها دواء! فقال: لا، ولكنها داء) . وأجاب ابن حزم عن ذلك فقال: لا حجة فيه، لأن في سنده: سماك بن حرب، وهو يقبل التلقين، شهد عليه بذلك شعبة وغيره، ولو صح لم يكن فيه حجة، لأن فيه: أن الخمر ليس بدواء، ولا خلاف بيننا في أنها ليس بداوء فلا يحل تناوله، وقد أجاب بعضهم بأن ذلك خاص بالخمر، ويلتحق بها غيرها من المسكرات. قلت: فيه نظر، لأن دعوى
(3/155)
الخصوصية بلا دليل لا تسمع، والجواب القاطع أن هذا محمول على حالة الاختيار كما ذكرنا. فان قلت: روي عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئا) ، وروي عن جابر والبراء، رضي الله تعالى عنهما، مرفوعا: (ما أكل لحمه فلا بأس ببوله) . وحديث ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، الآتي ذكره في باب: إذا القى على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته، والحديث الصحيح الذي ورد في غزوة تبوك: (فكان الرجل ينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده) . قلت: أما حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، فغير مسند، لأنه ليس فيه أنه، عليه الصلاة والسلام، علم بذلك. وأما حديث جابر والبراء فرواه الدارقطني وضعفه. وأما حديث ابن مسعود فلأنه كان بمكة قيل ورود الحكم بتحريم النجو والدم، وقال ابن حزم: هو منسوخ بلا شك. وأما حديث غزوة تبوك فقد قيل: إنه كان للتداوي، وقال ابن خزيمة: لو كان الفرث إذا عصره نجسا لم يجز للمرء أن يجعله على كبده.
السؤال الثاني: ما وجه تعذيبهم بالنار وهو تسمير أعينهم بمسامير محمية، كما ذكرنا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بالنار؟ الجواب: أنه كان قبل نزول الحدود، وآية المحاربة والنهي عن المثلة، فهو منسوخ. وقيل: ليس بمنسوخ، وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل قصاصا لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك. وقد رواه مسلم في بعض طرقه، ولم يذكره البخاري. قال المهلب: إنما لم يذكره لأنه ليس من شرطه. ويقال: فلذلك بوب البخاري في كتابه، وقال: باب إذا حرق المشرك هل يحرق؟ ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم لما سمل أعينهم، وهو تحريق بالنار، استدل به أنه لما جاز تحريق أعينهم بالنار، ولو كانوا لم يحرقوا أعين الرعاء، أنه أولى بالجواز بتحريق المشرك إذا أحرق المسلم. وقال ابن المنير: وكان البخاري جمع بين حديث: (لا تعذبوا بعذاب الله) ، وبين هذا، بحمل الأول على غير سبب، والثاني على مقابلة السيئة بمثلها من الجهة العامة، وإن لم يكن من نوعها الخاص، وإلا فما في هذا الحديث أن العرنيين فعلوا ذلك بالرعاة. وقيل: النهي عن المثلة نهي تنزيه لا نهي تحريم.
السؤال الثالث: إن الإجماع قام على أن من وجب عليه القتل فاستسقى الماء إنه لا يمنع منه لئلا يجتمع عليه عذابان؟ الجواب: أنه إنما لم يسقوا هناك معاقبة لجنايتهم، لأنه، صلى الله عليه وسلم، دعا عليهم، فقال: عطش الله من عطش آل محمد الليلة. أخرجه النسائي: فأجاب الله دعاءه، وكان ذلك بسبب أنهم منعوا في تلك الليلة إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يراح به النبي صلى الله عليه وسلم من لقاحه في كل ليلة، كما ذكره ابن سعد، ولأنهم ارتدوا فلا حرمة لهم. وقال القاضي عياض: لم يقع نهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن سقيهم وفيه نظر لأنه، صلى الله عليه وسلم، اطلع على ذلك، وسكوته كاف في ثبوت الحكم. وقال النووي: المحارب لا حرمة له في سقي الماء ولا في غيره، ويدل عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته ليس له أن يسقيه المرتد ويتيمم، بل يستعمله ولو مات المرتد عطشاً. وقال الخطابي: إنما فعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه أراد بهم الموت بذلك، وفيه نظر لا يخفى، وقيل: إن الحكمة في تعطيشهم لكونهم كفروا بنعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجزع والوخم، وفيه ضعف.
قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
ابو قلابة: عبد الله، وقوله هذا إن كان داخلا في قول أيوب بأن يكون مقولاً له يكون داخلا تحت الإسناد، وإن كان مقول البخاري يكون تعليقا منه. وقال بعضهم: وهذا قاله أبو قلابة استنباطاً، ثم قال: وليس موقوفا على أبي قلابة كما توهمه بعضهم. قلت: كلامه متناقض لا يخفى. قوله: (سرقوا) إنما أطلق عليهم سراقاً لأن أخذهم اللقاح سرقة لكونه من حرز بالحافظ. قوله: (وحاربوا الله ورسوله) وأطلق عليهم محاربين لما ثبت عند أحمد من رواية حميد عن أنس، رضي الله تعالى عنه، في أصل الحديث، وهربوا محاربين.

234 - حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال أخبرنا أبو النياح يزيد بن حميد أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل أن يبنى المسجد في مرابض الغنم..
هذا أحد حديثي الباب، وهو مطابق لآخر الترجمة.
بيان رجاله وهم أربعة: آدم بن أبي اياس، وشعبة بن
(3/156)
الحجاج، تقدما في كتاب الإيمان، وابو التياح؛ بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة، واسمه يزيد، تقدم في باب: ما كان النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، يتخولهم.
بيان لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: أن رواته ما بين خراساني وكوفي وبصري.
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا عن آدم، وفي الصلاة عن سليمان بن حرب. وأخرجه مسلم في الصلاة مختصرا، كما ههنا عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه وعن يحيى بن حبيب. وأخرجه الترمذي فيه عن محمد بن بشار عن يحيى القطان، وعن آدم في المغازي عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه، وعن أبي بكر عن عبيد بن سعيد، وعن محمد ابن الوليد عن غندر، خمستهم عن شعبة عنه به. وأخرجه النسائي في العلم عن بنداربه.
بيان لغته قد مر في أول الباب، وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي، فإنه قال: لا إكراه الصلاة في مرابض الغنم إذا كان سليما من أبعارها وأبوالها، وممن روى عنه إجازة ذلك، وفعله ابن عمر وجابر وأبو ذر والزبير والحسن وابن سيرين والنخعي وعطاء. وقال ابن بطال: حديث الباب حجة على الشافعي، رضي الله عنه، لأن الحديث ليس فيه تخصيص موضع من آخر، ومعلوم أن مرابضها لا تسلم من البعر والبول، فدل على الإباحة وعلى طهارة البول والبعر. قلت: قد استدل به من يقول بطهارة بول المأكول لحمه وروثه، وقالوا: لأن المرابض لا تخلو عن ذلك، فدل على أنهم كانوا يباشرونها في صلواتهم فلا تكون نجسة. وأجاب مخالفوهم باحتمال وجود الحائل، ورد عليهم بأنهم لم يكونوا يصلون على حائل دون الأرض، ورد عليهم بأنه شهادة على النفي وأيضًا فقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حصير في دارهم، وصح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه، عليه السلام، كان يصلي على الخمرة. وقال ابن حزم: هذا الحديث يعني حديث الباب منسوخ لأن فيه أن ذلك كان قبل أن يبني المسجد، فاقتضى أنه في أول الهجرة، ورد عليه بما صح عن عائشة، رضي الله عنها، أنه، صلى الله عليه وسلم: (امرهم ببناء المساجد في الدور، وأن تطيب وتنظف) . رواه أبو داود وأحمد وغيرهما، وصححه ابن خزيمة وغيره، ولأبي داود نحوه من حديث سمرة، وزاد: وإن تطهرها، قال: وهذا بعد بناء المسجد، وما ادعاه من النسخ يقتضي الجواز ثم المنع، ويرد هذا أذنه، عليه السلام، وفي الصلاة في مرابض الغنم. وفي (صحيح ابن حبان) عن أبي هريرة، قال: رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن لم تجدوا إلا مرابض الغنم وأعطان الإبل فصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل. قال الطوسي والترمذي: حسن صحيح. وفي (تاريخ نيسابور) من حديث أبي حبان عن ابي زرعة عنه مرفوعا: (الغنم من دواب الجنة فامسحوا رغامها وصلوا في مرابضها) . وعند البزار في (مسنده) : (أحسنوا إليها وأميطوا عنها الأذى) . وفي حديث عبد الله بن المغفل: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين) . قال البيهقي) كذا رواه جماعة. وقال بضعهم: كنا نؤمر، ولم يذكر النبي، صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: (إذا أدركتكم الصلاة وأنتم في مراح الغنم فصلوا فيها، فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتكم الصلاة وأنتم في أعطان الإبل فاخرجوا منها فإنها جن خلقت من الجن. ألا ترى أنها إذا نفرت كيف تشمخ بأنفها) . وفي مسند عبد الله بن وهب البصري عن سعيد بن أبي أيوب عن رجل حدثه عن ابن المغفل: (نهى النبي، عليه الصلاة والسلام، أن يصلي في معاطن الإبل، وأمر أن يصلي في مراح البقر والغنم) . وعند ابن ماجه بسند صحيح من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، مرفوعا: (لا يصلي في أعطان الإبل، ويصلي في مراح الغنم) . وعند ابي القاسم بسند لا بأس به عن عقبة بت عامر: (صلوا في مرابض الغنم) . وكذا رواه ابن عمر وأسيد بن حضير، وعند ابن خزيمة من حديث الراء: (سئل، صلى الله عليه وسلم، عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة) . وقال ابن المنذر: يجوز الصلاة أيضا في مراح البقر لعموم قوله، عليه الصلاة والسلام: (أينما أدركتك الصلاة فصل) . وهو قول عطاء ومالك. قلت: ذهل ابن المنذر عن حديث عبد الله بن وهب الذي ذكرناه آنفا حتى استدل بذلك، فلو وقف عليه لاستدل به. والله تعالى أعلم.
(3/157)
67 - (باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء)

أي: هذا باب في بيان حكم وقوع النجاسة في السمن والماء، فكلمة: ما، مصدرية وكلمة: من بيانية. وقال بعضهم: باب ما يقع ... الخ. أي: هل ينجسهما أم لا؟ أو: لا ينجس الماء إلا إذا تغير دون غيره. قلت: لا حاجة إلى هذا التفسير، فكأنه لما خفي عليه المعنى الذي ذكرناه قدر ما قدره.
فان قلت: ما وجه المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله؟ قلت: من حيث إن في هذا الباب السابق ذكر بول ما يؤكل لحمه، والبول في نفسه نجس، وكذلك في هذا الباب ذكر الفأرة التي هي نجس، وذكر الدم كذلك والإشارة إلى أحكامهما على ما جاء من السلف ومن الحديث.
وقال الزهري لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم أو ريح أولون

الزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب الفقيه المدني، نزيل الشام، ثم الكلام فيه على أنواع. الأول: أن هذا تعليق من البخاري، ولكنه موصول عن عبد الله بن وهب في مسند: حدثنا يونس عن ابن شهار أنه قال: كل ما فضل مما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك طعمه ولا لونه ولا ريحه، فلا بأس أن يتوضأ به. وورد في هذا المعنى حديث عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) . روايه ابن ماجه: حدثنا محمود ابن خالد والعباس بن الوليد الدمشقيان قال: حدثنا مروان بن محمد حدثنا رشدين، أخبرنا معاوية بن صالح عن راشد ابن سعد عن أبي أمامة، رضي الله عنه، وقال الدراقطني: إنما يصح هذا من قول راشد بن سعد ولم يرفعه غير رشدين. قلت: وفيه نظر، لأن أبا أحمد بن عدي رواه في (الكامل) من طريق أحمد بن عمر عن حفص بن عمر حدثنا ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن أبي أمامة فرفعه. وقال: لم يروه عن ثور إلا حفص. قلت: وفيه نظر أيضا، لأن البيهقي رواه من حديث ابي الوليد عن الساماني عن عطية بن بقية بن الوليد عن أبيه عن ثور، وقال البيهقي: والحديث غير قوي إلا أنا لا نعلم في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة خلافًا.
النوع الثاني في معناه: قوله: (لا بأس) أي: لا حرج في استعمال ماء مطلقًا ما لم يغيره طعم أو ريح أو لون. وقوله: (لم يغيره) ، جملة من الفعل والمفعول. وقوله: (طعم) بالرفع فاعله، وحاصل المعنى: كل ماء طاهر في نفسه ولا يتنجس بإصابة الأذى، أي: النجاسة إلا إذا تغير أحد الأشياء الثلاثة منه، وهي: الطعم والريح واللون. فان قلت: الطعم أو الريح أو اللون هو المغير، بفتح الياء آخر الحروف المشددة، لا المغير على صيغة الفاعل، والمغير، بالكسر هو الشيء النجس الذي يخالطه، فكيف يجعل الطعم أو الريح أو اللون مغيراً على صيغة الفاعل على ما وقع في رواية البخاري، وأما الذي في عبارة عبد الله بن وهب فهو على الأصل. قلت: المغير في الحقيقة هو الماء، ولكن تغييره لما كان لم يعلم إلا من جهة الطعم أو الريح أو اللون فكأنه صار هو المغير، وهو من قبيل ذكر السبب، وإرادة المسبب. وقال الكرماني: لا بأس، أي لا يتنجس الماء بوصول النجس إليه قليلا أو كثيرا، بل لا بد من تغير أحد الأوصاف الثلاثة في تنجسه، والمراد من لفظ: ما لم يغيره طعمه، ما لم يتغير طعمه. فنقول: لا يخلو إما أن يراد بالطعم، المذكور في لفظ الزهري، طعم الماء أو طعم الشيء المنجس، فعلى الأول معناه: ما لم يغير الماء عن حاله التي خلق عليها طعمه، وتغيره طعمه لا بد أن يكون بشيء نجس، إذا البحث فيه. وعلى الثاني معناه: ما لم يغير الماء طعم النجس، ويلزم منه تغير طعم الماء، إذ لا شك أن الطعم هو المغير للطعم، واللون للون، والريح للريح، إذ الغالب أن الشيء يؤثر في الملاقي بالنسبة، وجعل الشيء متصفاً بوصف نفسه، ولهذا يقال: لا يسخن إلا الحار، ولا يبرد إلا البارد، فكأنه قال: ما لم يغير طعم الماء طعم الملاقي النجس، أو لا بأس، معناه: لا يزول طهوريته ما لم يغيره طعم من الطعوم الطاهرة او النجسة. نعم، إن كان المغير طعماً نجسا ينجسه، وإن كان طاهرا يزيل طهوريته لا طهارته، ففي الجملة في اللفظ تعقيد. انتهى. قلت: تفسيره هكذا هو عين التعقيد لأنه فسر قوله: (لا بأس) بمعنيين: أحدهما بقوله: (أي لا يتنجس) إلى آخره، والآخر بقوله: (لا يزول طهوريته) . وكلا المغنيين لا يساعدهما اللفظ، بل هو خارج عنه. وقوله: (المغير للطعم هو الطعم) غير سديد،
(3/158)
Previous Post
Next Post
Related Posts