عمدة القاري ج٣ ص٢٧

بيان استنباط الاحكام الأول: أن فيه مس الركنين اليمانيين: قال القاضي عياض: اتفق الفقهاء اليوم على أن الركنين الشاميين وهما مقابلا اليمانيين لا يستلمان، وإنما كان الخلاف فيه في العصر الأول بين بعض الصحابة وبعض التابعين، ثم ذهب الخلاف. وتخصيص الركنين اليمانين بالاستلام لأنهما كانا على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بخلاف الركنين الآخرين، لأنهما ليسا على قواعد ابراهيم صلى الله عليه وسلم، ولما ردهما عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم استلمها. أيضا، لو بني الآن كذلك استلمت كلها اقتداء به، صرح به القاضي عياض. وركن الحجر الأسود خص بشيئين: الاستلام والتقبيل، والركن الآخر خص بالاستلام فقط، والآخران لا يقبلان ولا يستلمان. وكان بعض الصحابة، رضي الله تعالى، عنهم والتابعين يمسحهما على وجه الاستحباب. وقال ابن عبد البر: روي عن جابر وأنس وابن الزبير والحسن والحسين، رضي الله تعالى عنهم، أنهم كانوا يستلمون الأركان كلها. وعن عروة مثل ذلك. واختلف عن معاوية وابن عباس في ذلك. وقال أحدهما: ليس بشيء من البيت مهجورًا، والصحيح عن ابن عباس أنه كان يقول: إلا الركن الأسود واليماني، وهما المعروفان باليمانيين. ولما رأى عبيد بن جريج جماعة يفعلون على خلاف ابن عمر سأله عن ذلك. الثاني: في حكم النعال السبتيه، قال ابو عمر: لا أعلم خلافًا في جواز لبسها في غير المقابر، وحكي عن ابن عمر أنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لبسها، وإنما كره قوم لبسها في المقابر لقوله صلى الله عليه وسلم لذلك الماشي بين المقابر: (ألق سبيتك) . وقال قوم: يجوز ذلك ولو كان في المقابر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اذا وقع الميت في قبره انه يسمع قرع نعالهم) وقال الحكيم الترمذي في (نوادر الاصول) إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال لذلك الرجل: (إلق سبتيتك) لأن الميت كان يسأل، فلما صر نعل ذلك الرجل شغله عن جواب: الملكين، فكاد يهلك لولا أن ثبته الله تعالى. الثالث: الصبغ بالصفرة، ولفظ الحديث يشمل صبغ الثياب وصبغ الشعر، واختلفوا في المراد منهما، فقال القاضي عياض: الأظهر أن المراد ضبغ الثياب لأنه أخبر أنه صلى الله عليه وسلم صبغ، ولم يقل: إنه صبغ شعره. قلت: جاءت آثار عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، بين فيها تصفير ابن عمر لحيته، واحتج بأنه، عليه الصلاة والسلام، كان يصفر لحيته بالورس والزعفران، أخرجه أبو داود، وذكر أيضا في حديث آخر احتجاجه به بأنه، عليه الصلاة والسلام، كان يصبغ بهما ثيابه حتى عمامته، وكان أكثر الصحابة والتابعين يخضب بالصفرة منهم أبو هريرة وآخرون، ويروى ذلك عن علي، رضي الله عنه. الرابع: فيه حكم الإهلال، واختلف فيه، فعند البعض: الأفضل أن يهل لاستقبال ذي الحجة، وعند الشافعي: الأفضل أن يحرم إذا انبعثت راحلته، وبه قال مالك وأحمد، وقال ابو حنيفة، رضي الله تعالى عنه: يحرم عقيب الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته، وقبل قيامه، وفيه حديث من رواية ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما. قال بعض الشراح: وهو ضعيف. قلت: حديث ابن عباس رواه أبو داود: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب يعني ابن ابراهيم، قال: حدثنا ابي عن ابن اسحاق، قال: حدثنا خصيف ابن عبد الرحمن الجزري عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: يا ابن العباس؛ عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب. فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة فمن معنا هناك اختلفوا. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجبه في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه، ثم ركب، فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالًا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علا شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا شرف البيداء، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا شرف البيداء. قال سعيد: فمن أخذ بقول ابن عباس أهل في مصلاة إذا فرغ من ركعتيه وأخرج الحاكم في (مستدركه) نحوه، ثم قال: هذا الحديث صحيح على شرط مسلم، مفسر في الباب، ولم يخرجاه، وأخرجه الطحاوي ثم قال: وبين ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، الوجه الذي منه جاء الاختلاف، وأن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم الذي ابتدأ بالحج ودخل به فيه كان في مصلاة، فبهذا نأخذ. فينبغي للرجل إذا أراد الإحرام أن يصلي ركعتين ثم يحرم في دبرهما، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وقد ذكر الطحاوي هذا بعد أن ذكر اختلاف العلم
Previous Post
Next Post
Related Posts